لا حرب في ذاكرتي

16 ابريل 2016
تحذير من قناص بعد الحرب الأهلية (جوزيف عيد/فرانس برس)
+ الخط -

لا حرب في ذاكرتي. كنتُ قد كبرت كثيراً حين سمعت عبارة "تنذكر وما تنعاد". في بيتنا لم تذكر الحرب الأهلية (1975-1990) إلا نادراً أو أن ما قيل عنها لم يعلق في ذاكرتي. لاحقاً، حفظت فيها مشاهد شهداء مجزرة قانا (1996). كانوا يرتدون جميعاً أثواباً بيضاء تسمى أكفاناً قبل النزول إلى قبورهم. في ذلك الوقت، فكرت أن الأبيض ليس اللون الأنسب للارتداء في التراب.

وأسمعُ مجدداً: "تنذكر وما تنعاد". خلال حرب تموز عام 2006، أسقطت أغنيات الحرب الأهلية على الحرب الإسرائيلية. أردت صنع ذاكرة لنفسي مثل آخرين. كان ثمة حلقة مفقودة بيني وبين لبنانيين يكبرونني بسنوات قليلة. يقولون إنهم جيل حرب ولا يحسدونني على براءة ذاكرتي. وأكاد أن أحسدهم، هؤلاء الذين صار بإمكانهم أن يكونوا ضحايا إلى الأبد.

هؤلاء، وإن أبعدوا الخوف عن أحاديثهم، إلا أنهم خافوا كثيراً وما زالوا. ربّما لا ينتبهون إلى آثاره في يومياتهم. أحياناً، يتباهون خلال الحديث عن ذكرياتهم، وكأن كل واحد منهم يحاول استرجاع حادث أو موقف صعب، ذلك الذي نجا فيه من الموت بأعجوبة. يسترجعون أعداد القتلى الذين رأوهم، أو حين علقوا في مدارسهم، أو قضوا أياماً وليالي في سلالم المبنى كونه أكثر أمناً، أو..

لم يكونوا يوماً مقاتلين. ربما أيدوا طرفاً أو أطرافاً. لكنهم جيل حرب ينقل ماضيه إلى مستقبله. لم يعد هذا الحمل ثقيلاً، وقد تسرب إلى كل لحظة من لحظات حياتنا.

مجدداً، لا حرب في ذاكرتي، القليل فقط عن حيوات في حرب، تلك التي لا أؤمن بها. لا يمكن لحياةٍ أن تتحقّق وسط الخوف. وما يقالُ عن التعود، هو أقرب إلى اللاخيار، حين نقول لأنفسنا دائماً إن احتمال موتنا يعادل احتمال نجاتنا، لنعيش على إيقاع احتمال.

أعرف القليل عن الوقوف في طوابير طويلة للحصول على الخبز، وجمع الحطب، والنزول إلى الملجأ، وقصص كثيرة عن الألفة التي نشأت بين الناس في هذه الأمكنة المظلمة. في العتمة، يرى الناس بعضهم البعض أكثر جمالاً. هذه المشاهد وغيرها لم تعلق في ذاكرتي. أردّدها مثل قصيدة أجبرت على حفظها لتسميعها أمام أستاذ وتلاميذ.

لا يحسدونني. أنا فارغة من حربهم. لا ماضي يؤهلني لحاضر ومستقبل. مجرّد قلم يكتب بعض القصص اليومية التافهة وينتهي. وأحسدهم لأنهم ضحايا. هم أبرياء من أي أخطاء. لا يمكن محاسبة جيل وأكثر عاش أيامه وهو يحلم بالانتقال إلى أيام أخرى. وأنا لا ذاكرة لي ولم أعش حرباً. لكنني رأيتكم جميعاً. نظر بعضكم في عيني وآخرون منكم عانقوني أو تحدثوّا إليّ. لستُ منكم. لكنّني ضحيتكم أيضاً، وقد بتّ أخافُ في حاضري أكثر ممّا خفتم في ماضيكم.. ماضي الحرب.

المساهمون