القدس هي العنوان الأبرز اليوم. القدس هي قلب فلسطين المحتلة التي يحملها الجزائريون في قلوبهم وفي وجدانهم.
ما زال الجزائريون، والعالم، يتذكّرون ما حصل في السابع عشر من فبراير/ شباط من عام 2016، عندما انحاز الجمهور الجزائري إلى فريق غير فريقه الوطني وراح يشجّع المنتخب الفلسطيني، خلال مباراة في كرة القدم نُظّمت في "ملعب 5 جويلية 1962" في العاصمة الجزائرية.
وذلك الانحياز الواضح لم يكن مجرّد تضامن عاطفي عابر، بل كشف أنّ فلسطين الاسم والأرض والقضية متأصّلة في وجدان الجزائر وأهلها الذين يرفضون كلّ ظلم. وهؤلاء يرددون ما قاله الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين في أواخر ستينيات القرن الماضي: "الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة".
ما يشعر به الجزائريون تجاه الفلسطينيين لا يستند إلى روابط تُنسَب إلى العروبة أو الدم أو العقيدة أو غيرها، بل ينطلق من تشابه في تجربة شعبَين في مواجهة ظلم الاستعمار والاحتلال والسعي إلى التحرر. فالجزائريون ما زالوا يعانون من المظلمة التاريخية التي عرفتها أجيال وأجيال منهم. بالتالي، من غير المستغرب أن تبقى فلسطين والقضية الفلسطينية، تماماً كما الثورة الجزائرية ورموزها ووحدة الجزائر، من ضمن جملة الخطوط الحمر التي لا تحتمل النقاش في الشارع الجزائري. بالنسبة إلى الجزائريين، وعلى سبيل المثال لا الحصر، من غير المقبول أن يصير التطبيع وجهة نظر أو فكرة قابلة للتداول. واللافت أنّ هذا الموقف الشعبي كان له دور بارز في كبح أيّ محاولة لدى بعض النخب التي تدّعي الحداثة في الجزائر للتطبيع الثقافي أو التجاري على أقل تقدير.
إلى ذلك، من الصعوبة بمكان أن يفرّق المخيال الجزائري بين اليهودي والإسرائيلي، وما زال المجتمع الجزائري يحتفظ ببعض تعابير تؤشّر إلى عداوة فطرية لكلّ ما يرمز إلى إسرائيل. ويحدث أن يتوجّه جزائري إلى أحدهم قائلاً "أنت يهوديّ" للدلالة على أنّ سلوك ذلك الشخص شائن في أيّ مجال من المجالات.
والجزائريون يختلفون بعضهم مع بعض في سياقات سياسية وفكرية وأيديولوجية وغيرها، غير أنّ خلافاتهم تنتهي عند بعض النقاط المحسومة، ومن بينها فلسطين. فلا نجد خلافاً بين السلطة والجهات الموالية لها ومع المعارضة حول "القضية الرمز". ولا يغيب الجزائريون عن قوافل الإغاثة التي تتوجّه إلى غزّة على سبيل المثال، سواء أكانت قوافل دولية أو محلية. وفي حكاية مؤثّرة، يخبر الفنان الفلسطيني محمد عساف كيف أنّ طفلة جزائرية صغيرة سلّمته حصالة نقودها التي كانت تحوي مبلغاً مالياً صغيراً، وطلبت منه التبرّع به لأطفال غزة.
... ومقاوم فلسطيني يلتحف بالعلم الجزائري في الضفة الغربية المحتلة (عباس المومني/ فرانس برس) |
في السياق، ما زالت القضية الفلسطينية حيّة في وجدان الطلاب في الأوساط الجامعية. وثمّة تنظيم طالبي هو "الاتحاد العام الطلابي الحر" ما زال يخصّ فلسطين بلائحة خاصة في كلّ مؤتمراته وأدبياته ومرجعياته. واللافت أنّه حتى في الظروف الحالكة التي مرّت بها الجزائر، لم يتخلّف الجزائريون، أفراداً وتنظيمات ودولة، عن واجب الدفاع عن فلسطين والقدس. هم لهم في تلك المدينة المحتلة "حارة المغاربة" أو "حيّ المغاربة"، وجزء منه وقف تاريخي للجزائريين. كذلك فإنّ دعم الجزائريين لفلسطين كان سابقاً للاستقلال. فخلال الاستعمار الفرنسي، حثّ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الشباب الجزائريين على الارتباط بالقضية الفلسطينية. ولم تتأخر الجزائر ولم يتأخر الجزائريون عن أيّ محطة من محطات تلك القضية، قضية العرب والمسلمين.
وكان القيادي الفلسطيني خليل الوزير المعروف باسم أبو جهاد، قد أقرّ أنّ أوّل مكتب لحركة فتح تأسس في الجزائر، وأنّ الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أعلن من العاصمة الجزائرية قيام دولة فلسطين في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1988. وكان ذلك يوماً مشهوداً، لا سيّما أنّ الجزائر أتاحت للفلسطينيين عقد اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني، على الرغم من أنّها كانت تمرّ بظروف سياسية واقتصادية صعبة بعد شهر فقط على أحداث أكتوبر/ تشرين الأول الدامية.
تجدر الإشارة إلى أنّه في عام 1982، عندما تقرّر خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، استقبلت الجزائر عدداً كبيراً من المقاومين ووفّرت لهم ثكنات خاصة في منطقة البيض في أقصى غرب الجزائر. كذلك درس في الجزائر عشرات الطلاب الفلسطينيين وتمتّعوا بالحقوق نفسها التي يتمتّع بها الطالب الجزائري، في حين جرى تكوين كوادر عسكرية وأمنية فلسطينية عدّة. وقد احتضنت الجزائر عدداً من الرموز الفلسطينية، من أمثال المناضلة ليلى خالد التي أقامت لفترة زمنيّة فيها.