يوميّات الحرب في غزّة (24)

18 ديسمبر 2023
دخان يتصاعد بعد قصف إسرائيلي على خانيونس جنوبي قطاع غزّة (16/12/2023/فرانس برس)
+ الخط -

يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

(13 ديسمبر)
نزل المطر غزيراً، فأغرق خياماً كثيرة في المنطقة، وطار بعضها وأفاق الناس مفزوعين يحاولون إنقاذ خيامهم من عصف الشتاء. لم يتوقّف المطر طوال الليل، وظل حتى الصباح. عند منتصف الليل، أفاق كثيرون على الماء ينزل عليهم من خيامهم التي نصبوها من القماش والبطّانيات فبللهم وأغرقهم، فيما بعض الخيام الجاهزة التي تم نصبها واجهت مشكلات حقيقية في الصمود في وجه الأمطار الغزيرة. كانت تلك لحظة متوقّعة لكنها مؤجلة، وحان وقتها، وحان وقت العذاب الذي سنواجهه طوال فصل الشتاء. وكلما مطرت السماء وعصفت الريح بنا مثل كومة رملٍ على وجه أسفلت طريق صحراوي. كان صوت الناس وهم يصرخون ويتنادون ويتساعدون لشدشدة خيامهم أعلى من صوت المطر. 
حين بدأ المطر يسقط فوق الخيمة، أخذ ينقر سطحها الجلدي، ويثير في الذاكرة نقراً قديماً حين كان سطح بيت المخيّم من الزينكو، وكنت أستمتع وأنا أستمع لصوت دقّات المطر فوقه. كانت تلك سيمفونية محبّبة لقلبي، رغم قسوة الشتاء في المخيّم، ورغم ما كان يعنيه هذا من معاناة وألم لنا في ظل شحّ الموارد والبنية التحتية وغرق المخيم، حيث تتجمّع المياه حول البيوت، ويصير علينا أن نسير ونحن أطفال في الماء. ومع ذلك، كان صوت المطر يعزف عميقاً كأنه يحفر في صخرة وعينا ذكريات الألم التي تجعل هذا المكان مؤقتاً، حتى لو مضى 75 عاماً على وجوده.

الصورة
امرأة فلسطينية
امرأة تعلق الملابس على حبال خيمةٍ في مخيّم للنازحين الفلسطينيين في رفح جنوبي قطاع غزّة (16/12/2023/فرانس برس)

روايتي "حكاية ليلة سامر" عن خروج أربعة جيران بعد هدوء عاصفة شديدة ضربت المخيّم وأغرقته، حيث يقفون على عتبات بيوتهم، وتدور مونولوغات طويلة، كل واحد منها فصل من فصول الرواية الأساسية تكشف عن قصص حياتهم. تبدأ الرواية بالعبارة التالية: :هدأت العاصفة، خرجنا نتفقّد أنفسنا بعد هذه الليلة العصيبة". تُجري شخوص الرواية من دون أن تتحاور حوارات عميقة في النفس، بعد هطول المطر، وبعد أن اغتسل الجسد والمكان. صورة المطر القاسية ملازمة كثيراً لذاكرتنا حول الطفولة القاسية التي خُضنا بها طريق الزمن، حتى وصلنا إلى أيامنا هذه، إنها الطريق نفسها لم تنته، والألم نفسه لم يتوقف. حياتنا من بيت في مخيّم إلى خيمةٍ في مخيّم آخر. لم يكن الشتاء فصلاً محبّباً لنا ونحن أطفال، لأنه كان يعني البرد القارس والبلل والصحو في منتصف الليلة مفزوعين، حين يدلف سقف البيت، أو يطير النايلون الذي نغطّي به نافذة الغرفة. كانت المياه تغزو بيوت بعض الجيران منخفضة العتبات، ويصحون من النوم، وقد حملت المياه فرشاتهم وهم نيام عليها. الشتاء ليس صديقاً للاجئ، إنه فصل المعاناة والألم والبرد والبلل. صوتُ المطر فوق سطح الخيمة يشبه ذلك الصوت رغم أن أكثر من أربعة عقود تفصل بين اللحظتين، كأن الزمن لا يمرّ، نحن فقط نهرم ونكبر، أما الزمن، فيظلّ ثابتاً لا يتغيّر فيه شيء، إلا نحن ربما. 
كانت خيمة حماي وحماتي تسرّب بعض الماء من جهة الباب، وكان هذا متوقّعاً، لأن الباب في واجهة المطر كما نقول. تجمّع بعض الماء على عتبة الخيمة. شددتُ قطعة الجلد التي تغطي فتحة الباب، وربطتها جيدا في الخشبة الجانبية. كانت خيمة إبراهيم تدلف من فوق، رغم أنها جاهزة. يبدو أنه لم يثبّت أوتادها الجانبية جيدا. عمل جاهداً على تثبيت ما استطاع منها. لم يتوقّف المطر. لذا لم يكن من المجدي مواصلة عنادنا ومحاولة حل كل المشكلات التي تواجهنا. للصبح عينان. ثم ذهبنا كلٌّ في خيمته لنفيق عند السادسة، ونواصل عمليات ترميم ما أحدثه المطر. أتممْنا كل شيء، ثم أوقد إبراهيم النار، وعمل لنا شاياً ساخناً بعد لحظات البرد الشديدة التي عشناها الليلة الماضية. جلسنا في خيمة حماي وحماتي، وبدأنا صباحنا كما قد نفعل في كل مساء نشرب الشاي. أحضر إبراهيم بعض حبّات البسكويت التي حصل عليها أمس، وأخذ الحنين للحظات الصباح العادية تفيض في أرواحنا. أخذ يفيق، وأخذت روائح النار التي يوقدها الناس على أطراف خيامهم الداخلية، كما فعل إبراهيم، تفيض أيضاً. لم تعد الحاجّة تشعر بالبرد، بعد أن أحضر إبراهيم لحافا جديدا لها. الأيام تمر والبرد سيكون أكثر شدّة في الأيام المقبلة.

الصور تعني كثيراً في الحروب، لأنها آخر ما يتبقّى من الذاكرة، ولأنها محفّز لها في غياب كل شيء قد يدلّ على ما فُقد منها

كانت تلك أول مواجهة لنا مع الشتاء، وكان الشتاء في أوله، لا أحد يعرف ماذا سيحلّ بنا، إذ هبت عواصف واقتلعت الخيام وحملتنا إلى العراء الحقيقي وفاضت المياه وغرقنا بشكل كامل. تنتظرنا أيامٌ أصعب، ولحظاتٌ أكثر قسوة، وواقعنا لا يتغيّر ولا يتحسّن، ولا يمكن لشيء أن يصنع منه مستقبلاً أفضل. كانت الليلة الماضية المواجهة الأولى مع واقعنا الجديد. الخيام التي تبدو جميلة وتبدو هادئة حين أقمناها وفرحنا بها قد لا تصمُد أمام أي انفجار لقربةٍ من قِرب الريح. كان الصمت الذي ساد تناولنا الشاي في الصباح يكشف هذا القلق الذي يعشّش في أرواحنا. نعرف أننا سنعاني، ونعرف أن القادم أعظم، وأننا أكثر عجزاً عن مواجهة ذلك كله. 
هاتفني في الصباح سائق الهلال الأحمر، أبو رياض، وكان في منطقة مجاورة، واقترح إذا أحببت أن يوصلني معه إلى مقر الهلال في خربة العدس. لا يمكن رفض مساعدة كتلك، خصوصا أن المطر سيظلّ يهطل، ولن يتوقّف. مشيتُ إلى الشارع الذي سأقابله به. كانت معه مجموعة من المتطوّعين الذي سينقلهم إلى مكان المستشفى الميداني الذي يقيمه الهلال في منطقة مواصي رفح قرب البحر من أجل توفير أسرّة إضافية لمعالجة المصابين نتيجة القصف. نزل المتطوّعون وركب مكانهم في السيارة متطوّعون آخرون كان ينامون في المكان. بجوار مكان المستشفى المزمع تركيبه، أقامت إدارة الهلال مخيّماً صغيراً للمتطوّعين وللعاملين في الهلال الذين نزحوا من أماكن خارج رفح. 
كان الناس في الطريق منغشلين بترميم خيامهم وبتربيطها وبشدّها. أشار أبو رياض إلى خيمة زرقاء، وقال إنها خيمة خالته. صمت وهو يشعل سيجارته، ثم قال إنه لا مكان في بيته، وإلا استضافها عنده، ففي البيت سبعون من الأخوات والأخوة وعوائلهم. أخته التي تسكن في خانيونس هاتفته أمس، وقالت إنها ستنتقل إلى العيش معهم غدا (اليوم) بعد أن أصبحت الحياة في المنطقة التي تعيش فيها خطراً. سألتُه: أين ستضعها؟ لا يعرف. انتهى من سحب آخر أنفاس سيجارته وفتح نافذة السيارة ورمى بها في المطر. ابتسمت وقلت: بيت الدرج فاضي. هزّ رأسه نافياً. صمت ثم قال "بدبّرها ربنا".

الصورة
أفراد من الدفاع المدني في عملية بحث وإنقاذ تحت أنقاض مبان دمّرتها غارة إسرائيلية على رفح جنوبي قطاع غزّة (17/12/2023/الأناضول)

أخذ أبو رياض يوصل المتطوعين الليليين إلى بيوتهم في أحياء رفح المختلفة، وكانت تلك فرصة لي أن أستمتع بجولة في المدينة التي صار لي ثلاثة أسابيع أقيم فيها. كان السوق في حي الشابورة لم يفق بعد. بدأت بعض محلات البقالة تفتح أبوابها. كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة. والأسواق تكون في مثل هذه الأوقات في ذروتها. يقف عشرات الشبان والأطفال في طابور حول مقلاة الفلافل، ينتظرون الأقراص الشهية. الشابورة من الأسماء التي تتكرّر كثيراً في ذاكرة الانتفاضة الأولى، موطنا لمواجهات كثيرة مع الجيش الإسرائيلي، بجانب ظهور المجموعات المسلحة و"المطاردين" فيها خلال تلك الأيام الجميلة من تاريخنا. 
أرسل إلي حمزة ابن أختي صورتين للبيت بعد هدمه. التُقطتا من فوق بناية مجاورة، فبدا البيت غائراً بين كومات الركام والخراب. الصور تعني كثيراً في الحروب، لأنها آخر ما يتبقّى من الذاكرة، ولأنها محفّز لها في غياب كل شيء قد يدلّ على ما فُقد منها. قال لي ياسر لي إن لديه على حسابه على "إنستغرام" صوراً للبيت قبل هدمه، ولكنه للأسف نسي كلمة سر الحساب. ابتسم وقال لكنه سيتذكّرها وسيستعيد الحساب بأكثر من طريقة لو لم يتذكّرها. حياتنا صور وذاكراتنا المثقلة تفقد جزءاً منها كل يوم. لم يبق من البيت إلا الصور التي يمكن أن تحملنا على مزيد من التذكّر. أرسلت أطلب من بعض الأصدقاء أن يرسلوا إلي فيديوهات كنت أرسلتها لهم للصديق الراحل سليم النفار، وهو يلقي الشعر قي آخر لقاء لنا في منزل عائد أبو سمرة غرب جباليا. وكم كنتُ سعيداً، وأنا أستمع لسليم يلقى الشعر مرّة أخرى. أرسلت الفيديوهات القصيرة إلى عائد الذي أرسل إلي بدوره صورا جمعتنا مع سليم في تلك اللقاءات التي كانت تجمعنا في منزله. لا يبقى إلا الذاكرة. وعلى طول علاقتي بسليم التي تقترب من الثلاثين عاماً، لا أجد كثيرا من الصور لمناسبات أدبية واجتماعية وشخصية كثيرة جمعتنا. تذكّرت كيف حملت ألبومات صور العائلة من بيت حماي، قبل أن نخرج، وكيف أزلتُ الصور عن جدار شقتي في الصفطاوي في المرّة الأخيرة التي غادرت فيها الشقة. 
تجوّلت اليوم أكثر من مرّة في المدينة، إذ خرحتُ إلى مقرّ وزارة التنمية الاجتماعية لحضور اجتماع مع طواقم العمل هناك، عن الإعانات والمساعدات بحضور زملاء آخرين. في طريق عودتنا، سرنا في طرقاتٍ جديدة أراها أول مرة وأخبرها. لا تنتشر الخيام فقط في منطقة غرب رفح، حيث تلّ السلطان، بل أيضاً شمال الشابورة وفي المناطق القريبة من دوّار النجمة. الاعتداء على سيارات نقل المساعدات أمر مقلق للعاملين في حقل التنمية، وهو يعكس أشياء كثيرة، جزء منها يتعلق بعدم الشعور بالأمن والعدل في تلقّي الخدمة. كنت أنظر إلى الشبان يقفون قرب بوابة المخازن، يتأهّب بعضهم للحصول على أي شيء، وجوهُهم الشاحبة وعيونهم التائهة ونظراتهم الغائبة من قسوة ما عاشوا، فالحرب ليست مقتلة فقط، بل ماكنة تجرف نفوسنا أبعد من حدود كل ما نتمسّك به من قيم ومن أخلاق. للحرب شظايا جانبية كثيرة وندُب سوداء لا علاقة لها بحقيقتنا، لكنها جزءٌ من تلك القسوة التي نصحو ونغفو عليها.

هل ثمّة جدوى من الكتابة؟ في اللحظة التي قد تموت فيها هل تنفع الكتابة؟

(14 ديسمبر)
في الصباح، وحين خطر لي أن أكتب، لأول مرّة، تساءلتُ حول جدوى الكتابة في هذا الوقت. غداً سيكون قد مرّ 70 يوماً على الحرب. وفي ظروفٍ صعبةٍ ومعقّدةٍ وخطرة، واصلت الكتابة يومياً. وفي مرّات كثيرة كانت لكتابة جزءٍ مخاطر على حياتي، خصوصا حين أقطع مسافات كي أصل إلى مكان فيه كهرباء لشحن حاسوبي أو إنترنت لإرسال ما كتبت. كان هذا يعني مخاطرة بشكل أو بآخر. وفي أوقاتٍ، كان الوقت الذي أكتب فيه يمكن لي أن أقضيه بمزيد من الدردشة والحديث مع الأصدقاء والأهل، ونحن نترقّب الموت، ونسمع خطوات أقدامه على عتبات بيوت الجيران. وضعتُ حاسوبي جانباً، بعد أن استقرّ على ساقي، وأنا أجلس في الخيمة. هدأ صوتُ الطائرة الزنّانة قليلاً بعد ليلة لم تنم فيها ولم تدعنا ننام، إذ كدتُ فعلاً أن أقول لنفسي إن الأمر لم يعُد مُجدياً. 
عموماً، هل ثمّة جدوى من الكتابة؟ في اللحظة التي قد تموت فيها هل تنفع الكتابة؟ لا أعرف، ولم أفكّر كثيراً قبل ذلك في الأمر. لكنني دائماً كنت أفكر أنني أريد أن أحكي عن الناس الذين أحبّهم، حتى لا ينساهم الزمن. بدأت مغامرتي في الكتابة، حين شغفت بقصص جدّتي عيشة وبألمها أيضاً، وأردتُ أن أخبر عنه. أردتُ أن يسمع الناس الكثير من قصص المرأة التي تركت شبابها في يافا، وعاشت في خيمة. هل الحفيد يعيد تاريخ الجدّة؟ وهل التاريخ يعيد نفسه أصلاً؟ أيضاً، لا أعرف. ولكن المؤكد أنني شُغفت أيضاً بهذه القصص، وأردت أن يقرأها الناس، وأردت أن يشعروا بالألم نفسه، وأنا أراه يتمشّى على تفاصيل وجهها بكل حسرة. أفكّر أن التفكير في الكتابة هو جزء من عملية الكتابة ذاتها، ولكن التفكير عن الكتابة أمر خارج نطاق قلق الكاتب. 
طردتُ كل تلك الأفكار، وأنا أستعيد قلقي الليلة، حين لم أعرف للنوم طريقا في أول ساعة من محاولتي الفاشلة، بسبب صوت الزنانة الذي لا يتوقّف. حين لا تنام الزنّانة لا ننام، وحين تنام ننام. معادلة بسيطة، فصوتها وهي تراقبنا وتقتل بعضا منا لا يدعنا ننام. في نهاية المطاف، أقنعت نفسي أن أفضل طريقة للنوم هي التفكير أن طنين الزنّانة جزء من روتين يومي، وأن وجودها أساس في تفاصيل حياتنا، وأننا لا يمكن أن نعيش بدون هذا الصوت. كان صوت الزنّانة دائماً مصدر إزعاج وقلق كبيرين لنا، فهو إلى جانب ما يعنيه من حضور مادّي للتهديد، فأنت تسمع صوتها باستمرار، يشلّ حياتنا بشكل كامل. مثلاً، لم تكن إشارة التلفاز تلقط حين تكون الزنّانة في الجو، حتى لو كانت بعيدة ولا نسمع صوتها. وفي مرّات كثيرة، نعرف وجودها من "تشويش" التلفاز. كان تشويش التلفاز يعني أن ثمّة طائرة زنّانة في الجو. كتبتُ بحثاً طويلاً صدر في كتاب بالإنكليزية بعنوان "لا ننام في غزّة" عن تأثير الطائرات الزنّانة على حياة المواطنين في غزّة صدر عن مؤسّسة روزا لوكسمبورغ في برلين. عانيت الليلة الماضية مثل كثيرين من صوت الطائرة وهي تحوم حولنا. "الله يستر" عبارة شائعة بين الفلسطينيين، حين يسمعون صوت الطائرة قريباً إلى هذا الحد. كنّا، الليلة قبل الماضية، محظوظين بسبب الغيم والمطر، لم نسمع صوتها. لم نعرف بوجودها. كان المطر ينقر سطح الخيمة، ويُصدر لحناً وإيقاعاً عالياً لم نتمكّن منه من سماع صوت الطائرة. أما الآن وفي الجو قليل الغيم، تأخذ الطائرة الزنّانة راحتها كما يقولون، وتجوب سماءنا وتقلق مضاجعنا. 

الصورة
طفلان ينتظران ملء عبوات بلاستيكية بالمياه في مخيّم للنازحين في رفح جنوبي قطاع غزّة (16/12/2023/فرانس برس)

صحوتُ عند الخامسة. كانت تهاليل الفجر تفوح في الأرجاء. كان صوت الأذان يعني أن هذا فجر عادي جداً، وأن نهارنا طلع وأننا بخير. في جباليا، وحين كان الموت أكثر حدّة حولنا، ولم نكن نتيقّن حين ننام إذا ما كنا سنصحو أم لا. كان صوت الأذان وتسابيح الفجر يعنيان أننا بخير، وأن ضوء النهار سيسطع عما قليل، وأننا نجوْنا مرّة أخرى. حياتنا مليئة بالملل هنا. لا شيء نفعله. في الحرب، الشيء الوحيد الذي يجب أن نفعله أن نعيش، لأن هدف الحرب أن نموت. وفي الحرب، ننام مبكّراً، لأن لا شيء آخر يمكن أن نقوم به. في النهار، نمارس طقوس حياتنا في الركض وراء الحياة، حتى نوفر مقوّماتها من طعام وماء وحاجيات أساسية ثم ننتظر الليل حتى ننام، فنفيق في يوم آخر. نعدّ أيامنا، ونريد أن تمضي حتى تمضي معها الحرب، ولا نريد نحن أن نمضي، ونظلّ، في الوقت نفسه، نبكي على من مضوا منّا. بقيتُ يقظاً حتى طلع شعاع النهار. لا يبدو أن الشمس ستسطع اليوم، فالغيوم الخفيفة ما زلت في السماء والجو بارد. غيوم خفيفة أقلّ كثافة من الغيوم يوم أمس، لكنها لا تحمل أي أمطار. وهذا جيّد. "لا مطر اليوم" هذه بشرى جيّدة. نخشى ما يفعله المطر بنا، ونخشى من قسوته علينا كما فعل في الليلة قبل الماضية. 
جلسنا، الليلة الماضية، في الخيمة، نفكّر في أخبارٍ تسرّبت عن مصادر إسرائيلية عن احتمالية السماح لبعض سكّان الشمال وغزّة بالعودة إلى بيوتهم بعد نهاية العام، حيث سيتم إدخال المواطنين عبر حاجز بعد إبراز هويتهم الشخصية. بدا الخبر مفرحاً ومقلقاً معا. فهذا يعني أنه لن يسمح للجميع بالعودة، وأنه سيتم منع بعض الناس من العودة. كما أنه لن يُسمح بدخول السيارات. سأل أحدنا: وما حاجتنا للسيارات المهم أن نعود لبيوتنا؟ قال إبراهيم: كيف لا تهم السيارات، لأننا بحاجة لنقل بطانياتنا وألحفتنا وفرشاتنا معنا حتى ننام، فنحن سنعود إلى الشمال ولن نجد بيوتاً تؤوينا، لأن بيوتنا تم تدميرها وراح معها عفشنا وملابسنا. النقاش طويل ومواقف الناس مختلفة، ولكن من المؤكد أن فكرة رجوعنا تعني أن مشروع التهجير إلى سيناء لن يتم. ... كانت السماء قد توقفت عن المطر بعد ليلة ويوم عاصفين. 
يأتي مزيد من المواطنين إلى الهلال يطلبون المساعدة. النسوة يشرحن وضعهن، ويطلبن أي مساعدة. أصواتهن والقلق يأكل وجوههن، وهن يواصلن وصف أوضاعهن الجديدة بعد تركهن كل شيء خلفهن في بيوتهن. تحدّثت المرأة بمرارة عن فقد زوجها وثلاثة من أطفالها. وأخرى قالت إنها لا تجد ما تشتري به الدواء الذي تأخذه منذ ستّ سنوات. لا يعرف الموظف الشاب ماذا يقول لهن، فلا توجد في المقرّ مساعدات. حاول توجيههن إلى مكان وجود المساعدات، ولكنهن بعد أن عانين من التنقل من مكان إلى آخر اعتقدن أن ما يقوم به هو طردهن بطريقة مختلفة. قال إنه يريد مساعدتهن، ولكن لا يوجد مساعدات هنا. قلة المساعدات قضيةٌ تتفاقم. قال لي مدير الهلال الأحمر في غزّة، الدكتور بشّار، إن ما تم إرساله من معونات إلى الشمال وغزّة أيام التهدئة قد نفد، وقاد هذا إلى ارتفاع مهول في الأسعار هناك، حيث لم يعد مزيد من المعلبات والسلع الأساسية. قلت له إن ارتفاع الأسعار هناك مبرّر، فقد نفدت، ولكن كيف للأسعار أن تصبح سياحية هنا في رفح، وكل المعونات يتم ضخها هنا؟ ردّ بمرارة: استغلالٌ وسوق سوداء.

الصورة
فلسطينية تبكي أفراد عائلتها في دير البلح وسط قطاع غزّة بعد استشهادهم في اعتداءات إسرائيلية (10/12/2023/الأناضول)

ما قاله الدكتور بشّار ضمناً أن المساعدات لم تعد تدخل إلى الشمال وغزّة بعد التهدئة. خلال أيام التهدئة، تم ضخ معظم المساعدات هناك، من أجل تأمين كميّة كافية حين تنتهي التهدئة. والآن، لا توجد مساعدات هناك، ولا أحد يستطيع إيصال شيء إلى هناك. كيف يأكل الناس؟ يتدبّرون أمرهم، يحاولون. الحياة قاسية والحاجة شديدة. مجموعة أخرى من النسوة يدخلن، تشتكي إحداهن من آلية التوزيع. وقبل أن يخرجن قالت: انا لا أريد كوبونة، فقط أريد أن أعود إلى بيتي في الشمال. ... دعوة نعرف عمقها وعمق معناها بالنسبة لنا جميعاً. 
دخلت صاحبة متحف الثوب الفلسطيني في رفح، الدكتورة ليلى شاهين. تم استهداف المتحف بشكل كامل، وخسرت الثقافة الفلسطينية ثلاثمائة ثوب فلسطيني، معظمها كانت من مقتنيات قبل النكبة. قالت بحسرة إنها لا تصدق أن كل هذا التراث ضاع. وصفت لي كيف سقط الصاروخ مباشرة على قاعة المتحف التي تضمّ الأثواب والقرطل (السلال) والأدوات التقليدية. ليلى ناشطة مجتمعية من قرية بشيت، وهي قريبة المناضل الفلسطيني الراحل أبو علي شاهين، نذرت حياتها لحفظ الثوب الفلسطيني الذي جمعته من اللاجئات من قرى جنوب يافا اللاتي هاجرن إلى قطاع غزّة، خصوصا مخيّمها رفح. قبل عام ونصف العام، تشرفت بافتتاح المتحف بصحبتها، وفرحت بوجود تلك المبادرات المجتمعية غير القائمة على التمويل المهول والدعم الخارجي المرهون، بل بجهد شخصي وذاتي. أخبرتني وقتها أنها كانت تصرف جل راتبها على شراء هذه الأثواب وحفظها، وحان الوقت، حتى تعرّضها للجمهور وتتحدّث عنها. كان المتحف في بنايةٍ من عدة طوابق تتبع بلدية رفح، وكانت تدفع أجرة المكان من جيبها. لم تشتك يوماً، بل كان همّها أن تحافظ على أثواب نسوة المخيم اللاتي لجأن عند النكبة في سعيها إلى الحفاظ على أثوب والدتها وجدّتها اللتين لجأتا من بشيت (قرب الرملة وفيها واد يحمل اسمها). وثمة تفاسير كثيرة عن اسم القرية، لكن المؤكّد أنها من كلمتين، بيت وشيت، ويقال إنها كلمة آرامية تعني القبر. وينسب بعضهم القبر إلى مقام للنبي شيث، موجود في القرية، وفيها مقام شهير له.

قضايا وناس
التحديثات الحية
المساهمون