الخالة فريحة... نصف قرن في المغارة

25 اغسطس 2016
ترزح تحت ثقل أكياسها (العربي الجديد)
+ الخط -
حين كتب الروائي الجزائري محمد ديب، توفي عام 2003، عن الجوع والفقر والحرمان في روايته "الدار الكبيرة"، كان ذلك انسجاماً مع الواقع الجزائري خلال الاحتلال الفرنسي الذي كان يسدّ الأنفاس على المكان والإنسان. ويُطرح سؤال عن مبرّر امتداد تلك المظاهر التي كتب عنها ديب في أربعينيات القرن العشرين إلى يومنا هذا، فيما تحصي حكومة الاستقلال 200 مليار دولار أميركي من احتياطي الصرف؟

يراودك السؤال عندما تلتقي بالخالة فريحة، على ذلك الطريق الذي يربط مدينة تلمسان (700 كيلومتر غرباً) بأعلاها الذي يسمّى "المفروش"، عند "هضبة لالة ستي" التي باتت من أكبر المنتجعات السياحية في الغرب الجزائري. تلتقيها وهي تحمل على ظهرها أكياساً كبيرة من المواد التي تخلّى عنها أصحابها، لتعيد بيعها.

قد تحوي تلك الأكياس خبزاً يابساً أو قطعاً من الحديد أو البلاستيك أو ألبسة مستعملة، تحملها لمسافة عشرة كيلومترات، على طريق متعرّج ومتصاعد بالإضافة إلى مخاطر المركبات التي يقودها بتهوّر شباب يقصدون الغابات المحيطة بالمكان لتعاطي المخدرات أو الكحول، بعيداً عن أعين أسرهم ورجال الأمن. وتقول الخالة فريحة: "ألتزم حاشية الطريق حتى لا يؤذوني. فأنا لا أستطيع أن ألتفت إلى الوراء أو أرفع رأسي إلى الأمام للنظر، بسبب ثقل الأكياس. مع ذلك، لا أسلم أحياناً من سيارات، كأنّ العفاريت تقودها".

لا تذكر الخالة فريحة في أيّ عام ولدت، غير أنّها تربط تاريخ ميلادها "بالسنة التي عاد فيها والدي من المغرب، بعدما شارك في احتفالات عودة الملك محمد الخامس إلى البلاد". هي تقصد عودته من المنفى في عام 1956. تضيف: "عاد ماشياً على الأقدام وسمّاني فريحة، وهذا تصغير لفرحته بعودة الملك واستقلال المغرب، في انتظار أن تكبر الفرحة باستقلال الجزائر". كذلك، لا تتذكّر العام الذي تزوّجت فيه، وتكتفي بربطه بأوّل ربيع بعد رحيل الرئيس هواري بومدين، أي عام 1979.

قصدنا المكان الذي قالت إنّها ولدت فيه في بلدية بني بوبلان، فوجدناه عبارة عن مغارات في هضبة تعلوها مقبرة. هناك، كان الأحياء يعيشون تحت الموتى، وهو لا يختلف كثيراً عن المكان الذي تقيم فيه اليوم.. مغارة صغيرة بين الصخور يحيط بها كوخان من القصدير، واحد للدجاج والأرانب والآخر لشاتَين مع خرافهما. في جوار الكوخَين، أحواض نبتت فيها خضار الموسم. وتخبر الخالة فريحة: "أحصل على اللحم من الأرانب والبيض من الدجاجات والحليب والصوف من الشاتَين والخضار من الأرض. وما يزيد عن حاجتي، يبيعه حفيدي عند قارعة الطريق".

لا تملك الخالة فريحة فكرة عمّن يحكم الجزائر اليوم، على عكس حفيدها الذي قالت إنّه ولد بعد شهرَين من رحيل جده وأبيه في يوم واحد. تقول: "كانا يرعيان ماعز أحدهما في منطقة بني سنوس، وحدث أن طلبت منهما جماعة إرهابية تزويدها بالمؤونة من القرية. بدلاً من ذلك، بلّغا رجال الأمن. فما كان ممّن بقي حياً من أفرادها، إلا ذبحهما في الغابة وتركهما معلقَين في شجرتَين متجاورتَين".

لا تكفّ الخالة فريحة عن التنهّد وهي تسرد تفاصيل ما عاشته. وتتابع: "تكفّل بي صاحب القطيع الذي كان يرعاه زوجي وولدي المغدورَان، إلى أن وضعت كنّتي صغيرها. بعدها، اضطررت إلى المغادرة إلى أعالي تلمسان". واليوم، تصحو باكراً مع حفيدها لتنزل إلى المدينة بهدف جمع الخبز اليابس من البيوت والمخابز، وتبيعه لمربّي المواشي. وإن وجدت قطعاً من الحديد أو البلاستيك، فإنها تبيعها لمن يعيدون بيعه لمصانع إعادة التدوير.

ولا تنكر الخالة فريحة "كرم الناس في منطقة تلمسان، غير أنّني لا أقبل الصدقة. كذلك لا أقبل أن أعمل في تنظيف البيوت والعمارات. لطالما عرض عليّ بعضهم مال الزكاة، وكنت دائماً أمنع نفسي من الاستعانة بغير عَرقي، تماماً كما ربّاني أبي".

تقرّ الخالة فريحة بأنّها بدأت تشعر بالتعب، وتؤمن بحقّ حفيدها في حياة أفضل. لذلك، قرّرت الاستجابة لدعوة كنّتها التي تزوّجت من جديد، وسوف تنتقل للعيش وابنها معها. تقول: "ما كنت لأستجيب لولا طمعي في أن يحظى حفيدي بعيش أفضل من حاله اليوم. وفي النهاية، هي أمّه وهي أولى به بعد رحيلي".

رفضت الخالة فريحة أن تسمح لـ "العربي الجديد" بتصوير وجهها، إذ ترى في ذلك خيانة لزوجها الذي لم يسمح لها يوماً بأن تقصد مصوّراً. "لو كان حياً، لما سمح لي بذلك. فكيف أفعلها بعد موته؟ أنتم ترونني بحذاء مطاطي ولباس متآكل، وتصويري سيكون فضحاً لحالي الذي لم أشكه يوماً إلا لخالقي".

المساهمون