بعد عامين على حكم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تشير منظمات عالمية لحقوق الإنسان إلى أن "الدولة البوليسية" عادت من جديد لتطارد الناشطين السلميّين وتوجّه ضربات إلى المجتمع المدني.
تتفاقم أكثر فأكثر أزمة منظمات المجتمع المدني مع النظام المصري. وقد بلغ الأمر حدّ تعكير صفو العلاقات المصرية بالدول الغربية الداعمة للنظام الحالي، إلى جانب الأزمات الداخلية المتعلقة بالقانون المنظم للجمعيات وقضية التمويل التي أعيد فتحها من جديد، وأزمات الحقوق والحريات بشكل عام، والهجوم الشرس الذي يقوده النظام على تلك المنظمات بدءاً من التشويه وصولاً إلى الإغلاق.
تلك الحالة العامة من التضييق والقمع، عبّرت عنها منظمات حقوقية دولية في أكثر من مناسبة، واتّهمت منظمات حقوقية دولية حكومة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بارتكاب تجاوزات في مجال حقوق الإنسان مذ أطاح الجيش بالرئيس محمد مرسي في الثالث من يوليو/تموز 2013.
تسليح مصر لقمع المعارضين
في أواخر مايو/أيار الماضي، اتهمت "منظمة العفو الدولية" نحو نصف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي "بتشجيع أعمال القتل والتعذيب وغيرها من أشكال القمع" في مصر، عن طريق تزويد الحكومة المصرية بالأسلحة. وجاء في تقرير المنظمة أنّ هذه أسلحة تستخدم في "الإخفاء القسري والتعذيب والاعتقالات التعسفية" بحقّ المعارضين المصريين. كذلك، بيّنت المنظمة، في بيانات عدّة كانت قد أصدرتها، أنّ "الحملة المتواصلة ضد الناشطين السلميين توحي بأنّ السلطات المصرية عازمة على شل مجتمع المنظمات غير الحكومية بقسوة، وجعله مجتمعاً خالياً من الحياة بكلّ ما للكلمة من معنى". وأكدت أنّه "بعد خمس سنوات على الثورة التي أطاحت بحسني مبارك، أصبحت مصر دولة بوليسية مرة أخرى".
من جهتها، بيّنت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقريرها العالمي لعام 2016 أنّ حقوق الإنسان ما زالت في أزمة في عهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بعد أكثر من عامين على عزل الجيش للرئيس الأسبق. وأفاد التقرير بأنّ "رداً على تصاعد تهديدات المتطرفين المسلحين في شبه جزيرة سيناء والجماعات الأخرى المعادية للحكومة، استخدمت السلطات التعذيب والإخفاء القسري بحق مواطنين كثيرين، وحظرت سفر آخرين، وربما ارتكبت عمليات إعدام خارج نطاق القضاء".
قانون الجمعيات وملحق العقوبات
يجيز قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية لعام 2002 - المعمول به حالياً - للحكومة، حلّ هذه الجمعيات ومصادرة ممتلكاتها عندما ترى ذلك مناسباً، فضلاً عن رفض أفراد معينين في مجالس إدارتها ومنع تمويلها من مصادر أجنبية.
في سبتمبر/أيلول 2014، أدخل السيسي تعديلات على قانون العقوبات تقضي بتشديد العقوبة على تلقي الأموال من مصادر أجنبية بهدف "الإضرار بالمصلحة القومية". وإزاء الشجب الدولي لهذه التدابير، تراجعت الحكومة عن قرارها القاضي بالحلّ الفوري لسائر المنظمات التي تنفّذ أنشطة متصلة بالمجتمع المدني، بدون أن تكون مسجلة، في أواخر عام 2014. لكنّها عادت من جديد لتنفّذ تلك التدابير، وهذه المرّة بشكل مبطّن قانونياً وأقلّ وضوحاً.
من جهتها، أصدرت الشبكة "الأورو - متوسطية للحقوق" بياناً منذ شهرين أدانت فيه ما وصفته بـ"المحاولات الأخيرة الرامية إلى إسكات المجتمع المدني في مصر"، وحثّت الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء على "إثارة هذه المسألة مع النظراء المصريين، والتأكيد على أنّها من الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها". وشدّدت الشبكة على أنّ "مصر تشهد حالياً جواً عاماً من القمع الشديد الموجّه ضدّ سائر الحركات الاحتجاجية، خصوصاً ضدّ المنظمات الأهلية المستقلة. فقد تمّ منع ما لا يقل عن عشرين مدافعاً عن حقوق الإنسان أخيراً من السفر إلى خارج البلاد. وفي مرحلة لاحقة، تلقّى مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف أمر غلق إداري. وأخيراً، استجوب محامي حقوق الإنسان، نجاد البرعي، من قبل أحد القضاة على خلفية سلسلة من الاتهامات الخطيرة المتعلقة بإعداد مشروع قانون لمناهضة التعذيب في عام 2015. وما التحقيقات في قضية التمويل الأجنبي إلا مثال صارخ على هذه المضايقات المستمرة، وهي قد أدّت إلى إغلاق خمس منظمات دولية في مصر خلال السنوات الماضية".
إلى ذلك، تخشى المنظمات غير الحكومية في مصر من تطبيق المادة 78 من قانون العقوبات عليها، وكذلك تعديلاتها الصادرة في 23 سبتمبر/أيلول 2014، لما فيها من مصطلحات قانونية واسعة ومطاطة كـ"النظام العام والسلم العام"، والتي تحدثت عن "كلّ من طلب لنفسه أو لغيره أو أخذ ولو بالواسطة من دولة أجنبية أو ممن يعملون لمصلحتها أو من شخص طبيعي أو اعتباري أو من منظمة محلية أو أجنبية أو أية جهة أخرى لا تتبع دولة أجنبية ولا تعمل لصالحها، أموالاً سائلة أو منقولة أو عتاداً أو آلات أو أسلحة أو ذخائر أو ما في حكمها أو أشياء أخرى، أو وعد بشيء من ذلك، بقصد ارتكاب عمل ضار بمصلحة قومية أو المساس باستقلال البلاد أو وحدتها أو سلامة أراضيها أو القيام بأعمال عدائية ضد مصر أو الإخلال بالأمن والسلم العام".
التمويل وسيلة المنع من السفر
الانتقادات الحقوقية الدولية شملت أيضاً موضوع إحالة حقوقيين مصريين للمحاكمة، وقد أفادت 14 منظمة دولية في مارس/آذار الماضي بأنّ السلطات المصرية استدعت في الأسابيع الأخيرة عاملين في مجال حقوق الإنسان لاستجوابهم ومنعتهم من السفر وحاولت تجميد أموالهم الشخصية والأصول الخاصة بأسرهم. يشير ذلك إلى أنّ التحقيق القائم منذ خمس سنوات في تمويل المنظمات الحقوقية المستقلة وتسجيلها قد يؤدي قريباً إلى اتهامات جنائية.
والتحقيق في تمويل منظمات محلية وأجنبية كان قد بدأ في يوليو/تموز 2011، بعد خمسة أشهر من سقوط مبارك، وأدى بالفعل إلى إدانات وإغلاق مكاتب خمس منظمات دولية غير حكومية في مصر. اليوم، تتولاه لجنة من ثلاثة قضاة اختارتهم محكمة استئناف القاهرة بناء على طلب وزارة العدل.
بموجب القوانين المصرية، يمكن للنيابة اتهام مدافعين بارزين عن حقوق الإنسان بتهمة العمل بدون تسجيل، أو قبول تمويل أجنبي بدون تصريح حكومي. في تعديل على قانون العقوبات أصدره السيسي في سبتمبر/أيلول 2014، من الممكن الحكم بالمؤبد (25 عاماً في مصر) في التهمة الأخيرة.
ومنعت المحاكم والنيابات وأجهزة الأمن المصرية، أكثر من عشرة ناشطين حقوقيين من السفر إلى خارج مصر، من بينهم محمد لطفي، مدير "المفوضية المصرية للحقوق والحريات"، وأربعة عاملين في "المعهد المصري الديمقراطي"، إلى جانب جمال عيد وحسام بهجت ومحمد زارع وغيرهم.
يُذكر أنّ منظمات المجتمع المدني التي شملتها التحقيقات في القضية منذ عام 2011، يصل عددها إلى 41 منظمة تلقت منحاً أميركية، بالإضافة إلى أربع منظمات أخرى تلقت منحاً وتمويلاً من دول غير الولايات المتحدة الأميركية. وقد وُجّهت إليها اتهامات بتأسيس وإدارة فروع لمنظمات دولية بدون ترخيص، وتسلّم وقبول أموال ومنافع من هيئات خارج مصر لتأسيس فروع لمنظمات دولية، والاشتراك بطريقتي الاتفاق والمساعدة على ارتكاب جريمة إدارة فروع لمنظمات ذات صفة دولية بدون ترخيص في مصر.
تعكير صفو العلاقات الدولية
على المستوى الدولي، يمكن القول إنّ دولاً أوروبية فقدت الثقة في النظام المصري الحالي، على خلفية حوادث طاولتها بشكل مباشر، مثل ألمانيا وإيطاليا. فقد استدعت وزارة الخارجية اﻷلمانية السفير المصري في برلين، بدر عبد العاطي، بسبب التضييق على منظمات ألمانية حقوقية، فيما جدّدت الخارجية اﻹيطالية تأكيدها عدم إرسال سفيرها الجديد إلى مصر لحين تقييم التعاون الثنائي في قضية مقتل الطالب اﻹيطالي جوليو ريجيني.
في الملف اﻷول الخاص بألمانيا، وعلى الرغم من تعهدات السيسي لوزيري الداخلية واﻻقتصاد اﻷلمانيين اللذين زارا القاهرة، بتسهيل عمل المنظمات اﻷلمانية الحقوقية داخل مصر، إﻻ أنّ رفض الجهات المختصة، ومنها وزارة الخارجية، تجديد مقر منظمة "فريدريش ناومان" في القاهرة دفع وزارة الخارجية اﻷلمانية إلى استدعاء السفير المصري وإبلاغه رسالة شديدة اللهجة مفادها أنّ برلين ليست مرتاحة للتصرفات المصرية القائمة على تضييق المجال العام عموماً وعلى منظمات ألمانية خصوصاً.
ﻻ يقتصر الأمر على ذلك، بل إنّ السلطات المصرية أعاقت أيضاً عمل هيئة التنمية اﻷلمانية العالمية وضيّقت على بعض مشروعاتها في محافظات الصعيد، ما أثار غضب برلين، ﻻ سيما وأنّ هذه الهيئة حكومية وليست تابعة إلى أي من اﻷحزاب الرئيسية.
وﻻ يبتعد الملف الثاني الخاص بقضية ريجيني وإيطاليا عن اﻹطار الحقوقي الذي بدأ يفقد الغرب الثقة في نظام السيسي. فقد علّقت وزارة الخارجية اﻹيطالية انتقال سفيرها الجديد إلى القاهرة، في انتظار تقييم المدعي العام في روما مدى التعاون المصري مع المحققين اﻹيطاليين في القضية.
وكان مصدر دبلوماسي مصري حضر جزءاً من المحادثات بين فريقَي التحقيق، قد أشار إلى أنّ "النيابة والشرطة المصريتين أبديتا أخيراً قدراً أكبر من المرونة، إذ سلمت المحققين اﻹيطاليين سجل المكالمات الخاص بعدد ممن تربطهم صلات بريجيني. لكن الشرطة لم تقدم حتى اﻵن على تفريغ كاميرا مراقبة محطة المترو التي استقلها الشاب القتيل، ولم تسلّم سجل محادثات المواطنين في منطقة الاختفاء".
من ألمانيا وإيطاليا، إلى الولايات المتحدة الأميركية، إذ دعت المندوبة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة، السفيرة سامنتا باور، السلطات المصرية إلى إزالة القيود المفروضة على منظمات المجتمع المدني، لافتة إلى ضرورة العمل بحرية وبدون قيود. واتهمت في مارس/آذار الماضي السلطات المصرية بانتهاك حقوق الإنسان وترويع الناشطين الحقوقيين والسياسيين، فيما طالبتها بالسماح للمنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني بالعمل بدون تهديدات.
وفي أبريل/نيسان الماضي، دعا ثلاثة خبراء مستقلين في الأمم المتحدة في بيان لهم، الحكومةَ المصرية إلى إنهاء حملة القمع المستمرة ضد منظمات حقوق الإنسان والمدافعين عن تلك الحقوق في مصر. وقد أعرب كلّ من المقرّر الخاص المعني بحماية المدافعين عن حقوق الإنسان، ديفيد فورست، والمقرر الخاص المعني بحرية الرأي والتعبير، ديفيد كاي، والمقرر الخاص المعني بحرية التجمع السلمي والجمعيات، ماينا كياي، عن خطورة أوضاع المدافعين عن حقوق الإنسان في مصر. ودقوا ناقوس الخطر إزاء استمرار الحملة الأمنية على المدافعين عن حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني في مصر، وحذّروا من أنّ منظمات غير حكومية عديدة أُغلقت، واستجوب مدافعون عن حقوق الإنسان من قبل قوات الأمن وخضعوا لحظر السفر، وجُمّدت أرصدتهم من قبل الحكومة المصرية. وقد رأوا في ذلك "انتقاماً" لعمل هؤلاء المشروع والسلمي في مجال حقوق الإنسان، على حدّ تعبير البيان.
وقال خبراء الأمم المتحدة بشأن المدافعين عن حقوق الإنسان وحرية التعبير وحرية التجمع وتكوين الجمعيات، إنّ "مصر فشلت في توفير بيئة آمنة ومواتية للمجتمع المدني في البلاد (...) ويجب على الحكومة وضع حد فوري لجميع أشكال الاضطهاد واتخاذ تدابير فعالة لحماية المجتمع المدني".
جرائم العنف الجنسي في سيناء
يؤكد "المرصد المصري للحقوق والحريات" التابع للجنة العدالة (جمعية سويسرية مستقلة مقرّها جنيف) أنّ عدم التحقيق ومحاسبة المتسببين في جرائم العنف الجنسي في حق النساء في سيناء، ينذر بكارثة اجتماعية وأمنية.
طوال أكثر من عامين من العمليات العسكرية في شمال سيناء، أصبحت الانتهاكات التي تستهدف النساء جزءاً لا يتجزأ من انتهاكات متنوّعة لحقوق الإنسان التي ترتكبها القوات العسكرية. وتشمل قائمة الجناة من مرتكبي تلك الانتهاكات، عناصر من قوات الجيش والشرطة وقوات غير رسمية. وتتراوح تلك الانتهاكات ما بين الاستهداف المباشر والعنف الجنسي والتحرّش بالنساء عند الكمائن (الحواجز الأمنية) وعلى الطرقات.
ويفلت مرتكبو الانتهاكات بحق النساء في شمال سيناء من العقاب، في ظل انعدام سيادة القانون من جرّاء غياب جهات التحقيق وتفرّد الجيش والشرطة بالمواطنين وعدم خضوع الأعمال التي يأتون بها إلى أي جهة قضائية أو غيرها.
وتواجه النساء والفتيات خطر التعرض للعنف الجنسي، بدون أن تتاح لهنّ إمكانية اللجوء إلى العدالة، نظراً للطبيعة الاجتماعية في المنطقة، والاستهداف المباشر للمواطنين الذين يرغبون في مساءلة المسؤولين عن حالات العنف الجنسي في حقّ النساء، من تحرّش لفظي وجسدي وكذلك العنف الجسدي بحقهنّ خصوصاً عند الكمائن وعلى الطرقات.
الحالات التي تبلغ المرصد المصري هي في أكثرها لنساء لم يبلّغن عمّا تعرّضن له من اعتداءات، وذلك خشية لحاق وصمة العار بهنّ على الأغلب، أو من جرّاء عدم الثقة في قدرة السلطات على فتح تحقيق، أو خوفاً من التنكيل والبطش بهنّ من قبل السلطات، بالإضافة إلى عدم حمايتهنّ من الانتقام بسبب غياب المساندة الأسرية.
يُذكر أنّ ذلك يشكّل جرائم عنف وعدوان وهيمنة على النساء، إذ يُستخدم الجنس كوسيلة لممارسة السلطة على الضحية (أو الضحايا) والسيطرة عليها وإهانتها وإذلالها.
يُعرَّف العنف في الإعلان العالمي للقضاء على العنف ضدّ المرأة الذى وقعته الأمم المتحدة في عام 1993، بأنه "أي فعل عنيف قائم على أساس الجنس ينجم عنه أو يحتمل أن ينجم عنه أذى أو معاناة جسمية أو جنسية أو نفسية للمرأة، بما في ذلك التهديد باقتراف مثل هذا الفعل أو الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء وقع ذلك في الحياة العامة أو الخاصة".