التنمّر في المدارس
ظاهرة التنمر في المدارس ليست معزولة داخل الجسم التربوي، بل تستمد قوتها واستمرارها من العنف والعدوانية المستشرية في البيئة المحيطة بالمتنمرين. فأين تجد المتنمر اسأل عن واقعه الأسري والعلاقات العائلية التي يتربى وسطها، وابحث في أساليب التوجيه والتعامل المعتمدة في مدرسته، ولا تتجاهل تأثير ما يراه أو يسمعه عن البلطجة والبلطجيين إما مباشرة في الحي حيث يسكن، أو عبر الإعلام والإنترنت. ويضاف إلى ذلك كله السمات الشخصية والنفسية التي تساعد على تطوير صفة العدوانية لدى المتنمر.
تقديرات "اليونسكو" الصادرة عام 2017 تشير إلى أن من بين أكثر من مليار طفل في المدارس حول العالم، يتعرض ربعهم لأعمال البلطجة والعنف المدرسي. وإن مراهقا واحدا من أصل ثلاثة مراهقين، في أوروبا وأميركا الشمالية تعرضوا للتنمر في المدارس، مرة واحدة على الأقل. وإن الأكثر عرضة لخطر التنمر هم في كثير من الأحيان من الفقراء أو الأقليات العرقية أو اللغوية أو الثقافية.
للاطلاع عن قرب على ظاهرة التنمر في المدارس، حاورت مجموعة من خريجي كلية الصحة العامة في الجامعة اللبنانية في الفرع السادس/ عين وزين، قسم العمل الصحي والاجتماعي. وعرض الخريجون وداد نعيم، وسناء أبو غادر، وقاسم حديفة لـ"العربي الجديد" نتائج بحثهم عن الظاهرة في عدد من المدارس، تحت عنوان "دور الأخصائي الاجتماعي في الحدّ من ظاهرة التنمر المدرسي".
وخرج البحث الذي اعتمد تقنيات الملاحظة والمقابلة والمقارنة والتوثيق وتحليل المعطيات وتنظيم مجموعات مركزة(فوكس غروب) مع التلاميذ والأساتذة والمدراء والمتخصصات في العمل الاجتماعي(إن وجدت) في أكثر من مدرسة، بمعطيات أجابت على أسئلتنا.
من هو المتنمِّر؟ ولماذا يتعمد الأذية؟
الاختصاصية الاجتماعية سناء أبو غادر تقول "لكي نطلق على طفل ما صفة المتنمر، علينا ملاحظة سلوكه ومراقبته مدة من الوقت، وحين يثبت أنه يتعمد إلحاق الأذية الجسدية أو المعنوية أو كلتيهما بالآخرين بتكرار، ويمارس سلوكه العدواني مرات تجاه شخص أو أشخاص، عندها نتأكد أنه شخص متنمر، ولكن من يعتدي ويؤذي غيره مرة عابرة لا نصفه بالمتنمر، فالتكرار هو معيار أساس".
وتشير إلى تصنيف أسباب التنمر إلى "سايكو سوسيولوجي، وأسري، وإعلامي، وتعليمي". وتقول: "السبب الأول النفس اجتماعي يرتبط بشخصية الطالب، إلى اضطرابه النفسي ربما أو شخصيته العدوانية، أو حب السيطرة والتسلط، اللذين يشعرانه بلذة إذلال وإهانة الآخر، إلى جانب وضع أسرته الاقتصادي والاجتماعي".
وعن الأسباب الأسرية توضح أن "بعض الأسر تعتبر أن توفير الطعام والشراب والملبس لأطفالها كاف، فتهمل الجانب العاطفي وتستبعده، ومن المؤسف أن بعض الأمهات والآباء لا يراقبون سلوك أطفالهم في البيت أو خارجه أو على الإنترنت، ويلقون اللوم على المدرسة عند معرفتهم بمشاكل أبنائهم السلوكية، في حين أن العدوانية والمشاكسة قد تكون سبيلاً للفت أنظار الأهل وجذب اهتمامهم".
ولفتت إلى أن "الاطلاع على أحوال التلاميذ خلال إعداد البحث بيّن أن هؤلاء الأطفال أو المراهقين ينسخون ويقلدون شكل العلاقة بين والديهم، ويطبقونه على زملائهم وأساتذتهم أيضاً".
ورأت أن "غياب الرقابة الإعلامية وتعريض الأطفال والمراهقين لكل أنواع العنف (الحقيقي والافتراضي) وتفاصيله على الشاشات، وتكراره المؤذي، يترجم لدى بعضهم بسلوك عدواني"، مضيفة أن "أساليب التعليم التقليدية المرتكزة على العقاب المهين والمؤذي للتلاميذ، تزيد من عدوانية أصحاب الشخصية المتنمرة".
كيف يتنمّر الطالب على زملائه؟
تقول الاختصاصية الاجتماعية وداد نعيم "المتنمر يظهر عادة على رأس مجموعة من الطلاب في المدرسة. يصرخ بهم ويوجه لهم كلاماً غير لائق، ويعنفهم باللكم والضرب والدفع، ولا يبدر منهم أي اعتراض أو مواجهة، بل يبدو عليهم القبول بسلوكه"، مشيرة إلى عبارات ومفردات يوجهها للضحية للإغاظة والتحقير ومنها السباب والشتائم، والكلام الذي لا يتناسب مع عمر المتلفظ بها.
والمتنمر لا يكتفي بالكلام بل يخاطب ضحيته بلغة الإشارات أيضاً، وتشير نعيم إلى أن "الإشارات تحتل حيزاً كبيراً من سلوك المتنمر، إشارات باليد والوجه والجسد، مثل العبوس للتخويف أو التوعد والإيماء بالتهديد، أو إشارات باليد تحمل دلالات جنسية بذيئة، خصوصاً تجاه الضحية الفتاة، لتهديدها وتخويفها".
أما الاختصاصي الاجتماعي قاسم يوسف حديفة فيقول: "كان من السهل التعرف على المتنمرين في المدارس خلال عملنا الميداني على البحث، وتبيّن لنا أن الظاهرة موجودة، ومن التلاميذ من يتعرض للعنف اللفظي والجسدي، ويؤثر على أدائه المدرسي وعلاماته".
ولفت حديفة إلى أن "التنمر ليس محصوراً بالذكور، وإنما لاحظناه لدى الفتيات أيضاً، بتركيزهن على إبراز مظهرهن الخارجي وجمالهن، وسلوك المتنمرات لم يكن خفياً بل واضحا".
أبو غادر تعتبر أنه إلى جانب "التنمر المباشر الذي يهدف إلى استفزاز وإزعاج الآخرين بشتى الأساليب ومنعهم من التركيز، هناك تنمر غير مباشر عبر رسائل شفهية أو مكتوبة يبعثها المتنمر للمعتدى عليه عبر آخرين (وسطاء) للتخويف، وإطلاق شائعات وأخبار ملفقة بهدف الحط من قدره، وتشويه صورته أمام الغير، وعزله اجتماعياً".
مدراء ومدرسون يتنمّرون دون أن يدروا!
يعاقب المدرسون والإداريون في المدارس السلوك العدواني والتنمر بين الطلاب بمختلف الطرق، ويتمادى بعضهم بأن يمارسوا بدورهم التنمر الجسدي والمعنوي على تلاميذهم، إذ يعتبرونه أسلوباً تربوياً للردع وضبط الأمور. وتتعمق المشكلة في المؤسسات التربوية عندما يجهل القيّمون على التعليم وجود ظاهرة التنمر أصلاً، ما يجعلهم عاجزين عن تشخيصها وعلاجها.
سناء أبو غادر قالت: "المدارس عموماً لا تتعامل مع المتنمر على أنه شخص لديه مشكلة ويحتاج للمساعدة، وأنّ أسباباً جعلت سلوكه عدائياً، وإنما تلجأ إلى عقابه، ونجدهم يحرمون المتنمر من الرحلات المدرسية والنشاطات، يوجهون إليه الإهانات ويصرخون بوجهه أمام التلاميذ الآخرين، ويصل العقاب إلى حدود طرده من المدرسة".
وأضافت أن "أغلب المدرسين والمدراء لا يدركون أن لدى الطفل المتنمر نقاطا إيجابية يمكن استغلالها فيه وإبرازها لتقويم سلوكه، بل يحصل العكس، يصنفونه بأنه عنيف ومؤذٍ ويحاولون تجنبه قدر الإمكان. يضعونه في المقاعد الأخيرة في الصف، ويشعرونه دوماً بأنه شخص غير مرحب به، وينبهون الطلاب على سمعه بألا يكونوا مثله، وهذا سلوك مؤذٍ بحدّ ذاته ويفاقم مشكلته".
"خلال مراقبة الأمور على مدى ثلاثة أشهر تقريباً وتجميع الملاحظات، وجدنا أن المدرسين والإدارة لا يعلمون أن سلوك المتنمر له علاج، وإن تغيير أسلوبهم هو أحد مداخل الحلّ، ولمسنا مدى حاجتهم للتدريب والتوعية وورشات العمل التي تؤهلهم للتعامل والتدخل مع المتنمرين من الأطفال" تقول وداد نعيم.
يجهلون معنى التنمر أو ينفون وجوده
كلمة تنمّر تغيب من قاموس كثير في المدرسين ومدراء المدارس، ويستبدلونها بصفات أخرى مثل مشاغب، ومتكبر، ومنهم من يظن أنه فرط الحركة أو حب السيطرة.
قاسم حديفة أكد أن طرح مسألة التنمر على المدارس لاقت الاستغراب عموماً، وأن القيمين على العملية التربوية من إدارات ومدرسين لديهم جهل بخصوص الظاهرة، ومنهم من عبّر عن شكّه بوجود التنمر في مدرسته ومنهم لا يعترف بذلك خوفا على سمعة المؤسسة، في حين أن منهم من اعتبر سمات الظاهرة أمراً طبيعياً يحدث بين الطلاب.
ونبّه إلى الفقر الواضح بالمعلومات عن الظاهرة رغم سهولة ملاحظتها في المدارس، مؤكداً أن بعضهم ينكر وجودها، ويعتبرها محصورة بالأفلام الأجنبية.
وقالت سناء أبو غادر: "نقص الوعي بشأن الظاهرة في المدارس واضح جداً، لا يعرفون ما هو التنمر وبالتالي لا يعرفون أسبابه وطرق علاجه. وليس لدى غالبية البلدان العربية سياسات مبنية على أساس علمي منهجي للتدخل مع الأطفال المتنمرين وضحايا التنمر. وهذا الواقع ينطبق على وزارة التربية اللبنانية والمركز التربوي للبحوث والإنماء رغم اعترافهما بوجوده".
وخلصت إلى أن "نقاش هذا الموضوع والتوعية بشأنه غائب عن المدارس في غالبية الدول العربية"، محملة وزارات التربية "مسؤولية علاج هذا الموضوع، إلى جانب الأهل". وأشارت إلى أن لدى الجزائر ومصر والسعودية عملا تجريبيا على الظاهرة، ويشار إليها في المناهج المدرسية، ولكنْ في لبنان غياب عن هذا الموضوع.
وعن سبل الاستفادة من مصادر المعلومات، لفتت إلى أنهم لم يجدوا سوى "مصادر أجنبية استفدنا منها"، لافتة إلى البرنامج العالمي الرائد للباحث السويدي دان أوليوس، عن طرق الوقاية من التنمر الذي صممه للطلاب الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و15 عاماً في المدارس الابتدائية، بهدف تحسين العلاقات بين الأقران، وجعل المدارس أكثر أمناً وأكثر إيجابية للطلاب.
دور المختص في العمل الاجتماعي
قال حديفة "دورنا للأسف في المدارس غير إلزامي، لذلك نجده مغيباً، ننتظر فرصة عمل في إحدى المدارس، علّنا ننطلق منها لتوسيع الاهتمام بالظاهرة والتوعية بشأنها".
ولحظ حديفة "نقص المعرفة والخبرة لدى المتخصصات في العمل الاجتماعي عن الظاهرة إلا باستثناءات قليلة، والسطحية في التعامل معها ومعالجة تبعاتها.
وأعرب عن أسفه لـ"معاناة الطلاب الذين لا يجدون متخصصاً يلجأون إليه طلباً للمساعدة، لذلك يشكون الأمر للناظر أو المدير الذين يحلون الأمور بالعقاب، عدا عن أن بعض الطلاب لا يملكون الجرأة للشكوى".
أما عن العقبات التي واجهت البحث فقال: "إلى جانب ندرة المعلومات وقلّة الخبرة والمعرفة بالموضوع لدى الإدارات والمتخصصين الاجتماعيين، يتدخل في هذا الموضوع من ليس مؤهلاً، وتتحفظ بعض الإدارات والمدرسين عن الحديث عن حالات تنمر لديهم، خوفاً على سمعة المدرسة، وخلق انطباع بأنهم غير قادرين على حلّ تلك المشكلات وتقويم سلوك الطلاب".
وأبدى حديفة قلقه من أن "تبقى جهودنا حبرا على ورق، وألا نجد فرصة عمل في المدارس، التي يصعب حلّ مشكلات تلاميذها من دون دعم وخبرة المتخصصين في الخدمة الاجتماعية والإشراف الاجتماعي".
وأكد أن العمل الاجتماعي يرافق الجانبين التربوي والأكاديمي في المدارس، والمتخصص في العمل الاجتماعي ينشّط حملات التوعية في المؤسسات التعليمية ويساعد في حلّ المشكلات، والتنمر إحداها.