يوم رمضاني في مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين.. سحر البساطة

بيروت
صمود غزال
صمود غزال
صحافية فلسطينية لاجئة في لبنان. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.
12 ابريل 2023
v
+ الخط -

يشهد مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين حركية لا تخطئها العين خلال شهر رمضان، تزيد وتيرتها مع المتبضعين قبل موعد الإفطار، على الرغم من ضيق الحال ومظاهر الفقر والعوز.

يزدحم السوق الشعبي في حي صبرا بالبائعين والزبائن والعربات المتنوعة والمنتوجات التي تحاول تلبية حاجيات قاطني المخيم جنوبي العاصمة اللبنانية بيروت. 

غير أن اللافت أن زينة شهر رمضان خجولة. وعند السؤال عن ذلك يتبيّن أن تزيين المخيم في شهر الصوم اختفى منذ أربعة أعوام، بسبب الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة.

في شارع المخيم الرئيسي، ينصب بائع العصير خيمة صغيرة ليعصر البرتقال والجزر وعصائر رمضانية، مثل العرقسوس والتمر الهندي والجلاب. تراه لا يكترث بالنداء على بضاعته، فزبائنه معروفون، وهم سكان المخيم.

وسط الزحام يحصل اصطدام "توك توك" يبدو أنه مستعجل لإيصال البضائع والمياه، ثم يعتذر بسبب ضيق الطرقات. فعلاً هي ضيقة جداً، كحال جميع مخيمات لبنان.

يأخذك "زاروب" (حارة ضيقة) إلى "زاروب" آخر أضيق. وتتميّز "الزواريب" بـ"الغرافيتي" الخاص بها، كأنّها قصيدة وطنية مبعثرة الأبيات.

لا تزيد مساحة مخيم شاتيلا عن كيلومتر مربع واحد ويسكنه أكثر من 8500 لاجئ مسجل في سجلات وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، إلا أن إحصائيات غير رسمية تتحدث عن أن عدد قاطنيه يتجاوز 12000 نسمة. 

"ولنا أحلامنا الصغرى"

على أحد جدران مخيم شاتيلا، تستوقفك عبارة و"لنا أحلامنا الصغرى" للشاعر محمود درويش، لتكمل مسيرك، حتى تصل إلى منتصف المخيم، تعرف ذلك من "جامع شاتيلا"، الملاصق لمقبرة شهداء مذبحة صبرا وشاتيلا الشهيرة (في 16 سبتمبر/ أيلول 1982 على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي وبعض المليشيات اللبنانية)، فهو الفاصل بين الحياة والموت، أو بالمعنى الأدق بين الموت وشبه الحياة.

قبل الإفطار

أصل إلى وجهتي، منزل صغير ملاصق لمنازل أخرى، بابه حديد، وأهله كرماء يستقبلونك بالابتسامات والترحاب وسط كل هذا الألم.

"أهلاً وسهلاً"، ترحّب بي وفيقة لوباني (45 عاماً) ثم ترمي ابنتها فرح بنفسها عليّ، وتقول لي: "خالتو شكراً إنك جيتي عنا". حرارة ودفء تشعر بهما في المكان وبين أفراد الأسرة.

للبيت مدخل صغير تتفرّع منه 3 غرف صغيرة: الصالون، وغرفة النوم، ومطبخ لا يشبه المطابخ، إلا لأن فيه غاز طبخ ومغسلة، ويكاد لا يتسع إلا لشخص واحد.

على أحد جدران مخيم شاتيلا تستوقفك عبارة و"لنا أحلامنا الصغرى" للشاعر محمد درويش، لتكمل مسيرك، حتى تصل إلى منتصف المخيم، تعرف ذلك من "جامع شاتيلا"، الملاصق لمقبرة شهداء مذبحة صبرا وشاتيلا الشهيرة

أدخل الصالون، يلفتني كمّ الصور المعلقة على الحائط للزوج والزوجة وأبناء، وآيات قرآنية، وتلفاز، لكن لا وجود لساعة. هنا الناس يعرفون الوقت من نداء الجامع لأداء الصلاة.

يقول رب الأسرة رجب بسيوني (55 عاماً): "داخل هذا البيت ربّيت 7 أطفال، كما ربّيت حفيديّ. الجميع الآن تزوج، بقيت ابنتي الصغرى فرح، ومتل ما بقولوا آخر العنقود سكر معقود.. فرح تملأ عليّ حياتي".

بعد انتهاء نقاش عائلي، حول صنف الإفطار الذي سوف يُعد، يخرج بسيوني، العاطل عن العمل، إلى المقهى المجاور، حيث يجتمع الرجال قبل الإفطار للحديث حتى يمر الوقت. في حين تخرج وفيقة وابنتها فرح إلى سوق صبرا لشراء المواد الغذائية لإعداد وجبة الإفطار.

الطريق الفاصل بين بيتها وسوق صبرا حوالي 100 متر، إلا أنها في كل متر تقف لتتبادل التحية مع الجيران والحديث عن وجبة اليوم، وغلاء الأسعار.

تصل إلى السوق المزدحم وتبدأ المفاوضات مع الباعة، تجادلهم ويجادلونها، لتنهي حديثها بمزحة "شو يعني برهن كليتي لأدفع ثمن باقة بقدونس"، وتستدرك قائلة: "الأسعار مرتفعة جداً، إذ إن تكلفة صحن تبولة تبلغ حوالي 150 ألف ليرة لبنانية، ولكن إذا بقينا نسأل عن الأسعار لن نأكل". تنهي مشترياتها وتعود إلى المنزل للتحضير للإفطار.

تقول وفيقة: "هذا روتين يومي خلال شهر رمضان، أعود من عملي الساعة 2 ظهراً، تكون فرح بانتظاري بعد عودتها من المدرسة في الساعة الواحدة، نتناقش حول وجبة الإفطار، ثم نخرج للتبضع ونعود".

وتضيف: "الحمد الله، رمضان هذا العام سهل مقارنة بالأعوام الماضية، لأن الطقس مقبول نسبياً، وسبحان الله، يمر الوقت سريعاً". وتتابع والفرح بادٍ عليها: "هذا العام، فرح بدأت بالصوم حتى المغرب. سابقاً كانت تصوم إلى الساعة 12 ظهراً، ولكنها كبرت اليوم. صارت صبية".

من جهتها، تعرّف فرح (9 أعوام) عن نفسها بالقول إنها في الصف الثاني بمدرسة رام الله التابعة لوكالة الأونروا، وقد بدأت هذا العام بصوم رمضان حتى مغيب الشمس، لأنها كبرت. وتضيف: "أشعر أحياناً بالعطش، ولكن ألهي نفسي بالدراسة ومساعدة أمي بالتحضير للإفطار... لقد أصبحت كبيرة، وأنا أحبّ الله، لذلك أحب أن أصوم في هذا الشهر الكريم".

ينادي المؤذن لصلاة العصر، تُخرج فرح من أسفل المجلى طاولة صغيرة، تصعد عليها لتصبح بعلو المغسلة وتتوضأ، ثم تلبس ثياب الصلاة وتفرش سجادة وتتجه إلى القبلة، وتصلّي، وعند الانتهاء تأخذ قرآناً وتقرأ سورة قصيرة، مثل الفاتحة.

تتبعها أمها بالصلاة وقراءة ما تيسّر من القرآن الكريم. تقول وفيقة: "هذا الشهر الوحيد بالعام الذي تغلق فيه النار وتفتح فيه أبواب الجنة، تكون الدعوات مستجابة، وأنا أدعو الله أن نعود إلى فلسطين، وأن تحرر بلادنا".

تضيف: "عندما أمسك القرآن لا يسعدني إلا التفكير في المرابطين والمرابطات بالأقصى، هذا يخفف عليّ وقت الصيام ومصاعب الحياة. أقول لنفسي دائماً: كيف هم يتحمّلون كل هذا في سبيل الله؟ لذا عليّ أن أقتدي بهم وأكون قوية". وتستطرد: "كانت أمي في رمضان تتجه في كل صلاة بالدعاء للأقصى، وأنا اليوم أيضاً أذكرهم في صلاتي ودعائي، وأعلّم ابنتي كذلك الدعاء لهم".

عند حلول الساعة السادسة، تحضر المرأة الخضراوات لطبق التبولة بعد تنظيفها، ثم تقشر البطاطس، وتجهّز الشوربة، أما الطبق الرئيسي فيترك للنهاية، لأنه، بحسب وفيقة، يجب أن يقدم ساخناً إكراماً للضيف.

لا تزيد مساحة مخيم شاتيلا عن كيلومتر مربع ويسكنه أكثر من 8500 لاجئ مسجل في سجلات الأونروا، إلا أن إحصائيات غير رسمية تتحدث عن أن عدد قاطنيه يتجاوز 12000 نسمة

بالتزامن، يعود رجب إلى المنزل، وتقسّم المهام، الجميع يشارك، إما في وضع الطعام أو إعداده، فالقاعدة الأساسية هي أن التعاون واجب.

يستلم رجب مهمة قلي البطاطس، ويقول وهو مقرفص بمحاذاة قنينة غاز صغيرة يضعها على المدخل: "رمضان كان أجمل بحضور أولادي وبناتي، جلوسهم إلى جانبي كان له طعم آخر، إلا أنها سنّة الحياة"، ويضيف: "مع التقدم بالعمر، تشعر بلذة التفاصيل الصغيرة، كأن تساعد زوجتك بالطعام، تضحك مع ابنتك، في السابق كان العمل ومشاغل الحياة، اليوم أعيش التفاصيل الصغيرة على أنها فرحة لا تعوّض".

10 دقائق على موعد الإفطار، تنادي وفيقة، وهي تبدو كضابط إيقاع في سمفونية رمضانية، ابنتها فرح تسرع وتفرش الغطاء على الأرض، وتبدأ بوضع الأطباق عليه، يخرج رجب البطاطس من مقلى الزيت، ويضعها في صحن.

إفطار وسهرة

ينتهي تحضير الطعام وترسل الزوجة صحوناً مليئة بالطعام إلى الجيران، يطرق الباب أكثر من مرة؛ فالجيران يرسلون أيضاً من طعامهم. دقائق ويجلس الجميع على الأرض وتتولّى وفيقة ترتيب الطعام، وسرعان ما يصدح نداء المؤذن "الله أكبر الله أكبر".

توزع وفيقة التمر وهي تردد دعاء الإفطار، ثم تسكب الشوربة في البداية، فالتبولة، ثم الطبق الرئيسي الحاضر وهو "كبة بلبن"، لكن مع صحون الجيران أصبحت المائدة مليئة بأكثر من خمسة أصناف.

يأكلون في عجالة كأنهم على موعد آخر، وهم كذلك، ما يلبث أن ينهي الجميع الإفطار حتى يرن الهاتف؛ إنهم المغتربون الحاضرون الغائبون بأجسادهم.

يبدأ الأولاد والبنات المشتتون في هولندا والسويد وألمانيا بالاتصال، ليجدوا أنهم "حضّروا" لهم التفاصيل اليومية كوجبة لنهاية اليوم: يتحدثون عن الصيام والإفطار، عن مشكلاتهم الكبيرة والصغيرة، كأنهم موجودون ولم يفترقوا. تطمئن وفيقة على أن الجميع صائم وفي صحة جيدة، وأنا بناتها يحضرن الطعام، وأن الجميع بصحة جيدة.

ولرجب أيضاً أسئلته وأحاديثه، يبدو أكثر شوقاً، تباغته الدموع، لا سيما عندما يتحدث مع ابنته المغتربة في ألمانيا جميلة. في ألمانيا "يفطرون الساعة 10 ليلاً، وهي صغيرة ولديها طفل. كيف عساها تتحمل ذلك".

"يحمل همها" كما يقول، ويضيف متسائلاً: "لماذا يكبرون؟ أتمنى أن أتحمل بدلاً عنها تعب الصيام، وألم الغربة".

ينتهي "مهرجان الاتصالات"، وبعده تجمع بقايا الطعام وتجلى الصحون. وها هو أذان العشاء، لتخرج النسوة والرجال إلى المسجد لأداء صلاتي العشاء والتراويح، وهي من طقوس شهر رمضان.

خارج المسجد تُفرش أيضاً سجادات الصلاة، ويقول أحد المصلين الذي يدعى هيثم: "أحبّ أن أصلي مع أصدقائي وجيراني على الطريق، في هذا موعظة".

قضايا وناس
التحديثات الحية


بعد الانتهاء من الصلاة، تبدأ الدردشات عن أوضاع فلسطين. تقول إحدى النساء: "والله ظلم الذي يحدث في الأقصى، لا سيما أنه خلال شهر كريم"، وتضيف أخرى: "هم المدافعون عن دين الأمة، ربي ينصرهم".


 يعود الصخب إلى المخيم مقروناً بأحاديث الرجال على الطرقات والأطفال يلهون والنسوة يحملن الأطباق. يمر الوقت سريعاً لينبعث صوت المسحراتي عامر، برفقة طبلته، وهو يدعو لنصرة القدس وغزة، وأطفال الحجارة، وعودة اللاجئين إلى فلسطين محررة.

إنه سحر البساطة في المخيم الذي يصرّ قاطنوه على مقاومة كل الظروف الصعبة بالبسمة والأمل رغم قساوة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية.

ذات صلة

الصورة

منوعات

دفعت الحالة المعيشية المتردية وسوء الأوضاع في سورية أصحاب التحف والمقتنيات النادرة إلى بيعها، رغم ما تحمله من معانٍ اجتماعية ومعنوية وعائلية بالنسبة إليهم.
الصورة
المهجر السوري سطام (عامر السيد علي)

مجتمع

تزداد مصاعب السوريين في شمال غربي البلاد، وكأن حرب النظام لا تكفيهم، بل تزيد الكوارث الطبيعية معاناتهم بعد رحلة التهجير القاسية، حتى باتت عائلات بكاملها مجبرة على العمل لأجل تأمين لقمة العيش، في ظل تدني الأجور وقلة فرص العمل، وتفشي الفقر.
الصورة

مجتمع

في مخيّم شاتيلا على أطراف بيروت، لم تتبقّ للشباب الفلسطينيين إلا أحلام محطمّة وأمل وحيد بالهجرة من بلد لم يحتضنهم بما فيه الكفاية حتى قبل أن يفتك به انهيار اقتصادي غير مسبوق.
الصورة
منى زكي في "تحت الوصاية"

منوعات

انتهى رمضان 2023 ومعه مسلسل "تحت الوصاية" الذي ناقش حق وصاية الأم على أبنائها بعد رحيل والدهم وفق القانون المصري، لكن قصصَ ظلمٍ مؤثرة أحياها المسلسل لا تزال تنتشر على مواقع التواصل. 
المساهمون