استمع إلى الملخص
- تعتمد إسرائيل على استراتيجية الأرض المحروقة، مستهدفةً المدنيين والبنية التحتية، بما في ذلك المستشفيات وفرق الإغاثة، في انتهاك للقانون الدولي الإنساني.
- رغم تقديم لبنان شكاوى عديدة إلى مجلس الأمن، لم تسفر عن نتائج ملموسة، لكنها تساهم في توثيق الجرائم الإسرائيلية وتعزيز موقف لبنان مستقبلاً.
تعدّدت جرائم الحرب ومنفذها واحد، وهو احتلال باتت مجازره يومية بحق المدنيين في لبنان وسلوكه مركَّز على التهجير، والتدمير، وعسكرة المناطق المستهدفة، مستغلاً صمت المجتمع الدولي على ممارساته العلنية، وانتهاكاته الخطيرة للقانون الدولي الإنساني.
فمنذ 23 سبتمبر/ أيلول الماضي، يكثف جيش الاحتلال من هجماته على نطاقٍ واسعٍ من لبنان، وذلك بعد إعلانه بدء عملية "سهام الشمال"، فسجّلت خلال شهر فقط حصيلة لم يشهدها 11 شهراً من الحرب "الحدودية"، و"خروقات قواعد الاشتباك"، إذ استشهد ما يزيد عن ألفي شخص، وجُرح أكثر من 9 آلاف، بينما لم يتخطَّ العدد منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 الـ570 على صعيد الشهداء، والـ2500 بالنسبة إلى الجرحى.
وبلغ إجمالي عدد الضحايا منذ بدء العدوان 2546 شهيداً و11862 جريحاً، بحسب أحدث حصيلة أعلنت عنها وزارة الصحة اللبنانية أمس الثلاثاء. وخلال شهرٍ واحدٍ، هُجِّر أكثر من مليون مواطن، ودُمِّر ما يزيد عن 3 آلاف مبنى، وجرى نسف العديد من الأحياء في بيروت والبقاع والجنوب عبر الأحزمة النارية، مع تسوية بعض القرى أرضاً، إلى جانب القضاء على مساحات خضراء شاسعة، وذلك في ظلّ تطبيق إسرائيل استراتيجية الأرض المحروقة.
ووسَّعت اسرائيل في هذه الفترة من دائرة أهدافها، التي لم تقتصر على اغتيال القياديين في محور المقاومة، ولا سيما المنتمين لحزب الله، على رأسهم الأمين العام حسن نصر الله في 27 سبتمبر الماضي، وارتكاب مجزرتي أجهزة الاتصالات في 17 و18 سبتمبر، وصولاً إلى استهداف فروع جمعية القرض الحسن، بل طاولت كذلك النازحين والمجتمعات المضيفة المعروفة بأنها خارج نطاق الاشتباكات، وحتى تلك التي تُعد "محسوبة" على طوائف أخرى تبعاً للديموغرافيا اللبنانية، إلى جانب شملها الأطقم الصحية والمستشفيات، والمعابر الرسمية الحدودية، والمسعفين، وفرق الصليب الأحمر والدفاع المدني، والمزارعين والرعاة، ووسائل الإعلام، وغير ذلك، من دون أن تستثني قوات حفظ السلام الأممية، فيما استهدفت قطاعات عدة، بما فيها المياه والكهرباء والاتصالات.
"المفكرة القانونية" تفنّد جرائم الحرب التي ارتكبها الاحتلال
في الإطار، تقول المحامية غيدة فرنجية من منظمة المفكرة القانونية لـ"العربي الجديد"، إنه "لا يمكن إحصاء عدد جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في عدوانها على لبنان، خصوصاً في ظلّ صعوبة العمل ميدانياً في مناطق عدة تتعرّض لقصف إسرائيلي متواصل، لكن هناك سلوكٌ ممنهجٌ كاملٌ يشكّل مجموعة من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في ظلّ عدوان مستمرّ أيضاً، وتوسّع ما بعد 17 سبتمبر الماضي بتفجيرات أجهزة الاتصال، ومن ثم 23 سبتمبر ويتواصل ليومنا هذا"، لافتة إلى أنّ هناك نمطاً يعتمده الاحتلال باستهدافه المدنيين والمنازل عامةً، وعدم التمييز بين المدني وغير المدني، بحيث يصنّف جميع الناس إما بمقاتلين أو دروع بشرية خلافاً لقوانين الحرب.
لا لبس في قانون الحرب: المدنيون ليسوا أهدافًا مشروعة بغض النظر عن انتماءاتهم#العدوان_الإسرائيلي_على_لبنان
— Legal Agenda (@Legal_Agenda) October 21, 2024
1/6 pic.twitter.com/9Qz8ubVPKn
وتضيف "هناك وقائع معينة حصلت ويمكن توصيفها باعتبارها جريمة حرب، بالاستناد إلى أدلة كافية تتوفر لدينا، منها مثلاً معلومات مرتبطة بفيديوهاتٍ دقيقة متداولة، أو منشورة عبر وسائل الإعلام، أو إفادات الناس التي كانت موجودة في الأماكن المُستهدفة، وغيرها". وتُقدّم "المفكرة القانونية" سلسلة إخبارات حول جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل، في محاولة لتوثيق هذه الجرائم تمهيداً لإجراء تحقيق مستقلّ وشفاف حولها، وتستند هذه الإخبارات إلى المعلومات الأولية المتوفّرة في تاريخ نشرها، على أمل أن تساهم في الجهود الوطنية اللازمة لتوثيق جرائم الحرب.
وتلفت فرنجية إلى أنّ الخطوط العريضة لهذه الجرائم، التي كانت تخلو من أهدافٍ عسكرية واضحة، تتمثل باستهداف المدنيين، والطواقم الطبية والصحية والإغاثية، التي تتمتّع بحماية دولية خاصة يُمنع استهدافها، علماً أنّ الحماية تطاول أيضاً الجهات الإغاثية والإسعافية والصحية والطبية المرتبطة بأحد أطراف النزاع، على سبيل المثال، الهيئة الصحية الإسلامية، التي لها ارتباط بحزب الله، والتي تتمتع بالحماية نفسها التي يستفيد منها الصليب الأحمر اللبناني.
كذلك، وفق قوانين الحرب، تطاول الحماية وسائل النقل الطبية، طالما أنها مخصّصة للأغراض الطبية والإغاثية حصراً، ويُحظر منع أو عرقلة وصول المساعدات الطبية إلى الجرحى، وتلزم أطراف النزاع بتسهيل مرور فرق الإغاثة الإنسانية إلى المناطق المتضرّرة.
وينص القانون الدولي الإنساني في النزاعات المسلحة غير الدولية على "وجوب احترام وحماية أفراد الخدمات الطبية والوحدات الطبية ووسائل النقل الطبي، من أجل ضمان أداء الأنشطة الطبية". أمّا في النزاعات المسلحة الدولية، فيحظر القانون الدولي الإنساني صراحة الأعمال الانتقامية ضد الأشخاص المحميين بموجب اتفاقيات جنيف، بما في ذلك الجرحى والمرضى والغرقى (المنكوبون في البحار)، وأفراد الخدمات الطبية والدينية، والمقاتلون الواقعون في الأسر، والمدنيون في الأرض المحتلة.
منهجية التدمير لدى إسرائيل
وتعتمد إسرائيل منهجية تدمير القطاع الإغاثي في لبنان كما في غزة، وإعاقة عمله، وفي واقعة توقفت عندها "المفكرة القانونية"، استهدف الاحتلال فرق الإنقاذ والإغاثة بشكل مباشر، ومنع وصولها إلى المواقع المستهدفة في أكثر من منطقة في لبنان، وقتل أكثر من 130 عنصراً من طواقمه. وتقول فرنجية إنّ إسرائيل تعتمد أيضاً منهجاً كالذي تعتمده في غزة، و"هي عسكرة مناطق كاملة، إذ إنّ القانون الدولي واضحٌ، بأن هناك أهدافاً عسكرية وأخرى غير عسكرية، لكن السردية الإسرائيلية تتمثل في التعامل مع الأهداف المدنية وكأنها عسكرية، وذلك خلافاً للقانون الدولي".
وتتوقف فرنجية عند وقائع كثيرة في إطار التجاوزات، منها استهداف سيارات الإسعاف، ومنع وصولها إلى مناطق معينة، واستهداف مستشفيات، والدفاع المدني، وفوج الإطفاء، سواء آليات تابعة لهم خلال توجههم إلى الأماكن المستهدفة للقيام بأعمال الإنقاذ والإغاثة، أو مقراتهم، إضافةً إلى استهداف قوات الأمم المتحدة المؤقتة العاملة في الجنوب (يونيفيل)، التي بدورها تتمتع بحماية خاصة تحت القانون الدولي، ويُعامل عناصرها معاملة المدنيين، طالما أنهم لا يشاركون بشكل مباشر في العمليات القتالية والعدائية، وقد أكدت في بيان صريح وواضح أن الجيش الإسرائيلي استهدف قواتها بشكل متعمّد، ما يشكل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي الإنساني، ولقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 الصادر عام 2006.
كذلك، هناك استهدافات للمنشآت الرسمية، والثقافية والتاريخية، ومنها، قصف بلدية النبطية، وسوق البلدة، إضافة إلى نسفِ حيٍّ بأكمله في بلدة محيبيب، وضرب حيٍّ تراثي تاريخي فيها، إلى جانب استهداف الناقل الرئيسي لمياه نهر الليطاني ما جعله خارج الاستثمار، وهذا يصبّ في إطار ضرب كل مقومات الحياة الممكنة في هذه المناطق.
هدم المباني في لبنان وتسويتها بالأرض
وتتوقف فرنجية أيضاً عند نوع آخر من الجرائم، التي تتمثل بهدم المباني بشكل كامل وتسويتها بالأرض، ويكون ساكنوها من المدنيين، وغالباً من النازحين، كما حصل في أيطو، والمعيصرة، وعين الدلب، وبعدران، والكرك، والبسطة والنويري في بيروت، وغيرها من المناطق سواء شمالاً أو جنوباً أو بقاعاً وفي جبل لبنان، والعاصمة، وتبعاً لجميع المعلومات المتوفرة، لم يكن هناك أي هدف عسكري لهذه الاستهدافات. وتلفت فرنجية إلى نقطة بغاية الأهمية، ألا وهي أنّه حتى لو كان هناك هدف عسكري "مشروع" للعمليات العدائية، فيجب أن يكون هناك توازن بين الفائدة العسكرية من الاستهداف والضرر المدني.
وتشرح أكثر من نقطة في هذا الإطار؛ أولها، أن الشخص الذي يُعتبر عضواً أو مسؤولاً في حزب الله، ليس هدفاً عسكرياً، بل أولئك الذين تكون وظيفتهم المستمرّة المشاركة بشكلٍ مباشر في الأعمال القتالية، كما لا يفقد المدنيون والطواقم الطبية (كالهيئة الصحية الإسلامية وكشافة الرسالة)، وحتى الإعلامية (كالمنار)، هذه الحماية بمجرّد انتمائهم إلى هيئات مدنية تابعة لمجموعة مسلحة منظمة (أو حزب الله).
وتلفت فرنجية إلى أن مفهوم الهدف العسكري محصور جداً في القانون الدولي، بيد أن إسرائيل تعمد إلى تحوير كل مفاهيم الحرب وتشويه مبادئها، لمحاولة تبرير جرائمها، وهي تستخدم بالتالي خطاب القانون الدولي لكنها تشوّهه كلياً سواء في غزة أو لبنان. من ناحية ثانية، توضح فرنجية أنه في حال كنا أمام هدف عسكري "مشروع" للعمليات العدائية، فيجب أن يكون هناك موازنة بين الفائدة العسكرية والضرر المدني، بمعنى أنه لا يمكن تدمير مبنى بكامله، وإبادة عائلات مثلما حصل في البسطة والنويري وأيطو، وغيرها، لتحقيق هدفٍ عسكري، لذلك هناك ضرب إسرائيلي فاضح لمبدأ التناسب والموازنة بين الأضرار المدنية والمنفعة العسكرية.
كما أن إسرائيل تضرب الإجراءات الوقائية الواجب اتخاذها لتخفيف الضرر عن المدنيين، ولو أن اعتماد هذه الوسائل لا يعفي من المسؤولية القانونية، لكنها بكل الأحوال لا تتقيد بها، حتى الإنذارات التي تصدرها على صعيد الإخلاء غير واضحة ولا تستوفي الشروط القانونية، على سبيل المثال، فهي لا تصدر في وقت مناسب، بل في ساعات متأخرة بعد منتصف الليل، كما لا تحدد مهلاً زمنية للإخلاء، بل أحياناً تنفذ الغارات بعد أقل من 15 دقيقة على صدور الإنذار، عدا عن استخدام مناطق عقارية رسمية غير متعارف عليها.
وفي إطار جرائم الحرب أيضاً، غاب الهدف العسكري المشروع في استهداف فروع القرض الحسن في الضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع والجنوب، كما لم تصرّح إسرائيل عن أي هدف عسكري مشروع لهذه الهجمات، ففي حين ادّعى المتحدّث باسم جيش الاحتلال أنّ الجمعية تموِّل نشاطات حزب الله العسكرية وتستلم أموالاً من إيران، لم يَثبت وجود أي دور عسكري مباشر لهذه المؤسسة، بحسب ما أشارت إليه "المفكرة القانونية"، مؤكدة أن الأعيان المالية التابعة لجهة من أطراف النزاع لا تفقد حصانتها المدنية ولا تشكّل هدفاً مشروعاً للأعمال العدائية، كما لا يؤثّر تصنيف المؤسّسة كمنظمة إرهابية بحصانتها المدنية.
شكاوى لبنان أمام مجلس الأمن
وعلى الرغم من تقدّم لبنان بالعديد من الشكاوى حول الاعتداءات الإسرائيلية إلى مجلس الأمن فإنها لم تؤدِّ إلى أي نتيجة، وهنا تقول فرنجية إنّ "الشكاوى هذه ذات طابع سياسي، وتُقام أمام مرجع سياسي، وبالتالي، لا تؤدي إلى قيام دعوى قضائية ضد إسرائيل، لا سيما أنّ لبنان لم يقدم على مقاضاة إسرائيل بشكل مباشر". في المقابل، تلفت فرنجية إلى أنّ "الشكاوى لها أهمية لناحية حفظها في السجلات الرسمية للأمم المتحدة، ما يمنحها دوراً توثيقياً، إلى جانب فرض وجهة نظر لبنان وروايته حول الجرائم الإسرائيلية التي تُرتكب بحقه، من هنا تتمتع الشكاوى بأهمية توثيقية كبيرة، ولتحضير أي ملف في المستقبل".