يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.
(25 ديسمبر)
مجزرة أخرى في المغازي والبريج. أحزمة نارية استهدفت مربّعات سكنية كبيرة ومدارس يأوي إليها الناس. تحدّثت الأخبار الأولية ليلة أمس عن أكثر من 70 شهيداً تم إخراجهم من تحت الأنقاض، فيما آخرون ينتظرون انتشالهم. في الصباح، سيرتفع تعداد الشهداء إلى 120، أكثرهم في القصف الذي استهدف مخيم المغازي. صور الأطفال النائمين ينظرون إلى السماء حيث باغتهم الموت وهم يطيرون من سقف المنزل يبحثون عن أحلامهم، السقف الذي نزل عليهم حمماً وجحيماً، وصور النسوة اللاتي أنهكتهن سيرة النزوح وقسوة تفاصيل الحياة بعد ترك المنزل، فخطفهن الموت في ذورة عجزهن عن مواصلة المسير، والشيوخ الذين اقترب منهم الأجل، فظلوا يقاتلون من أجل رشفة أخرى من ماء الحياة. الصور التي تُدمي القلب وتُربك العقل. في الصباح، تم وضع الجثث جميعها أمام بوابة مستشفى شهداء الأقصى الداخلية، وتمت الصلاة عليهم قبل أن يُدفنوا في قبور جماعية. الحياة بآلامها مشتركة، والموت بآلامه مشترك أيضاً. لا أحد يمكن أن يفسّر الموت، ولا أحد يمكن أن يقدّم تبريراً لقتل المئات والآلاف. أحد قادة الاحتلال مرّة قال إذا أردتَ أن تخرج إبرة من كومة قشة احرق كومة القش. الدماء والقتل هي المنطق الوحيد الذي حكم تصرّفات الصهيونية منذ نشوئها، والمنفعة على حساب حيوات الآخرين هي ما قادت دربها الملطّخ بالدماء والمليء بالدمار والخراب. تحرق كومة القشّ فتجد الإبرة أو تحترق الإبرة. تفسير عنصري ودموي يمكن وحده أن يشرح المزيد من مكوّنات العقل التخريبي اللإنساني الذي يقود دولة الاحتلال، ويقود المشروع الإحلالي الكولونيالي الذي تنفّذه الصهيونية في البلاد. المشروع نفسه الذي أطلقت فيه جارة جدّتي اليهودية النار عليها في معارك النكبة، بعد أن آواها والدها من الفقر والجوع قبل 30 عاماً.
تساقطت الشظايا على الناس في مدارس النزوح، وقُتل منهم من قُتل وأُصيب من أُصيب. حتى الخيمة تشكل تهديداً لحياة الناس، فهي لا تحميهم من شيء، ولا حتى من البرد والريح. كل شيء غير آمن، وكل شيء قد يأتي منه الموت، أو قد يتآمر مع الموت ضدّك. وكل مكان قد يكون آخر مكان تقيم أو توجد فيه. أنت لا تعرف ما الذي سيحلّ بك بعد دقيقة. قد تكون خيمتك قبرك الأخير، وقد يكون الزقاق الضيق آخر ما ترى من العالم، وقد يكون انتظارُك على طابور الماء قرب المحطة أو أمام عربة يجرّها حمار آخر انتظارا للموت، من دون أن تعرف. تقف في انتظار أن تملأ غالونك بالماء حتى تشرب وتنتعش، فيما تكون في الحقيقة تنتظر الموت حتى يأخذك. ما أجمل شعورَك مثلاً حين ترى طابور الفلافل قصيرا فتهرع بفرح لتقف وسط الأطفال والرجال والنساء، حتى تحصل على الأقراص القليلة التي لا يوجد فيها لا بقدونس ولا سمسم ولا شيء من كلفة الفلافل الذي تعرفه، فقط شكلها يقول إنها فلافل. المهم أن تجد معدتك ما يمنعها من أكل نفسها. ما أجمل شعورك حين يطلّ الحمار يحمل خزّان الماء البلاستيكي. تبتسم في وجه الحمار كأنك ترى صديقاً لم تره منذ زمن. ثم تقف فرحاً تنقل الماء من الخزّان فوق عربة الحمار للخزّان قرب الخيمة. ثم تودّع الحمار بنظرة امتنان. ما أجمل شعورك بالدفء حين تلفّ نفسك ببطّانية حصلت عليها لتوّك فيتوقف جسدك عن الشعور المرير بالبرد. ثم تتذكّر أن ثمّة من هم نيام في خيامٍ مجاورةٍ لا يشعرون الشعور نفسه ولا يعرفون طعم الراحة ولا فكرة الدفء. ومع ذلك، تشعر بأن هذه البطانية الجديدة تساوي كل أجهزة تكييف العالم.
لا شيء يحمي الناس من الموت. يُدركهم وهم لا يعرفون متى سيصل، رغم أنهم طوّروا استراتيجيّات التكيّف مع فكرة وصوله المفاجئ. لكن الإنسان يُصاب باليأس في مرّات كثيرة ويتملكه الإحباط ولا يعود يهتم كثيراً. مع الوقت، بدأتُ، مثل كثيرين، كل يوم أرسم طريقاً للنجاة، الطريق تقودني في يومي، وتُحافظ على نمط تصرّفي بما يكفل أنني لن أعرّض نفسي للموت. لن أذهب إلى الموت مشياً ولا هرولة. لكن الموت هو من يذهب إلى الناس. هو من يسرع إليهم. هو من يأخذهم. كنت أفكر في هؤلاء الذين تمكنوا من النجاة 80 يوماً ثم أمسك بهم الموت بقسوته المعهودة. تنقلوا من مكانٍ إلى آخر وهربوا من شارع إلى شارع ورحلوا بين المدن والبلدات والمخيّمات، ثم وجدوا أنفسهم يقفون أمام الموت كأن كل ما كانوا يفعلونه هو البحث عنه فوجدوه. ووجدوه بقسوته المعهودة وبمخالبه الحادّة. لم يبتسم لهم. لم يقل كلمة. فقط واصل التحديق في عيونهم غير مصدّق أنهم جاءوه بأرجلهم، وأنهم جاءوا متأخّرين قليلاً. لكنه سيغفر لهم فهو مشغولٌ بشكلٍ كبيرٍ في عمله الكثير، وهو يعرف أنهم، في نهاية المطاف، كانوا سيأتونه.
الموت هو من يذهب إلى الناس. هو من يسرع إليهم. هو من يأخذهم
سألتُهم في الخيمة: ماذا لو سقط صاروخ علينا الآن؟ كان الافتراض قاسياً، لكنهم رغم الكشرة التي اعتلت وجوههم أدركوا أن هذا ممكن الحدوث. ما الذي يمكن أن يمنع هذا من الوقوع؟ لا شيء، فهو قد يقع الآن أو بعد دقيقة. كونه لم يحدُث قبل ذلك لا يعني أنه لن يقع أو أن وقوعه صعب. واصلوا التحديق في العتمة، حيث عيونهم تحاول أن تخرج وراء الخيمة تبحث عن الموت خوفا من أن يكون يتربّص بنا، ثم قال أحدهم: سيموت كثيرون. ... وشو الفرق؟ سألت. "ما بتفرق معهم شي". كنت أفكر بالمئات الذين ماتوا في حارتنا خلال قصة منطقة السنايدة في أول أسبوعين للحرب. وكنتُ أفكر بمن ما زالوا تحت الركام. ردّ ثالث: على الأقل، نحن في الخيام، لن تبقى جثثنا تحت الركام سيجدوننا بسرعة. ... ابتسم آخر وهو يقول: وما الذي سيضمن أن يكون لنا جثث فقد نتطاير شظايا. ... صورة مرعبة لكنها أيضاً حقيقية. تمنّيت لو أنني لم أفتح النقاش بسؤالي عن احتمالية سقوط صاروخ علينا في الخيمة. تخيّل فعلاً لو سقط صاروخٌ وسط المخيم لن تقينا الخيام، ولن توفّر لنا أيّ حماية، وفيما لن تتساقط علينا أسقف البيوت ولا أعمدة الباطون، فربما لن يبقى منا شيء، وقد لا يكون فعلاً لنا جثامين يدفنونها. أفكار سوداء لكنها واقعية، وكلما وقعت المزيد من المذابح، وفي كل مرّة نسمع فيها عن مذبحة يصبح التفكير في الأمر ممكناً، خصوصا أن الحرب مستمرّة، ولا يوجد أي أفق أنها ستتوقف.
بدأ إبراهيم يسرد علينا أسماء من استشهدوا في مجزرة المغازي ممن نعرفهم من مخيّم جباليا، وكانوا قد نزحوا إلى مدارس وكالة الغوث هناك. مرّة أخرى، قلت له: ربما من الأفضل أن يقوم بذلك، فهذا يؤلم ويترُك غصّة أكبر. لنفكر في الأمر بشكل عام، من دون أن نخوض في تفاصيل نعرفها، حتى يظلّ مجرّد ألم عام. الألم الشخصي يوجع أكثر. وهل ثمّة فرق في هذه اللحظة بين الألميْن، العام والشخصي؟ أيضاً السؤال شيء من الترف في مثل هذه الأوقات. لا أعرف كيف نمت، وأنا أتخيّل كل ما جرى ويجري، وأنتظر الصباح حتى ينتهي الليل، ثم أعود أنتظر أن ينتهي الصباح حتى يعود الليل. حياتنا أيام تمضي من دون أن ننتبه.
بدأت الدبابات بالتحرّك باتجاه الأحياء الشرقية في مخيم البريج. تساقطت القذائف على رؤوس المواطنين، وهم في منازلهم وفي أماكن نزوحهم. كان على الكثيرين النزوح بحثاً عن النجاة. تحرّكوا باتجاه الغرب جهة النصيرات، رغم أن "النصيرات" ليس مكاناً آمناً أيضاً، فكثير من القصف والقذائف تسقط على رؤوس الناس هناك، ومذابح عديدة وقعت هناك. الخطة الإسرائيلية أن تدفع كل من هم شرق شارع صلاح الدين باتجاه الغرب، وبالتالي السيطرة على كل مناطق شرق غزّة. هذا يشمل مناطق، مثل البريج والمغازي في المحافظة الوسطى، وعبسان وبني سهيلا وخزاعة في خانيونس والشوكة في رفح. وهذا سيعني زيادة الضغط على كل من رفح ودير البلح، حيث حددهما الجيش أماكن آمنة لنزوح المواطنين، رغم أنه لم يتوقّف يوماً عن قصفهما، فدير البلح تعرّضت منطقة البركة فيها لقصف مساء أمس، نتج عنه استشهاد مواطنين كثيرين، كذلك مناطق رفح المختلفة تتعرّض للقصف المستمر من الشرق ومن الغرب. لا مكان آمنا بشكل جزئي ولا بشكلٍ كامل. كل مكان في قطاع غزّة هدف محتمل للقصف، والطائرات لا تتوقف عن مراقبة كل شيء، ومراقب الطائرات في القاعدة العسكرية جاهز، لأن يقتل كل ما لا يروق له. يزداد الازدحام مع وصول مزيد من النازحين الذين لا يجدون مكاناً يقيمون فيه، وبعضهم قد يبيت في الشارع ليلة أو اثنتين، حتى يتدبّر أمره، ويجد خيمة أو يقيم خيمته.
ثمّة أحاديث عن نيّة إسرائيل إقامة منطقة أمنية عازلة على طول الحدود الشرقية لقطاع غزّة، وعلى طول الحدود الشمالية للقطاع كذلك. منطقة لن يسمح فيها بوجود فلسطينيين، وسيتم إفراغ هذه المنطقة من سكّانها وتجريف الحقول والمزارع فيها. وفيما إسرائيل لم تنسحب من غزّة حتى خلال كذبتها الكبرى أنها انسحبت منه عام 2005 فهي قد أعادت انتشار قواتها داخل القطاع وعلى حدوده، فإنها خلال الحرب أعادت، بشكل أكثر كثافة، احتلاله، وسينتج عن هذه المناطق الأمنية العازلة المزمع إنشاؤها إعادة تموضع داخل المناطق كثيفة السكان. والقطاع صغير المساحة شديد الكثافة، لن يحتمل المزيد من الضغط السكاني، لأن ترحيل مزيد من الأهالي باتجاه الغرب سيُحدث أزمة سكانية كبيرة. مثلاً، يقع مخيما البريج والمغازي، بشكل مباشر، على الحدود، وقد يتم إفراغهما وفق هذا المخطّط من سكانهما. الموضوع الأكثر هيمنة على نقاشات الناس هو مذبحة المغازي والبريج، والخطط لاحتلال المناطق الشرقية. قال لي صديق، قابلته في شارع رفح العام ظهيرة اليوم، إننا سنكون مثل علبة السردين في منطقة واحدة غرب رفح. شريط ساحلي ضيق سيتم حبسنا فيه. سألني بتوتّر اللحظة: "وين إنت مقيم؟". قلتُ: قرب بركسات الوكالة. ... ابتسم، وقال مكان آمن قرب الوكالة. ثم أضاف: كلما كان الإنسان في المنطقة الغربية كان في مكان آمن أكثر. ابتسم بقلق أيضا: "روح للغرب بتكون آمن أكثر".
الجميع مشغول بالعيد، فقط كنائس فلسطين حزينة ويسوعها يبكي على أبناء شعبه
لم تكن العبارة بريئة طبعاً، لكنها بدت منطقية في ظروف الحرب، رغم ما حمّله للكلمات من إحالاتٍ أبعد من نقاشنا اللحظي. ما زلتُ أفكّر في والدي. لم أتوقف عن التفكير به لحظة. يؤلمني أنني لا أستطيع فعل شيء لمساعدته. لم أسمع صوته منذ أسابيع. عماد، أحد أقربائنا الذين ظلوا في المخيم، صار يتصل بنا من هاتفه، حيث يمكن التقاط إشارة من بعض الأماكن في المخيم. الجيش يدخل ويخرج من المخيم وحركة السكان باتت أكثر أمناً على الأقل صاروا يعرفون متي يدخل الجيش ومتى يخرج، ولمّا تدمّرت جل الأماكن في الحارة، صار الوضع متشابهاً. قال إن والدي بخير. ... هل يمكن الحديث معه؟ ردّ بأن الإشارة لا تمسك في الحارة، وأن عليه أن يسير باتجاه الحارات الغربيّة في المخيّم حتى يلتقط الإشارة. لكنه أكد أنه رأى والدي هذا الصباح وتحدّث معه. لم أعرف إن كان يخفف من قلقنا، أنا وإبراهيم ومحمّد، ونحن نسأله أم كان فعلاً والدي بخير كما قال.
كنتُ في الطريق إلى الخيمة قرب مقر جامعة القدس المفتوحة في تل السلطان. كانت رقاب الناس مشرئبّة للسماء. الكل ينظر إلى فوق، حيث طائرة زنّانة على مسافة منخفضة تحلق فوقنا. كانت واضحة بشكل كبير، وبشكل لم نعتد عليه، وكان صوتها عالياً، ويثير رعباً إضافياً للمشهد المخيف الذي يفرضه حضورها العلني هذا. كان الخوف واضحاً، والموت يبدو قريباً والكل ينتظر الصاروخ القادم الذي سترسله. الكل يفكّر في اللحظة التي قد يسقط فيها الصاروخ في الشارع المزدحم الذي نسير فيه، وما الذي يمكن أن يفعله بنا إن سقط ومزّق أجسادنا. ما الذي يمكن أن يحدُث لو متنا كلنا فجأة؟ هل من سينجو منّا؟ ومن يكون ليروي ما جرى حين كنّا ننظر كلنا إلى الطائرة التي تقترب منا وتنشر رعبها حولنا. كيف لمن نجا 80 يوماً من الحرب أن يموت هكذا في أيام الحرب المتقدّمة. هل هي أيام الحرب الأخيرة؟ ربما تكون الشهور الثلاثة الماضية مجرّد أول ثلاثة أشهر في عمر الحرب، وثمّة أشهر أخرى مقبلة. وربما ثمّة أيام صعبة أخرى مقبلة. صحيحٌ أننا في رفح والمدينة الأقل بالمقارنة تعرّضاً للقصف وللتدمير حتى اللحظة، لكن هذا كله قد يتغيّر في لحظة، وقد تصبح رفح مركز الاستهداف الأكثر كثافة ودموية. لا أحد يعرف. كيف يمكن للمرء، بعد كل هذا الرعب، أن ينظر إلى الطائرة، ويرجوها أن ترسل الصاروخ وتنهي المهمّة. البحث عن نهاية مريحة للجميع.
هل هذه نهاية الحرب؟ هل هي نهايةُ شيءٍ ما؟ ثمّة محادثات في القاهرة وبعض الإشاعات تشير إلى فرصة لهدنة ثانية، وتتحدّث بعض الأخبار الواهنة عن نهاية الحرب. الآن، مؤكّد أن الحرب لن تنتهي في أعياد الميلاد، كما كان بعضهم يشيع، والجيش لن يوقف عملياته بسبب الاحتفالات بأعياد الميلاد. بل زاد من كثافة القتل، لأن الجميع مشغول بالعيد، فقط كنائس فلسطين حزينة ويسوعها يبكي على أبناء شعبه. طالما لن تنتهي الحرب في الأعياد، ولا في رأس السنة، تخيّلنا تاريخا جديدا محتملا لانتهائها. هل سيكون رمضان؟ كم يبدو هذا مرعباً. كل شيء يبدو مرعباً. سقط الأمر كقنبلة علينا في الخيمة. كان على أن أقول شيئاً يخفّف من الكارثة التي بات الجميع يفكّر فيها حيث سنبقى هنا لثلاثة أشهر أخرى: قلتُ: لا يبدو منطقياً أن تستمر إلى رمضان. "يعني ما راح نرمضن هون"؟ سأل أحدهم. لا أحد يعرف نهاية الحرب. كان الحوار في القاهرة مادّة سهلة ليتم تجاوزها في زحمة القلق، خصوصا أن ما يجري على الأرض يقول عكس ما تقوله الأخبار. سأل ياسر بخجل: "واحنا متى راح نروح على القاهرة"؟ قريباً، قلت. ربما قريباً قريباً وإلا قريباً بعيد جداً. لا أعرف.
(26 ديسمبر)
صار السير في شوارع المخيم الجديد في ساعات الصباح الأولى عادة. لا يمكن تخيّل أن المخيّم يصحو مبكّراً بهذا الشكل. فعند السابعة، يكون الشارع مكتظاً بشكل كبير. الناس تصحو مبكّراً. عندما زرت فرج في خيمته داخل البركسات اشتكى أنه لا ينام كثيراً. بل لا ينام إطلاقاً فالخيام المفتوحة من فوق، لأن سقف البركس مشتركٌ للجميع يحميهم من المطر، لا توفر أدنى نوع من الراحة. الكل يسمع الكل وطفل واحد يبكي في الليل يوقظ المئات النائمين في الخيام المجاورة. لا يوجد أي نوع من الخصوصية. فأنت لا تنام في خيمتك فقط، أنت تنام عملياً مع الجميع. كان يتثاءب والنعاس يلتهم عينيه، وهو يسألني السؤال الذي لم يفارقنا: هل كان من الصواب انتقالنا إلى الجنوب؟ استعدتُ النقاشات الطويلة الكثيرة التي خضتُها مع بلال قبل استشهاده، عن البقاء أم الذهاب إلى الجنوب. لا شيء يفارقنا ولا شيء يتغير، لكن قلقنا هو ما يحرّك كل هذه التفاصيل حولنا.
أول مرة أشاهد بائع الحليب. مرّ الرجل مع طفله يجلسان على عربة يجرّها حمار. فوق العربة إناء كبير فيه الحليب الذي ينادي عليه الطفل. حليب طازج. يقف الصبية أمام مقلاة الفلافل. وصار الرجل يبيع الفول إلى جانب الفلافل، بحيث صار يمكن لك أن تشتري الفول والفلافل وتعود إلى البيت، مثلما كنت تفعل في الأيام العادية. وكان الأطفال والرجال يحملون صحون الفول بيد وقرطاس الفلافل باليد الأخرى، ويسيرون كأنهم يجتهدون لإيجاد صباح مختلف، يشبه تلك الصباحات التي فقدوها على الطريق، وهم ينزحون من بيوتهم. الغسيل معلّق على الأحبال المشدودة بين الخيام، ينتظر سطوع الشمس وسيدة تواصل نشر غسيلها. الصباح مختلف، لكنه مع الوقت يصير مجرّد صباح آخر في يوم عادي جداً من تلك الأيام التي صارت تصبغ حياة الناس، وصارت هي كل حياتهم. لا شيء مختلفا فيها، ولا شيء جديدا. فقط، تفاصيل صغيرة لا تصلح للتذكّر ربما، وحياة يحب أن تستمر مهما اشتدّت قسوة الزمن. مرّت الثمانون يوماً الماضية، كأنها حلم يمكن للمرء أن يصحو منه، ويواصل حياته السابقة.
هل سنفيق يوماً على هذا كله؟ هل سنرى حقّاً ما رأينا؟ وهل سندرك أننا فعلاً عشنا هذا كله. ياسر ابني يقول إنه حين يرجع للبيت سيقوم بإخبار إخوته بكل شيء. لديه الكثير مما يمكن أن يسرده عليهم. سيجلس في وسطهم ويسرد عليهم كل ما عشناه من تفاصيل صغيرة بالنسبة له كانت تلك التفاصيل عالماً مختلفاً، حياة أخرى. سيقول لهم كيف كانت تلك التفاصيل تفصلنا عن الموت أو عن النجاة. ثم يسكت فجأة ويقول "بس نروح" كأنه تذكّر أن الخروج أمرٌ صعبٌ أيضاً. هل سننتظر أكثر حتى ندرك قسوة ما نعيشه. المؤكّد أننا نواصل سيرنا في الطريق، من دون أن نعرف النهاية.
لا أحد يفكر في الحرب، حتى نحن ضحاياها صرنا نفكر فقط في تمشية حياتنا
أرسلَت إليّ ميسون رسالة على الجوّال، تطلب أن أتّصل بها. وصلت الرسالة في السادسة صباحاً. هاتفتُها مباشرة. تدير ميسون مركز يافا الثقافي في مخيم خانيونس. وهي تنحدر من عائلة تم تهجيرها من مدينتي يافا. تعاونَت معنا في الوزارة في تنفيذ نشاطات وبرامج عديدة. وكنتُ قد شاركت في إحدى فعاليات مركز يافا خلال يوم الثقافة الوطنية هذا العام. نفّذت ميسون، خلال الحرب، مجموعة من النشاطات الترفيهية للأطفال في مراكز الإيواء، شملت أيضاً ورشا للتفريغ النفسي وللدعم. ميسون ناشطة سياسية واجتماعية وثقافية. يتركّز عمل ميسون حاليا في القطاع الإغاثي، حيث توزّع المساعدات الغذائية والطرود على النازحين. تحوّلت مهامّ كثيرين من مركز يافا لمهام اجتماعية وإغاثية. طلب مني أن أرسل إليها مجموعة من العائلات المكونة من عدة أطفال، حتى توفر لهم ملابس شتوية. عائلات كثيرة غادرت بيوتها من دون أن تحمل ملابس شتوية، بل معظم ما كانت تحمله كان ملابس صيفية. لذلك، توزيع ملابس شتوية أمرٌ في غاية الأهمية بالنسبة لهم. كثيراً ما كنتُ أشاهد الأطفال يرتجفون بين الخيام، وهم يحاولون الاحتماء من البرد القارس، خصوصا الذين يلبسون ملابس قصيرة. من أين لهم ملابس شتوية؟
تختلف أولويات العمل وفق احتياجات الناس. تريد ميسون أن تعمل في الثقافة والترفيه، لكنها تعرف أن الناس تحتاج الملابس الشتوية. الأولويات تختلف. لكل زمن أولوياته. ومع ذلك، ما زالت، كما أخبرتني، من فترة إلى أخرى، تنفذ بعض النشاطات الترفيهية ذات المحتوى الثقافي في مراكز النزوح. سألتُها: هل انتقلتِ إلى رفح؟ قالت إنها قادمة لتوزيع بعض المساعدات من ملابس شتوية على النازحين في رفح اليوم، وستعود إلى خانيونس. الوضع في خانيونس صعب، لكنها ستظل هناك.
اقترحتُ على إبراهيم أن يذهب حيث توجد ميسون، من أجل جلب كميّةٍ كبيرةٍ من الملابس يوزّعها على الأطفال في الخيام حولنا. ذهب برفقة زوجة فرج التي أحضرت ملابس لأولادها الثلاثة. كانت فرحة أنها بعد شهرين من نزوحها يمكن لها أن تجلب لأطفالها ملابس جديدة. حتى إنها أحضرت بعض الملابس للجيران أيضاً.
مساء أمس، تمشّيت أنا والروائي كمال صبح. كان يفكّر، مع مجموعة من الشعراء والكتّاب، بتشكيل لجنة تتابع شؤون الزملاء النازحين في رفح، خصوصا أنه هو من سكان حي جنينة، فهو يعرف المكان أكثر منهم، ويمكن له أن يتحرك بسهولة، ويقدم لهم ما بعض الخدمات. صدرت لكمال أربع روايات، ولديه مزيد من المخطوطات التي تنتظر النشر. سألني بقلق عن محمد نصّار الذي لم يسمع عنه منذ أسبوعين. آخر ما يعرفه أن محمّد نزح باتجاه المنطقة الوسطى، ثم أراد أن يأتي للنزوح إلى رفح، لكنه لم يجد مكاناً. يشعر كمال بالذنب لأنه لا يستطيع أن يساعد الجميع. لا يمكن مساعدة الجميع، لكن أيضاً التفكير في الجميع واجب أيضاً. سرنا باتجاه الغرب في الشارع العام. حاولنا التواصل مع بعض الأصدقاء، لكن سوء الشبكة وضعف التغطية لم يمكّنانا من ذلك. واصلنا سيرنا نتحدّث عن الهم العام، قبل أن نعرّج على الأدب والرواية ومسؤولية الكاتب. كانت عبارتنا عن الأدب تتناثر في الطريق المزدحم بين ميدان العودة ودوار النجمة فتصطدم بيد رجل يحمل أرغفته فرحاً أو سيدة تقنع طفلها بأنها ستحضر له الحلوى قريباً أو سيدة تبحث عن طفلها الذي خرج من مدرسة النزوح قبل ساعة ولم يعد. بدت كلماتُنا مثل أطفال تائهة أيضاً في عالم مكتظّ.
قابلتُ، في الأسبوع الأخير، كتّابا وفنانين عديدين، وتحدّثنا كثيرا. يطغى النقاش العام على النقاش الشخصي. تكاد المسافة بينهما تختفي في تلك اللحظات. يقيم معظم الكتاب والفنانين في رفح، بعد أن نزحوا إليها في الأسابيع الأخيرة. ومثل نقاشي مع كمال صبح، كان النقاش عن سبل مساعدتهم في أوضاعهم الجديدة. كل ما يحتاجه المرء الآن هو الطعام والمأوى المؤقت. يجب حماية الكاتب من ألمٍ كثير. كانت هذه فكرة كمال. لو تم تشكيل لجنة يمكن للجنة أن تعمل على تقديم المساعدات لهم بعد تأمين حصولها عليها. ما يهم وقت الحروب هو النجاة. والنجاة بكرامة، فالكاتب أو الكاتبة هما مجرّد أم وأب يعتنيان بأولادهما وقت الحرب، ويسعيان من أجل توفير الطعام لهما.
ترك الكلّ كتبه ومخطوطاته خلفه. ترك الفنانون مراسمهم التي تدمّر كثير منها، وخسروا لوحاتهم وألوانهم وريشتهم وحوامل لوحاتهم. لا شيء من ذلك متوفر لديهم الآن. حتى لا يوجد مكان يشترون منه ما يحتاجون من أدواتٍ للرسم، وإن وجد المكان، فلن يتوفر لهم المال لشراء ما يحتاجون، لأن المال يجب صرفه على متطلبات الحياة الأساسية. الفنّ جزءٌ من الحياة في النهاية. هل هو متطلّب أساسي. بالنسبة للفنان، يبدو هذا بديهياً. يساعد الفنّ على فهم أعمق للحياة، ويساعد في التخفيف من ألم الإنسان، وفي نقل الخبرات. كلام مختلف هذا، لأنه لن يجلب رغيفاً لطفلك الجائع، كما قال لي أحد الزملاء. ومع هذا، فكتّابٌ كثيرون يكتبون نصوصاً على صفحاتهم على "فيسبوك". نصوص قصيرة، لكنها معبرة عن اللحظة. يفكّر الفنان المسرحي الشاب، كريم ستوم، في عمل مسرحيات قصيرة يعرضها للنازحين في المدارس. كان، خلال لقائنا في مقر الهلال، كما دائماً، ممتلئاً طاقة ونشاطاً. اتفقت، أنا ومدير عام الصندوق الثقافي في الوزارة، يوسف الترتوري، على توجيه جميع المشاريع التي حظيت بمنحة الصندوق لهذه الدورة في غزّة باتجاه نشاطاتٍ تتلاءم مع الواقع الجديد في القطاع، بمعنى أن تكون أعمالاً فنية موجّهة إلى النازحين ومشكلاتهم. يجب أن يعني الفن شيئاً للآخرين. رغم أنني أتحفظ على هذا الوجوب، لأنه يعني تقييداً للفنان، بيد أن فكرة الأولويات ما زالت تسكنني في هذا الوقت العصيب والصعب.
لم يعد لنا فضاءٌ صافٍ نتأمله، ولا غيم في السماء نرجوه المطر
اشتريتُ أمس صناديق خشبية، حتى أضعها تحت فرشة الحاجة، فيرتفع نومها عن الأرض حتى تقيها من الرطوبة الشديدة والبرودة القاتلة. وضعنا الصناديق، ثم وضعنا الفرشة عليها، وقلت للحاجة: الآن صار لك سرير. سرير صغير، لكنه يبدو عرشاً وسط ضوضاء الخيام. ولدت حماتي وداد سنة النكبة، وحملتها أمها طفلة رضيعة لخيمة قرب جباليا، وها هي بعد كل هذا العمر تعيش في الخيمة. لو أفاقت والدتها من نومتها الأبدية، فلن تصدّق أن طفلتها بعد 75 عاماً تعيش في الخيمة ذاتها.
كانت الشمس مغرية، والدفء بدأ ينتشر حولنا. حملنا الحاجة على الكرسي، ووضعناها أمام الخيمة، حتى تنال بعض الدفء. قلت للحاج إنه ستحتاج الدفء في الأيام المقبلة، حين توغل المربعينيّة في عظامنا. ... وقفنا حولها، نرتشف الشاي، ونتحدّث عن هذه الأيام القاسية التي نعيشها ونفكر كيف يمكن لنا أن نمضي المزيد منها بأقلّ قدر من الألم.
يصل مزيد من النازحين من خانيونس. يطالب الجيش المزيد من الأحياء في المدينة وفي المخيم بإخلائها. تسقط القذائف في كل اتجاه، وتقتل مزيدا من الناس، ولا خيار آخر أمام الناس، إلا أن يبحثوا في جيب القدر عن يوم جديد من أعمارهم، لعل المستقبل يكون أفضل. المناشير التي ترميها الطائرات فوق الناس تطلب منها الهرب لأن هذه الأحياء صارت مناطق قتال. كل غزّة مناطق قتل. وكل غزّة أرض معركةٍ لا تتوقف عند حدود. المزيد من الخيام يتم نصبُها باتجاه الغرب. بحر من الخيام يمتد باتجاه البحر. بحرٌ مقابل بحر. الخيام سمة الحياة وبيت الدنيا الآن، وعلى مد البصر تنتشر في كل ناحية، ويمكن للمرء إذا وقف في منتصفها أن يشعر نفسه غريقاً في بحر من قماشها، يلتفّ حول جسده وعنقه يخنقه. حلُم رابين، مرّة، بأن يصحو فيجد غزّة وقد ابتلعها البحر. لم يبتلع البحر غزّة، ولم تغرق غزّة. ظل البحر لا تهابه جارته، وظل موجُه دغدغةً لدنةً لاطراف أصابعها.
صُعقنا حين رأينا صور مقر الهلال الأحمر في تل الهوا. المقرّ الذي يضم في جنباته مستشفى القدس الذي وضعت فيه هناء يافا، ومركزاً ثقافياً ومسرحاً، بجانب مؤسّسة خدمات مجتمعية. على مسرح الهلال، تم عرض مسرحيتي "في شي عم بيصير" عام 2004 وكانت من إنتاج مؤسّسة فكرة. أحرق الجيش المؤسّسة والمركز والمستشفى، ونشرت دبّاباته الدمار في كل نواحيه وجهاته. لم يترك الجيش شيئاً سليماً.
من لا يتعب من كل هذا الوضع! من لا يشعر بالألم! كيف يمكن للحياة أن تستمرّ في كل هذا الموت الذي يحيط بنا. أخبار الحرب صارت شيئاً عادياً. لا أحد يهتم ولا أحد يفكّر. متروكون لمصيرنا. لا أحد يفكر في الحرب، حتى نحن ضحاياها صرنا نفكّر فقط في تمشية حياتنا في أن يمر النهار ويمر الليل، ويمرّ الوقت وتمرّ الحرب. ستمرّ الحرب. ستنتهي الحرب وسيذهب الصحافي لالتقاط أنفاسه ونفض بقايا الأخبار عن سترته، وسيعود الطبيب إلى طفلته، يقبلها غير مصدّق، أنها نجت من الموت وتطهو له زوجته طعاماً ساخناً لم يتذوّقه منذ زمن، وستسير الأم الثكلى التي فقدت أولادها تلملم بقايا ذكرياتهم التي أفلتت من براثن الرحيل، ثم تجلس أمام البيت الذي سقط على أجسادهم وتندب الزمن القادم، وسيعود المزارع إلى حقله يحاول أن يتذكّر لون الأرض، قبل أن تغتالها القذيفة، وستمشي القبّرات قرب أسلاك البيارات التي قلبتها الجرافة، تحاول أن تعثر على بقايا أعشاشها فيما العصافير تبحث عن غصنٍ نجا لتسقسق عليه، وسيمر الغيم حزيناً، ماطراً، يحاول أن يمحو آثار أقدام الجنود وهم يرحلون شاهرين سلاحهم يحمل ظلالنا نحو العتمة، وسأجلس وحدي أفكّر أنني نجوت، وأنني بقيت وحدي ورحل من أحب، وأنني أستحق أن أغمض عيني لأقنع نفسي أنني كنتُ أشاهد فيلماً مرعباً، كنت أنجو فيه كل مرّة، وأظل أشعر بالخطر فأنجو، وأشعر بالموت فأهرب، وأشعر بالضوء البعيد في آخر النفق، فأظل أركض وأركض، رغم أنني لا أرى نهاية النفق، لكنني أرى النور، أحسّه وأكاد أمسك به، فيفلت من بين أصابعي وأظلّ أركض.
لم يعُد لنا شارع. لم يعُد لنا بيت. لم تعُد لنا حديقة. لم تعُد لنا مزرعة. لم تعُد لنا مدرسة ولا جامعة ولا كنيسة ولا مسجد. لم تعُد لنا حارة ولا مقهى نرتشف فيه قهوة الصباح، ولا متنزّه نسير فيه مع أطفالنا في الأماسي، ولا ساحات نتسكع فيها إذا شعرنا بالملل. لم يعد لنا فضاءٌ صافٍ نتأمله، ولا غيم في السماء نرجوه المطر. لم تعد لنا بقجة أحلام نخبّئها على رفّ صغير فوق السرير. لم يعد لنا إلا وطنٌ نمسك به بأهداب العيون. وطنٌ لا تأخذه الحروب، ولا تخطفه شهوات القتل، وطنٌ لا يقدر عليه أحد. وبقي لنا شجرة وارفة تتدلّى منها ثمار الذكريات حتى تنضج.