كان إسحاق سرّها

11 مارس 2015
لأبناء القرى أشجار جنارك أمام بيوتهم (العربي الجديد)
+ الخط -

قبل زمن يصحّ فيه القول إنه غابر، كانت الفتاة تراقب زملاءها في المدرسة وهم يحملون الأزهار إلى مدرّساتهم. كان القرنفل على الموضة في تلك الأيام. وكان التلاميذ غالباً ما يحضرون قرنفلة واحدة لـ "المعلمة"، يلفّون أسفل عنقها الطويل بورقة ألومنيوم.

كانت تراقبهم، مذ تدخل سيارة العائلة حيّ مدرستها البيروتيّ. هم كانوا بمعظمهم من سكان ذلك الحيّ، وكانوا يقصدون المدرسة سيراً على الأقدام، حاملين بفخر أزهارهم الملوّنة. ما زالت نظراتهم المتباهية تلك تستفزّها حتى اليوم، ولا سيّما نظراتهم في عيد المعلّم. حينها، كانت قرنفلاتهم تُغلّف بأوراق سيلوفان شفاف منقّط بالأبيض وتُربط بأشرطة حمر.

هي لم تكن ابنة ذلك الحيّ ولا ابنة المدينة. فظنّت أن تقديم الأزهار طقس من طقوس أهل المدن. أما أبناء القرى، فلهم عاداتهم المختلفة.. من دون أن تُلصِق بهم أياً من العادات.

***

عند مدخل المدرسة، كان دكان إسحاق. هؤلاء الذين اعتادوا حمل الأزهار إلى المدرّسات، كانوا يقصدونه قبل بدء الدوام لشراء "السحبة" وأكياس البطاطا المقرمشة والجنارك في بداية فصل الربيع. وكان إسحاق بشعره الأبيض وقامته القصيرة، يضع الأخيرة في قراطيس، من دون أن ينسى إضافة الملح.

كم كانت تشتهي تقليد هؤلاء. لكنها ظنّت أيضاً أن زيارة إسحاق من طقوس أهل المدن. فلأبناء القرى أشجار جنارك أمام بيوتهم. وهم يأكلونها من دون ملح.

وفي يوم، لم تستطع منع نفسها من الهروب بعد الدوام لشراء "السحبة". كانت تتوق إلى تجربتها، على الرغم من كلام والدتها عن الجرذان التي تملأ الدكان. فقصدت إسحاق. كان دكانه مظلماً ورطباً بعض الشيء، لكنها دخلته بثقة. صحيح أنها لم تصادف جرذاً في يوم إذ إن الجرذان لا تعيش في القرى، إلا أنها لم تكن تخشاها. واشترت "سحبتها" بنصف ليرة معدنيّة.

***

أمس، عاد التلاميذ إلى مدارسهم بعد عطلة عيد المعلّم. لم تعد تذكر هداياها لمدرّساتها في المناسبة، في ذلك الزمن الغابر. لكنها ما زالت تذكر جيداً، ذلك الخاتم البلاستيكي الأخضر الذي حصلت عليه في "السحبة"، وزهْو رفاقها بأزهارهم.

لم يعد القرنفل على الموضة اليوم. ولم يعد التلاميذ الذين يقصدون تلك المدرسة، يحملون الأزهار لمدرّساتهم. صحيح أن زيّهم الموحّد ما زال نفسه، لكنهم لا يعرفون إسحاق. هو اختفى من الحيّ، قبل سنوات طويلة. يحيّرها اختفاؤه. قد يكون توفاه الله، هو الذي كان عجوزاً في ذلك الزمن. لكنها لا تسأل عنه أحداً. لطالما تهيّبت ذكر اسمه، لا سيّما أمام والدتها التي حذّرتها مراراً وتكراراً من دكانه وجرذانه.
دلالات
المساهمون