بعدما أملت النساء المغربيات صانعات الفخار في تلك القرى بأن تتحسّن أحوالهنّ، خابت ظنونهنّ. كلّ الوعود التي أطلقت أمامهنّ، هرَب منها مطلقوها.
بلاد المغرب تُعرف بطيبة أهلها وحفاوتهم في استقبال زائريهم، إلا أنّ الأمر يبدو مغايراً ومقلقاً في القرى التابعة لقبيلة "فرّان علي"، حيث تترامى البيوت على بعد كيلومترات من البحر الأبيض المتوسط. طريق ترابي طويل يؤدّي إلى تلك القرى التي شُيّدت من الطين الأحمر وقليل من الإسمنت. ولأنّ المواصلات العامة لا تستطيع بلوغها، فقد انقطع أطفال كثيرون من أبنائها عن الدراسة، الأمر الذي يزيد من عزلة أهلها، علماً أنّهم يسكنون على مقربة من مدينة واد لاو التي تشهد صيفاً إقبالاً سياحياً كبيراً.
في زيارتنا الأولى للمكان، أفادنا صاحب دكان بأنّنا وصلنا إلى فرّان علي التي تشتهر بصناعة الفخار منذ عقود طويلة. في الجوار، كانت امرأة تطحن التراب الأحمر بيدَيها وكذلك بعصا طويلة. عندما سمعتنا نتحدّث إلى صاحب الدكان، اختفت عن الأنظار. حاولنا انتظارها لتظهر من جديد لنجري معها مقابلة، من دون جدوى. في الجهة المقابلة، كانت امرأة ثانية تراقبنا من بعيد، في حين أنّ أخرى كانت تغسل ملابس عائلتها عند نبع المياه الوحيد في القرية. توجّهنا صوبهما وسألنا تلك الواقفة عند النبع عن جمعية للنساء صانعات الفخار. نفت وجود مثل هذه الجمعية، لكنّها نصحتنا بطرق أبواب الناس والسؤال عن الفخار المحلي. أمّا تلك التي كانت تراقبنا، فرحّبت بنا بحفاوة ودعتنا إلى ورشتها الصغيرة التي خصصتها لصناعة الفخار أمام منزلها.
كان الجوّ مشمساً في ذلك اليوم، وهو ما دعا أهل القرية جميعهم إلى وضع أوانيهم الفخارية ذات الأشكال المختلفة تحت الشمس. جلسنا مع المرأة، وهي حامل ولها عدد من الأولاد، فطلبت من طفلتها تحضير الشاي. دقائق قليلة ووصل زوجها طالباً منّا عدم إجراء أيّ مقابلة صحافية مع زوجته وعدم التقاط صور لها، على الرغم من محاولات زوجته لتهدئة غضبه. قال لنا إنّه "معقّد نفسياً"، فانسحبنا بهدوء معتذرين منه.
مضينا صعوداً في اتجاه أعلى الربوة، فبيوت قبيلة فرّان علي تقع كلّها على رواب صخرية. لكنّ النساء رحنَ يتهرّبنَ من المقابلات، قبل أن تعبّر إحداهنّ عن غضبها قائلة: "عملنا متعب جداً ولا أحد يلتفت إلى معاناتنا الجسدية والمعنوية". تضيف وهي تسأل: "ماذا أقول لكِ؟ ألا ترين كيف هي حالنا؟ ألا ترين ماذا نرتدي وكيف أنّنا مجبولات بالتراب؟ هل تريدين رؤية المكان الذي نأتي منه بالتراب؟ هل يلتفت إليّ أحد في حال وقع فوق رأسي فرن الطين؟". يُذكر أنّهنّ يحرقنَ الطين في ذلك الفرن، بعد تشكيله وتجفيفه، وهو متوفّر أمام كلّ منزل من منازل القرية. وبعد محاولات لجرّها إلى الحديث أكثر، تقول إنّ "زائرين أجانب حضروا إلى القرية ووعدوا بمساعدتنا، كذلك الأمر بالنسبة إلى جمعيات عدّة، لكنّ شيئاً لم يحصل". وهذا ما دفع النساء بالتالي إلى التزام الصمت أمام كلّ من يزور قريتهنّ.
تتخصص نساء فرّان علي عادة بصنع الفخار وفق مهارات محلية اكتسبنها من الأجداد، من دون أن يطوّرنَها. وهؤلاء النساء، مهما كان وضعهنّ الصحي أو الاجتماعي، مسؤولات عن إحضار التراب الأحمر الخاص بالفخار صباح كل يوم، علماً أنّه نوعان واحد يُعجَن وواحد خاص للتلوين. بالتالي، تصطحب النساء معهنّ حميرهنّ ومعاولهنّ الصغيرة ليحفرنَ الأرض ويستخرجنَ ترابها. لكنّ لطيفة بوخوث، التي تسكن في خارج القرية، تشير لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "في الحفر مخاطرة كبيرة، فهو أودى بحياة كثيرات وكثيرين يفوق عددهم المائة"، مضيفة أنّ "صوت القرية ومعاناتها ومعرفتها المحدودة بالحفر ومخاطره لم تصل إلى خارج القرية".
بعد إحضار التراب، تعمد النساء إلى طحنه بطرق تقليدية، مستخدمات أذرعتهنّ وعصيهنّ، قبل أن يغربلنَه ويعجنَّه. بعدها، يجلسنَ في ورشهنّ الصغيرة التي يمكن ملاحظتها أمام بيوتهنّ ويبدأن بتشكيل "الطاجين" أو "فاخر النار" أو الطناجر الفخارية وغيرها، والتي تُخصَّص بمعظمها للاستعمال المنزلي. في خطوة تالية، يتركنَها تحت أشعة الشمس ليوم أو أكثر، ثمّ يضعنَ أوانيهن في الأفران الطينية التقليدية استعداداً للمرحلة الأخيرة... الشواء. تجدر الإشارة إلى أنّ أواني كثيرة تنكسر بعد المرحلة الأخيرة، ولا يمكن الاستفادة منها بعد ذلك.
غادرنا فرّان علي من دون أن نتمكّن من إجراء أيّ مقابلة، فالنساء أصررنَ على الصمت. هنّ من أسر محافظة، والأمر كان ليعرّض أسرهنّ إلى الانتقاد. وهنّ يائسات لأنّهنّ كنّ يتوقّعنَ أن تهتمّ جمعيات معيّنة بشؤونهنّ وشؤون منتجاتهنّ، لكنّ الوعود التي تلقّينَها ذهبت مع الريح، في حين يشكينَ عدم تأمين مساعدات لهنّ من مؤسسات الصناعة التقليدية.
في قرية أوشتام القريبة من فرّان علي، كانت لطيفة بوخوث تعمل مع بناتها الثلاث في تشكيل الفخار. زوجها يساعدهنّ، فهو عاطل من العمل منذ سنوات، فيجلب لهنّ التراب، وتتوقّف هنا مساعدته لهنّ. وبوخوث تحترف مهنتها هذه منذ 28 عاماً، وقد كانت أولى تجاربها في بيت عائلتها في فرّان علي عندما كانت تبلغ من العمر 16 عاماً. فهذا تقليد تتّبعه بنات تلك القرية بمعظمهنّ، أمّا في أوشتام فالمهنة محصورة بستّ نساء يتحدّرنَ من فرّان علي.
تخبر بوخوث أنّها تواجه تحديات عدّة، أوّلها البحث عن الحطب لإشعال الفرن، وهي تُمنع في أحيان كثيرة من استخدام أشجار الغابة وفقاً لقوانين الرعي الجائر. ثمّ يأتي عناء البحث عن تراب مناسب، إذ إنّها لا تملك أرضاً خاصة بها تستخرجه منها، وبعده عناء تسويق منتجاتها التي تتطلب منها العمل منذ الساعة السابعة صباحاً حتى العاشرة ليلاً. وتلفت إلى أنّها تبيعها لتاجر فخّار من المنطقة ذاتها، فهؤلاء النساء غير قادرات على تسويقها في خارج قراهنّ. كذلك تواجه بوخوث تحدّي فصل الشتاء، إذ إنّه لا يساعدها على تجفيف منتجاتها، فتبقى أسبوعاً أو أكثر من دون عمل. تجدر الإشارة إلى أنّه في حال لم تعمل المرأة يومياً، فسوف تضطر عائلتها إلى الاستدانة لتوفير الطعام والشراب والكهرباء من قرية بني قريش البعيدة. وقد استطاعت بوخوث أن تعلّم بناتها حتى الصف السادس، فالمدرسة البعيدة والطريق غير المعبّد لم تشجّعاها على إكمال تعليمهنّ. وتعلم بوخوث وغيرها من النساء أنّ مصنوعاتهنّ تُباع بثمن أغلى في مناطق أخرى، لكنّه يبدو من الصعب عليهنّ اجتماعياً وجغرافياً المطالبة بحقوقهنّ وتبديل أحوالهنّ إلى الأفضل.