الأستاذ مصباح يرسم المشرّدين والأغنياء

06 فبراير 2016
عشق الفن منذ طفولته (العربي الجديد)
+ الخط -

أجبرت ظروف الحياة القاسية في السودان أستاذ التعليم الثانوي مصباح علي عبدالله (63 عاماً)، على اختيار مكان في الهواء الطلق في أحد أسواق الخرطوم للرسم. لا يشكو من حاله هذا. على العكس، يحب مساحته الخاصة هذه التي تجعله على تواصل مع الناس. من خلال عمله في الرسم، يحصل على بعض المال الإضافي الذي يعينه على تأمين لقمة العيش لأبنائه الخمسة. وتجدر الإشارة إلى أن راتبه الشهري من التدريس لا يتعدى الـ 800 جنيه (نحو 124 دولاراً)، وهو لا يكفيه لسد احتياجات أسرته لمدة أسبوع.

لم يقف عامل السن عائقاً أمام عبدالله الذي يقضي إحدى عشرة ساعة في العمل يومياً. صباح كل يوم، يتأهب للذهاب إلى المدرسة التي تبعد كيلومترات عدة عن منزله، حيث يدرّس مادة الفنون. ومع انتهاء الدوام، يحمل أدواته البسيطة من ألوان وورق ويتوجه إلى السوق حيث يجلس على إحدى المصاطب قرب محل تجاري، ويستغل بعض أعمدة الكهرباء لعرض أعماله التي يعلقها على حبل يثبته على العمود، وهي عبارة عن صو رسمها لعدد من الفنانين والمشاهيرالعرب والسودانيين، فضلاً عن شخصيات مؤثرة في العالم، في محاولة لجذب الزبائن.

بسبب وضعه المادي، لم يتمكّن عبدالله من استئجار مقر للعمل. في السوق، كان قد وضع سلة صغيرة تعلوها ورقة كتب عليها "صندوق تشجيع الفن"، بالإضافة إلى رقم هاتفه. هذه السلة الصغيرة لا تتّسع إلا للجنيهات المعدنية، ليبدو أن هذا الرجل قد توجه إلى المواطن البسيط بهدف إعانته، هو الذي لا يطمح بأكثر من جنيهات قليلة.

يقول عبدالله إنه أراد من الصندوق مشاركة الناس فنه. ومن خلال المال الذي يحصل عليه، يشتري ما يحتاج إليه من أدوات للرسم. صحيح أنه يضع جرّتة في قلب السوق، إلا أنه لم يتعرّض للسرقة يوماً. وصار لهذا الرجل صداقات مع مجموعة من المشردين. في إحدى المرات، أصر عليه أحدهم أن يرسمه، ووعده أن يفعل إذا توقف عن استنشاق مادة "السلسيون"، وهي مادة مخدرة.

تخرج عبدالله من كلية الفنون ــ قسم الخزف عام 1980، لينتقل بعدها إلى اليمن. عاد إلى الخرطوم عام 1995 لتبدأ معاناته. يقول لـ "العربي الجديد": "أبدأ الرسم بعد انتهاء عملي في التدريس بهدف تحسين دخلي، علماً أن الراتب لا يكفيني أنا وأسرتي"، مضيفاً أن المال الإضافي الذي يحصل عليه جراء الرسم يحدث تغييراً في حياة عائلته. يضيف: "بعد انتهاء اليوم الدراسي لا أذهب إلى المنزل، بل أبقى في الشارع أنتظر الزبائن". ويلفت إلى أنه في مهنته هذه، يتجول بين الطرقات الرئيسية في الخرطوم، في محاولة لجذب أكبر عدد من الناس. يوضح أنه عادة ما يأتي الزبون بصورة صغيرة له، فيرسمها له على لوحة كبيرة.

يبدو عبدالله قانعاً بالمال الذي يحصل عليه من هذه المهنة، علماً أنه يعدّ قليلاً. يقول إن "الأرزاق بيد الله، والثراء الفاحش ليس هدفي. أريد تأمين ما يكفينا حتى لا نمد يدنا للغير". يضيف: "لا أحدد سعراً للوحة بل أترك ذلك للزبون وإمكاناته. من يعطيني مائة جنيه كمن أعطاني ألف جنيه". يضيف أنه يستمتع جداً بسبب مساهمته بزيادة وعي المواطنين الفني، لافتاً إلى أن رسالته هي "نشر الجمال والتواصل الوجداني".

إلى ذلك، يرى عبدالله أن حياة التجوال التي اعتمدها لتأمين لقمة عيشه، جعلت زبائنه ممن ينتمون إلى مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية. هناك المثقفون والأغنياء والفقراء والطلاب الجامعيون، بالإضافة إلى المشردين. ويشير إلى أنه يستمتع جداً بحياته على الرغم من التعب بسبب عشقه للفن منذ طفولته. من جهة أخرى، يشعر أنه يستمتع جداً بسبب مساهمته في "تثقيف المواطن". ويرى أن التحدي الوحيد الذي يواجهه هو توفير أدوات للعمل، مشيراً إلى أنه يفشل أحيانا في تأمينها بسبب وضعه الاقتصادي، بالإضافة إلى ارتفاع أسعارها.

ليس لدى عبدالله أي حلم بالاحتراف. رسوماته البسيطة هذه تجعله يشعر بالسعادة. يقول إن لديه رسالة أبعد من الرسم، وهي التواصل الاجتماعي، وخصوصاً مع المواطنين البسطاء. لا يحلم بتنظيم معارض فيحضر أولئك الذين يرتدون بذلات رسمية. على العكس تماماً، يهتم بالمواطنين غير القادرين على الذهاب إلى الصالات الفخمة.
ويلفت إلى أنه خلال عمله في الشارع، لطالما واجهته أحداث طريفة. في إحدى المرات، رسم شخصاً من دولة جنوب السودان، وكانت بشرته سوداء داكنة، فعمد إلى تفتيح لونه بعض الشيء، الأمر الذي أغضب الرجل، وطلب منه رسمه من جديد.

اقرأ أيضاً: "عديل المدارس" في السودان
المساهمون