يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.
(11 نوفمبر)
لا توجد أخبار. لا يوجد مراسلون للقنوات التلفزيونية في مناطق شمال غزّة ومدينة غزّة. حتى الصحافيون هربوا وتركوا المشهد لا ينقل أخبار ضحاياه أحد. كانت الليلة قاسية وصعبة كالعادة. سمعنا صوت بقايا القذائف بعد أن تنفجر تتدحرج على أسفلت الشارع الأمامي للبيت. كانت الاشتباكات في محيط المستشفى الإندونيسي الذي لا يبعد إلا عشرات الأمتار عن منزل عيشة الذي نمنا فيه. بدأ القصف مبكّراً في أول الليل، ولم ينتهِ مطلقاً حتى صحوْنا. لم نعرف ما يجري. ولكن، كالعادة، تقودنا لعبة التخمين إلى بعض النتائج المؤكّدة أن القصف في محيط المستشفى وفي المناطق الواقعة أسفله حيث مدارس الإيواء التي لم تعُد آمنة. بنت المستشفى الحكومة الاندونيسية بتبرّع من لجان إسلامية هناك على شكل نجمة ثمانية، وحملت غرفه وقاعاته وأجنحته أسماء المدن الإندونيسية المختلفة. وهو يعطي انطباعاً بأنه معمارياً يأخذ طابعاً إسلامياً، ويرتكز على تقاليد العمارة من تلك المنطقة. وقد أقام عاملون إندونيسيون في بيتٍ ملاصقٍ للمستشفى، كانوا يتابعون أموره في أثناء عملية بنائه. وكنتُ قد حضرت جلسة بينهم وبين الدكتور نبيل شعث قبل قرابة عشر سنوات، حين عملت القيادة الفلسطينية على إدخال المواد اللازمة لبناء المستشفى. وفي لقائي وزير الاقتصاد الإبداعي الإندونيسي في مؤتمر نظّمته إندونيسيا عن الاقتصاد الإبداعي في جزيرة بالي، قال لي إنه من بنى المستشفى بصفته رئيساً للجنة الإسلامية، وإنه ينوي بناء مستشفى آخر في الخليل، وقد عرفتُ من وزيرة الصحة أنه قيد التنفيذ حالياً. الوزير الإندونيسي رجل أعمال، وزوجته مصمّمة ملابس وصاحبة محالّ موضة شهيرة في المدن الإندونيسية، وكانت قد جاءت إلى المسجد الاقصى في القدس بعد ذلك للصلاة وللدعاء لروح والدها، كما أخبرتْني خلال العشاء الذي نظّمه زوجها للوفود المشاركة.
ليس هناك مستشفياتٌ كثيرة في شمال غزّة، ربما أهمها يظل مستشفى كمال عدوان الذي يحمل اسم الشهيد كمال عدوان الذي استشهد في عملية فردان ببيروت (1973) مع كمال ناصر وأبو يوسف النجار. ومع انتهاء تجهيزات المستشفى الإندونيسي، حُوِّل كل شيء إليه، وبقي "كمال عدوان" خاصاً بالأطفال. ويوجد مستشفى العودة في تلّ الزعتر، ومستشفى بيت حانون. وكان هناك مستشفى بلسم العسكري الذي كان مخصّصاً لمنتسبي القوات الأمنية والشرطية.
حتى الصحافيون هربوا وتركوا المشهد لا ينقل أخبار ضحاياه أحد
يركز الجيش الإسرائيلي في كل الحصار الذي يفرضه حالياً على مدينة غزّة وشمالها، على إخلاء مستشفى الشفاء والمستشفى الإندونيسي، حيث يتعرض لاستهداف مباشر لا يتوقف. لا تمرّ ليلة من دون قصف محيط المستشفي الإندونيسي، ولا يمرّ قصف من دون الإضرار بمرافقه. توقفت الليلة مولّدات الطاقة فيه، وصار لزاماً على الأطباء إجراء عملياتٍ جراحيةٍ باستخدام القناديل أو إضاءات هواتفهم النقّالة الشخصية. ومثل بقية المستشفيات، المستشفى الإندونيسي ليس مجرد مستشفى، بل تحول خلال الحرب إلى مركز إيواء يبحث فيه الناس عن فرص أكبر للنجاة، لاعتقادهم أن مثل هذه الأماكن، المحمية وفق القانون الدولي، يمكن أن توفر لهم الحماية، وكأنهم ينسون طبيعة عدوهم الذي بقر بطون الحوامل قبل 75 عاماً، وهَدَم الكنائس والمساجد وداس الصليب والهلال وقتل الأطفال وحرق الأرض. ومع ذلك، الإنسان نزّاع إلى التفكير بالخير، لأنه يؤمن، بطبيعته وفطرته، الأساس في النفس البشرية الخير. وفي كل مرّة، يُثبت القاتل الكبير الذي يحمل السكّين وينتظرنا على الأبواب أنه استثناء، حتى في الطبيعة البشرية، فالأساس فيه الشر والقتل والذبح. لا أحد يمكن أن يصدّق أن هناك من يقصف مرضى وهم على أسرّة مستشفى.
خلال الانتفاضة الأولى، وحين أُصبت في كبدي، ورقدت في مستشفى الأهلي المعمداني أسابيع، كان الجيش بين فترة وأخرى يداهم المستشفى، ويعيث فساداً وخراباً فيه، وهو يعذّب الجرحى، ويطلق النار عليهم، وقد يعتقل بعضهم وهم ينزفون، غير مكترثٍ بأنهم قد يموتون فجأة، وأن فقدانهم العلاج قد يزهق أرواحهم. وفي أحيانٍ كثيرة، كانت الممرضات يسحبن أسرّتنا ويضعنها في الحمامات، حتى لا يراها الجيش، وكان الجنود المجانين يدخلون يبحثون عن أي شابٍّ مُصاب، للتنكيل بجرحه بساديّةٍ لم تعرفها البشرية، وبهمجية غير مسبوقة.
لا كهرباء في المستشفى الإندونيسي ولا ماء تقريباً ولا دواء. لا شيء. ومستشفى الشفاء تجري محاصرته ومهاجمته بالقصف والتدمير والمذابح في ساحاته بحقّ الأبرياء والمدنيين الذي لجأوا له طلباً للأمن. الجندي الذي داهم المستشفي المعمداني قبل أكثر من 35 عاماً حين جرّتني الممرضة، أنا وشابين، لتخبّئنا في الحمّامات، ها هو يقف في دبّابته يستهدف المستشفى الإندونيسي المظلم المحاصر المليء بالأبرياء والمرضى والمصابين. لعل الضابط الذي أعطى الأمر وقتها باعتقال خالد، الشاب الذي كان قد أصيب قبل يومين من مداهمة الجيش، ولم تستطع الممرضات نقله إلى أي مكان آخر بسبب خطورة وضعه، هو والد ذلك الضابط الذي يشير إلى الدبابات بيديه، لتتقدّم وتدمّر أكثر في محيط المستشفى.
كانت الليلة شديدة. وعبارة مثل هذه تبدو من صنع خيال اللحظة، لأن كل ليلة شديدة، وكل ليلة عصيبة. وياسر يسألني في الليل إذا كنّا حقاً سنعود إلى البيت. والبيت بالنسبة إليه هو حيث والدته وإخوته وأخته يافا، أي في الضفة الغربية. قلتُ: سنعود. ... فيعود ويسأل: متى؟ كيف يمكن لي أن أخبره متى سنعود إلى البيت، ولا طريق نعرفها للعودة إلى هناك. قلتُ: ننتظر أن يفتح معبر رفح. لا تقلق، سنذهب عندها إلى هناك، ونذهب إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى عمّان، ومن هناك إلى رام الله. وجود ياسر معي مصدر قلق كبير، فالفتى الذي لم يبلغ السادسة عشرة لا ذنب له بأن يظلّ في كل هذا الخطر يتعرّض له، وقد يموت فجأةً من دون أن ينتبه ومن دون أن أنتبه أنا. مع ذلك، أبدى رباطة جأش لافتة، وهو يتعاطى مع كل ما يجري. كثيراً ما أحسّ أنه بدأ بالتكيّف، وبالتعامل مع الوضع بوصفه حياةً يجب أن يعيشها. ولكن، أي حياة تلك التي تفيق فيها من النوم لا تفعل شيئاً إلا تبحث عن الأخبار وتُمضي ساعاتٍ، تحاول أن تمسك الإنترنت، من دون أن تنجح، ثم في الليل تنام، أو تحاول أن تنام لتصحو، وتتأكد أنه بخير، وأنك لم تمت. لا لعب ولا لهو ولا إنترنت ولا شيء الآن. فقط حياةٌ تمرّ وأيامٌ تنقضي.
في كل مرّة، يُثبت القاتل الكبير الذي يحمل السكّين وينتظرنا على الأبواب أنه استثناء، حتى في الطبيعة البشرية، فالأساس فيه الشر والقتل والذبح
شعرتُ في صوته بنبرة ملل. قلتُ: لا تقلق، سنفعل الصواب في الوقت المناسب. ... عاد وسأل: لماذا لا نذهب إلى الجنوب. ... قلت: سنذهب إلى الجنوب في طريقنا إلى المعبر. أفضّل أن يكون هذا ضمن سفرنا، وليس لأن الجيش يريد ذلك. ولكني أعرف ما يدور في عقله، فالجيش بات قربنا، وبات صوت الدبابة وهدير مجنزراتها يُسمع بسهولة. قلت له: أعرف أنك زهقت، وأن الوضع صار صعباً كثيراً، ولكن علينا أن نتحمّل. ... هل ستنتهي الحرب؟ من يعرف الإجابة عن سؤاله هذا، ومن يعرف متى ستنتهي فعلاً. قلتُ: أكيد في يوم ما ستنتهي، وستُصبح من الماضي، وستُحدّث إخوتك عن تلك الأيام، وعن كل شيء فعلناه فيها.
في المساء، طحنّا الحمّص من أجل أن نصنع خلطة الفلافل. لا يوجد بقدونس، ولا يوجد كثير من البصل. اقترحتُ أن نضع بعض حبّات البازيلاء المجمّدة المتوافر بعضها في الثلاجة ضمن خلطة الخضار الجاهزة. وبالتالي، تُكسب المخلوط نوعاً من اللون الأخضر. تناوب محمّد وماهر وياسر على طحن الحمص في الطاحونة التقليدية التي نثبتها على دكّة خشبية. لعل أشهر مواسم الطحن هو موسم طحن الفلفل الأحمر، حين كنّا نحضّره للتخزين طوال العام. كما أن لحظة طحن الحمص من أجل الفلافل من اللحظات الأثيرة في الذاكرة. كان جلوسنا على الأرض حول الطاحونة مساء أمس يعيد الكثير من تلك اللحظات التي ما زال التفكير فيها جزءاً من اليقين، أننا نواصل حياتنا ذاتها بلا توقّف وبلا انقطاع. وأنت في لحظاتٍ تشعر بالموت يحيط بك، ولا تزال في حاجةٍ لأن تربط واقعك بالماضي، حتى يبدو كل شيء مترابطاً، وحتى تبدو أيامك جزءاً من الأيام السابقة. قلتُ لنفسي: مررنا بلحظاتٍ شبيهةٍ مؤلمة أيضاً في الماضي. كدتُ أموت أكثر من مرّة، ونجوت في نهاية المطاف. ظنّت والدتي أنها ستأخذني إلى القبر، فأخذتني بعد أسابيع إلى البيت. وفي الاعتداء الوحشي عليّ في أثناء هبّة "بدنا نعيش"، كدتُ أموت، لكنني عدتُ من الموت، وأنا أبحلق في غيمة المستقبل القادمة، ورأيت بعضاً من أيامي تلك. يظلّ دائماً البحث عن المستقبل يحمل مخاطر كبيرة، ويظلّ الإصرار على ذلك هو الدواء الوحيد للتخفيف من آلام تلك المخاطر.
جهّزنا، في الصباح، فطورَنا من خلطة الفلافل التي طحنّاها في المساء. قلى ماهر أقراص الفلافل، وجهّز محمد الفول. جلسنا حول الطبلية الكبيرة في المطبخ، نتناول الفول والفلافل. وكانت تلك الجلسات من اللحظة الجميلة في طفولتنا. لكننا لم نكن نضع هذا القَدر من الفول ولا هذه الكمية من الفلافل. كانت الحياة أشدّ بؤساً. تذكّرت كيف كنّا نوزّع أقراص الفلافل علينا، ونحن نجلس حول الطبلية، وتذكّرت أن هذه اللحظة، على قسوة ما نمرّ به حالياً، تظلّ أكثر خيراً، فلدينا كثير من الفلافل وكثير من الفول.
في لحظاتٍ، تشعر بالموت يحيط بك، ولا تزال في حاجةٍ لأن تربط واقعك بالماضي، حتى يبدو كل شيء مترابطاً، وحتى تبدو أيامك جزءاً من الأيام السابقة
بعد أن انتهينا من وجبتنا، قلت لعيشة: إن شاء الله، بتعمليلنا فطور بعد انتهاء الحرب. قالت مبتسمة: يا ريت. علّق محمد: هذه دعوة أفضل من حجّة. .. ويقصد أن الدعاء بانتهاء الحرب أفضل من تمنّي أن يذهب المرء لزيارة بيت الله الحرام وأداء مناسك الحج. وهو محقّ في ذلك، فمن دون أن تنتهي الحرب، لا يمكن للمرء أن يحجّ. ومع هذا، رغبتنا في البقاء وبحثنا عن النجاة يظل الهدف الأسمى لكل ما نقوم به ولكل رغباتنا وكل أمانينا. لا نريد شيئاً آخر إلا أن تسكت المدافع وتصمت الدبّابات ويتوقّف صوت الطائرات والزنّانات، ونستطيع أن نمارس حياتنا، كما يجب وكما نرغب وكما كانت، وهذه ليست بالأماني المستحيلة.
ما زال الجيش يحاصر مستشفى الشفاء. حاولت، قبل قليل، عائلة من النازحين الخروج منه، قتلتها الدبابة قرب مخبز العائلات. لم يبق من النازحين إلا قرابة 15 ألفاً بعد أن كانوا قرابة 40 ألفاً. يُحكِم الجيش حصار المستشفى، ويمنع أيّ دخول إليه أو خروج منه. يقول شاب لإحدى الوكالات إن المستشفى لا توجد فيه إلا سيارتا إسعاف فقط. والناس تواجه خطر الموت إذا تحرّكوا لجلب الماء. في الحقيقة، كما سيضيف، لا يوجد ماء ولا طعام، والناس يشعرون برُعب شديد. تغطّي سحب الدخان المستشفى، والقصفُ يهزّ كل مبانيه، والحصار يضيق عليه من كل ساعة إلى أخرى، فمنذ الليل بدأ الجيش إطباق حصاره على المجمّع الطبي الأكبر في فلسطين.
اليوم ذكرى رحيل ياسر عرفات. عرفات الاسم والصورة والذكرى والمقولة والحلم والكفاح الذي لم يتوقّف. هذا شعبك يا أبا عمار بحاجة لكلمةٍ منك، تقول لنا فيها إن النصر صبرُ ساعة
اليوم ذكرى رحيل ياسر عرفات. عرفات الاسم والصورة والذكرى والمقولة والحلم والكفاح الذي لم يتوقّف. هذا شعبك يا أبا عمار بحاجة لكلمةٍ منك، تقول لنا فيها إن النصر صبرُ ساعة. تحمِلنا على طاقة الأمل، وتطير بنا إلى سماواتٍ نرى فيها حلمنا يتحقّق. تقول لنا: "يا شعبي"، تلك الكلمة التي ننتظر، لأننا متروكون وحيدين بين أنياب الوحش. يحمل ابني ياسر اسم ياسر عرفات مركّباً. في الطريق إلى غزّة عبر الحواجز المختلفة كان الجنود الشبان حين يقرأون اسمه يطلبون منه العودة، ولا يسمحون لنا بالمرور، بحجّة أنه لا يوجد تنسيق. تنقّلنا بين أربعة حواجز، حتى تمكنّا أخيراً من المرور، حين لم يوقف الجندي السيارة للتفتيش. ما زال اسم ياسر عرفات يثير حساسية لدى أعدائه ممن قاتلهم بضراوة دفاعاً عن حقوق شعبه. يصعُب للفلسطيني أن لا يتذكّر ياسر عرفات. كانت ابنتي يافا لم تبلغ العامين في الحرب الماضية، حين أشارت إلى صورة عرفات في التلفاز، وقالت: "عمّار" وتقصد أبو عمّار. كثيراً ما كانت تُتداوَل مقاطع لصوت أبي عمّار في بداية الحرب، وهو يتحدّث عن شعبه وعن إرادته. وكثيراً ما كان هذا تعبيراً عن الحنين وعن الفقد الموجع وعن شدّة الألم الذي نحسّه في غيابه. حين استُشهد عرفات، كنت في الطريق من غزّة إلى القاهرة، وكان كل شيء يبكى حتى الصمت.
(12 نوفمبر)
نمتُ جيداً. استغربتُ من أن الجميع، حين أفقنا، تحدّث عن قصف عنيف طوال الليل وعن استهدافاتٍ في المخيم. عند الثامنة تقريباً، وضعتُ رأسي على المخدّة ونمت. أول مرّة أفتح عيني كان بعد الخامسة والنصف صباحاً. لعلّ فرج كان يمسك كشّاف جواله، بعد أن توضأ وبدأ يصلي الفجر. وقتها صحوْت. أن أنام من الثامنة مساءً وأصحو عند الخامسة والنصف فهذا نومٌ كثير، أكثرمما قد أتمنّاه في أوقات عادية حتى. قلتُ: سأرجع إلى النوم حتى السابعة على الأقل. ... وأمام الجلبة التي بدأت تعمّ الشارع، بات مثل هذا الأمر مستحيلاً، فالشباب يتحدّثون بصوت مرتفع، بل في مرّات يصرُخون. حين بلغت السادسة، لم يكن أمامي من مفر إلا النهوض من الفراش. كان فرج يجلس على الفرشة يستمع للأخبار من جهاز هاتفه النقّال. كان جهاز الراديو الذي جلبه ليلة أمس معلّقاً على الجدار بجوار مدخل المطبخ، لكنه تقريباً لا يعمل. تستخدمه والدته في الطابق الأرضي للاستماع للقرآن وللأخبار. أقنعها بأن يأخذه حتى نسمع منه الأخبار، واعداً بأنه سيقول لها الأخبار أولاً بأول. حاولنا ليلة أمس أن نلتقط بثّ أي محطة، لكن من دون فائدة. في أحسن الحالات، قد يأتي البثّ دقائق ثم ينقطع، أو يشوّش الجيش الإسرائيلي عليه. أمضينا ساعتين، ونحن نحاول ونحاول، ولكن من دون فائدة. كان لون جهاز الراديو الأحمر الباهت وقطعة المغّيط التي تشد بطاريته إلى جواره، حتى لا تسقط، وشاشة الزجاج الرقيق التي تحمي المؤشّر، كلها تقول إن زمناً طويلاً مرّ على الجهاز وهو يُناضل من أجل أن ينقل الأخبار إلى الناس. لم يصمد "نضال" ليخدمنا في هذه اللحظات الصعبة.
علّق فرح الجهاز، في البداية، لعل البثّ يكون أفضل، فحيث يكون الجهاز مرتفعاً يتحسّن البث، لكن من دون فائدة. قال إن الجهاز كان يعمل قبل يومين. نزل ليجرّب الجهاز في غرفة والدته في الطابق الأرضي، ثم عاد وهو يقول إن الأمر تحت شبيه به فوق، فالجهاز لا يعمل. ها هو يخذُلنا في الوقت الخطأ. أعاد تعليق الجهاز، وأدار مؤشّره، لعله فجأة يعمل، ولعلّه يصحبُنا في عتمة الليل هذا. ومرّ الليل وأنا نائم، لا أدري عن شيء، ولا أعلم إن كان قد التقط أي إشارة وأنا نائم أو لم يفعل، لكن ما أعرفه تحديداً أن فرج وجميع من كان معنا في البيت لا يعرفون أي أخبار عن القصف العنيف والاستهدافات التي تحدّثوا أنها لم تجعلهم ينامون جيداً.
كان محمّد قد نزل إلى الشارع لمشاركة الشباب وقفتهم الصباحية. والآن، لا بد من القول إن الإشارة إلى الوقفة الصباحية قد يكون مخادعاً، فهو يعني أن ثمة وقفة صباحية فقط، وربما وقفة مسائية، فيما الحقيقة أن الشباب يظلّون واقفين وجالسين على الشارع طوال اليوم بلا انقطاع، إذ لا شيء آخر يمكنهم أن يفعلوه إلا تلك الجلسات. لذلك، ربما وجب القول إن محمّد، مثل الآخرين، بدأ وقفاته طوال اليوم في مثل هذه الساعة المبكّرة من الصباح. لم يكن قد اكتمل ظهور الصباح، وكانت العتمة ما زالت تصرّ على ترك بعضٍ منها يلفّ عالمنا. نظرتُ من النافذة ألقي التحيات وأمنيات الصباح على من تقع عيناه عليّ. قلت: السماء غائمة اليوم، فالشمس لم تبدأ بالخروج من مرقدها. في العادة وعند السادسة والنصف، يمكن أن ترى الشمس في مثل هذا الوقت، مثلما كان الأمر يوم أمس وقبل يوم أمس، ولكن اليوم لا وجود للشمس. ثمّة غيوم خفيفة، ليست كثيفة، لكنها تقول إن الجو قد يكون غائماً.
آخر ما يريده الناس في مراكز الإيواء أن تمطر الدنيا، فتبتلّ ملابسهم وتغرقهم الأمطار
لعلّنا لم نستمع للأرصاد الجوية منذ بداية الحرب، ولم نقرأ توقّعات الراصد الجوي. وربما لحسن الحظ أن السماء لم تُمطر حتى اللحظة. لم نر المطر بشكل حقيقي، منذ الحرب. ربما غيّمت الدنيا يوم استشهد حاتم وهدى، ونزل بعض المطر الخفيف، لكنها لم تُمطر كما يجب في شهر تشرين الأول. والآن هنا، نحن نقترب من منتصف تشرين الثاني ولم تُمطر. آخر ما يريده الناس في مراكز الإيواء أن تمطر الدنيا، فتبتلّ ملابسهم وتغرقهم الأمطار، فالمدارس التي لجأوا لها معرّضة للمطر الشديد من جهة الشرفات الطويلة التي تمتدّ على طول الفصول المدرسية. صحيحٌ أن ثمة نوافذ، ولكن حتى هذه النوافذ لم يصمد الكثير منها أمام القصف المستمرّ والعنيف، إذ تساقط كثير من زجاجها. وبالتالي، باتت الفصول التي تؤوي العشرات عرضة للغرق، إن جاءت الأمطار الغزيرة. وللمفاجاة، ربما لم يحدُث هذا من قبل لسنوات خلت، فإن الحرارة مرتفعة بشكل كبير، ولم تنزل يوماً عن العشرينيات، وتظلّ الشمس ملتهبة طوال اليوم بشكل لافت، كأن هذه الأيام قطعة من الصيف الذي ولّى منذ قرابة شهرين. وقد يقول بعضهم هذه بركة ونعمة من الله الذي لا يريد للناس أن "تتبهدل"، ولا يريد لها أن تعاني أكثر وأكثر. وعليه، ستكون أي إشارة لقدوم المطر شارة معاناة إضافية هم في غنى عنها، ولا يريدونها.
حتى من يعيشون في شققِ وبيوت مثلنا، المطر كارثة بالنسبة إليهم، فبالكاد يوجد بيت لم تتساقط زجاج نوافذه أو لم يتم اقتلاع هذه النوافذ من الجدران بفعل الضغط. لا توجد في بيت فرج نافذة سليمة. نوافذ الصالون والغرف تهشّمت بشكل كامل، وبات بعض الجدران مثقوباً بفعل الركام المتطاير، وتفسّخت بعض الجدارن، خصوصاً الخارجية، ولو هبّت ريحٌ شديدةُ قد تصبح هذه التشقّقات مسارب للريح الباردة التي تزيد من برودة الدار، كما أن النوافذ الداخلية في المطبخ والحمّام لم تعد موجودة أيضاً. تفتّت باب الحمّام المصنوع من "الفيبرغلاس" بشكل كامل، وصِرنا نضع ستارة قماشية مكانه. وعلى المرء أن يتأكّد أن لا أحد داخل الحمّام قبل أن يدخله. عليه أن يستأذن، سواء أكان هناك شخص أم لم يكن، فهو لا يدري. والآن، لو هبّ المطر وسقطت المياء غزيرة، سيغرق البيت وستدخل المياه في الغرف وفي الصالون. وسيكون علينا أن نواجه واقعاً جديداً في حياتنا علينا أن نجد حلاً له. قام أدهم قبل يومين بمحاولة تغطية النوافذ المهمّشة بالبطّانيات، ونجح في شدّ بطّانية في مكان نافذة، ودقّها بالمسامير وربطها بالأسلاك. ولكن هذا طبعاً لا يغطّي كل النافذة، إذ يعتمد الأمر على حجم النافذة وحجم البطّانية المستخدمة. ومع ذلك، كان هذا أفضل من لا شيء. الأمر ذاته قام بعمله في غرفة والدة فرج "الحاجة سرّية" في الطابق الأول. ومع ذلك، قد يخفّف هذا، لكنه لن يحلّ المشكلة الاساسية، فتسرب القليل من الماء سيمنعنا من النوم على الفرشات على الأرض. وبالتالي، لن يجد مكاناً لنا كلنا على السرير والكنَب الموجودة. وربما الأهم من ذلك كله ما سيجلبه معه المطر من برد شديد وقارس، لا يمكن لأحد أن يزيحه، فالبيت شبه مفتوح من كل الجهات، والريح والبرد القارس سيدخلان من كل المنافذ، فالبطانيات التي تغطي النوافذ المهمّشة ستبتلّ، وستكون مصدر برد ومصدر ماء. كنت أفكر في ذلك كله، وأتخيّل وضعنا لو أن السماء قرّرت أن تتخلى عنا، وقرّرت أن تمارس طبيعتها بالمطر الآن في موسمه.
تُجري الناس تقديراتها المناسبة وفق ما تراه من خطرٍ قد يحيق بها، وهي تمارس ذلك وفق غريزة خاصة، تختلف من إنسان إلى إنسان
ضربت الطائرات في الليل بيت عائلة العسكري بجوار بيت عيشة. كان ذلك، كما علمتُ، قرابة التاسعة مساءً. لأكثر من شهر، لم يكن أحد في المنزل، إذ رأى سكّانه أن يُخلوه ويعيشوا لدى أقارب لهم، خشية من أن تستهدفهم الدبّابات لوقوعه في المنطقة الشرقية لتل الزعتر الذي يتم استهدافه باستمرار. تُجري الناس تقديراتها المناسبة وفق ما تراه من خطرٍ قد يحيق بها، وهي تمارس ذلك وفق غريزة خاصة، تختلف من إنسان إلى إنسان. لكنهم بعد فترة ربما، وبعد أن سمعوا بوجود الناس المستمرّ في المنطقة، قرّروا أن يعودوا إلى البيت، حتى لا يتركوه وحيداً. وما إن عادوا، حتى أغارت الطائرات على البيت، وقتلت من فيه من رجال ونساء وأطفال، حيث استشهد تسعة من سكانه، وجرح آخرون. وفي ما يشبه المعجزة، نجا كثيرون من موتٍ محقّق، إذ، مثلاً، لمصادفةٍ ما، انتقل الجار للنوم من غرفةٍ مجاورةٍ للبيت المقصوف إلى غرفة نائية في الجهة الاخرى. لم يقصد ذلك، بل قال شيءٌ داخله إن الغرفة الأخرى أكثر تهوية، وإن النوم فيها أفضل. ولحسن حظّه، لحق أطفالُه به. وفيما تهدمت الغرفة التي تركوها، ظلت الغرفة التي انتقلوا إليها سليمة ونجوا. قصص النجاة أجمل ربما ما في لحظات الموت، لأنها تعطي مزيداً من الأمل، وتُبرق، ولو بوهن، نحو المستقبل.
جرى أيضاً استهداف محلّ المقيد، المشهور ببيع أكسسوارات النساء من عطور ومواد تجميل وتنظيف خاصة بالنساء. وهو محلّ له أكثر من فرع في المخيم وخارجه. حين مررتُ على السوق قبل قليل، شاهدت البناية التي كانت محلاً ضخماً أعرفه، ودخلته أكثر من مرّة، نائمة وخاوية ومتهالكة، وقد أتى القصف عليها. كان الشبّان يقفون حول البناية في السوق الأكثر اكتظاظاً، فيما آخرون منشغلون بذبح عجل لتقطيعه وبيعه، ويبيع آخرون المجمّدات، خصوصاً سمك "بالكالا" وأجنحة الدجاج وبعض اللحمة المجمّدة التي فُرمَت على شكل "كفتة"، فيما يزن بائع الجبن البلدي القطع لزبائنه. حياة تتهدّم وحياة تستمرّ. حياة لا تنتهي، لأن أحداً لا يملك أن يُنهي حياة الناس. القليل من الكلام، الكثير من الانشغال بالبحث عن الطعام وعمّا يقي المعدة التحجّر. قال محمود في الشارع مازحاً: أقترح أن نصوم كلنا ولا نأكل إلا وجبة واحدة وقت رفع أذان المغرب. ... بالطبع، يبدو أن الجميع لا يأكلون إلا وجبة واحدة هذه الأيام، ولكن ما اقترحه تنظيم الأمر حتى لا يبدو تقشّفاً من بعضهم بل عبادة. مرّت المزحة مرور الكرام. وفي الحقيقة، تكاد تلك الوجبة الوحيدة التي يتناولها الجميع تكون معدومة، وصار تأمينُها صعباً للغاية، في ظل شحّ ما يصل من موادّ غذائية إلى شمال غزّة.
لا يوجد في السوق إلا ما أشرت إليه من بضائع مجمّدة، بما في ذلك بعض الخضار المجمّدة وبائع الجبن والعجل الذي ذبحه صاحبه وسلخه، وبدأ بمساعدة الشباب في رفعه، حتى يقطّعه، وأيضاً بعض بائعي الليمون وحبّات البرتقال الخضراء. كان السوق قبل يومين عامراً أكثر، وكانت البضائع أكثر، خصوصاً الدجاج والديك الرومي وبعض الطيور في زاوية صغيرة، أما الآن فلا شيء تقريباً. يوماً بعد آخر، يفرغ السوق. ويوماً بعد آخر، يصير البحث عن ما يُؤكل أمراً صعباً، فالطحين، مثلاً صار شبه معدوم، والكيلو الواحد الذي لم يكن سعره يزيد على خمسة شواقل صار باثني عشر شيكلاً، وبالكاد يمكن أن تجده.
المخيم بحدّ ذاته حكاية تواصل كل التاريخ الفلسطيني، فحاراته تحمل أسماء القرى والمدن التي اضطرّ أهلها إلى الرحيل عنها قبل 75 عاماً
يتواصل الحصار على المستشفى الإندونيسي قرب تل الزعتر شرقيّ المخيم، ويتواصل كذلك على مستشفى الشفاء. ويواصل الجيش تحذيره بضرورة التوجّه جنوباً. ومع ذلك، تتواصل الحياة في المخيم، وما زال آلاف المواطنين فيه لم يغادروا. كثيرون منهم غير مقتنع بالفكرة، وآخرون يشعرون بالقلق من فكرة الذهاب إلى هناك، لشدة الاكتظاظ ولعدم وجود مرافق بشكل ملائم، إذ في الأخبار التي ترد ممن ذهب أنهم يعانون أيضاً في الاصطفاف على طابور الحمّام وعلى الحصول على الطعام. ... هنا حصار وهناك حصار وهنا حياة وهناك حياة، علّق أحدهم. وإذا كان لا بد من الذهاب و"البهدلة"، من المبكّر فعل ذلك، حين نكون مضطرّين بشكل نهائي نقوم به. كان كثيرون يفكّرون بهذه الطريقة أنهم غير مضطرّين لأن يعيشوا حياة الذل بإرادتهم. أما مشهد الخروج الاضطراري فيُدمي القلب وتدمع له العين. وإذا كانت النكبة يجب أن لا تحصل مرّة أخرى، فإن ما يجري يجب أن لا يحصل، ويجب وقف ذلك كله، ويجب قول لا كبيرة في وجه مشروع التهجير. صحيحٌ أن الجنوب والشمال قطعة واحدة من فلسطين، ولكن لا أحد يضمن أن من يغادر سيعود. يطالب بعض المستوطنين بتحويل شمال غزّة إلى حديقة ومتنزّه واسع. وهذه عادة القاتل أن يحوّل قرى كثيرة إلى متنزّهات، كما فعل في قرية يالو، حيث تحولت إلى متنزّه كندا على طريق يافا القدس.
نحن نتقدّم إلى الخلف، ولا نسير إلى الأمام طبعاً. ليست حياتنا ملكاً لنا، ولا نقرّر بشأنها، لكننا، على الأقل في المتاح القليل لنا، نحاول أن نصوغ بعضاً من معالمها، حتى حين يأتي الوقت نستطيع أن نسير على الدرب الذي نريد لنُصبح يوماً ما نريد، وحتى يتبقى لنا الكثير، الكثير الذي نقدر فيه أن نواصل الحياة في البلاد التي وُجدنا عليها منذ آلاف السنين، والتي حاول عشرات الغزاة أن يسرقوها منّا، منهم من جاء باسم الوعود المقدّسة، ومنهم من جاء باسم دماء أريقت عشية العشاء الأخير، ومنهم من جاء طمعاً بممرّاتٍ آمنة نحو مستعمراته، ومنهم من جاء لأن حكايات وأساطير أوجدها عاشت في أرضٍ شبيهة. ومع ذلك، ظلّت لنا وظللنا فيها من دون أن نصنع سبباً أو نقطع عهداً مع السماء بقينا، لا لشيء آخر لنا في أي مكان إلا هنا. لن نقول لغيرنا بلادُكم بلادُنا، ولا نريد أن نرى مدناً أخرى لنا كيافا وحيفا وعكّا والقدس ونابلس وصفد والمجدل وبئر السبع. أعطينا مدننا أسماءها من تاريخ وجودنا فيها، وارتبط كل شيء فيها بنا كما ارتبط وجودُنا بها.
المخيّم بحدّ ذاته حكاية تواصل كل هذا التاريخ، فحاراته تحمل أسماء القرى والمدن التي اضطرّ أهلها إلى الرحيل عنها قبل 75 عاماً. ظلّت يافا في حارة اليافاوية، وظلت بئر السبع حارة البدو، وظلت المجدل في حارة المجادلة، وظلت دير سنيد في السنايدة، وظلت هوج في الهوجا، وظلت بيت دراس في البدارسة... وهكذا في سلسلةٍ لا تنتهي من هذا الوجود والاستمرار. قبل قليل، قُصفَت مدرسة تابعة لوكالة الغوث، حيث يأوي الناس. إنها المدرسة التي انتقلت عيشة للتدريس فيها مع بداية العام، بعد أن ظلت تدرّس في بيت حانون ست سنوات. لا شيء يسلم من هذا الموت، ولا حدود لرغبة القاتل في القتل، ولا خطّ فاصلاً بين التوحّش وما يقوم به، فكل شيء مستباح، وكل شيء يجب قتله، وكل روح يجب أخذُها، وكل ما أوجد الخالق يجب اقتلاعُه.