يوميات الحرب في غزّة (2)

03 نوفمبر 2023
فلسطينيون في مخيم النصيرات يبحثون عن ناجين بين دمار أحدثته غارة إسرائيلية (1/1/2023 Getty)
+ الخط -

 يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، عن أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقا إنسانيا وشخصيا ومجتمعيا، رهيفا وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازيا مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضا من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعا في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

21 أكتوبر

شو اليوم؟ هذا أوّل الأسئلة التي يمكن أن تسألها. في أوقاتٍ مثل هذه، لا تعود الأيام مهمّة، فلا مواعيد ولا ترتيبات لشيء. كلّ شيء يتشابه. ربما الفارق الوحيد أن بعض الأيام تشهد قصفاً أكثر من بعض. وحين يكون الأمر كذلك، هذا يعني أن المنطقة التي تقيم فيها لم تتعرّض للكثير منه مقابل مناطق أخرى، أو مقابل ما تكون قد شهدته قبل يوم. اليوم السبت. إذاً كان يوم أمس الجمعة. يوم الجمعة اليوم الأكثر جلبةً وحركةً وحضوراً في حياتنا مرّ من دون أن أدرك أنه يوم الجمعة. في الحارة، يواصل أبناء العائلة عملهم في محاولة استخراج مزيدٍ من الجثث الراقدة تحت الرّكام. يتوزّع في المنطقة المنكوبة عشرات الشبّان في بؤر مختلفة، تشكّل كل واحدةٍ موضعاً محتملاً لوجود أفرادٍ من إحدى العائلات التي طاول بيتََها القصفُ. أصوات شواكيش وأزاميل وحفْر، وركام يتساقط وألواح زينكو يتم سحبُها، شبّانٌ يحفرون تحت السطوح الإسمنتية المتهالكة، يعبّئون الرّكام الذي يحيله الطرْق إلى قطع أصغر في جرادل ينتشلها شبّانٌ آخرون، ويرمون بها بعيداً، وبعضُهم يحملها في عربات جرّ صغيرة، يجتازون بها الأزقّة إلى الشارع العام. الفكرة الأساسية النبش عمّا هو تحت الركام وإزاحة أكبر قدر منه، فيصبح الوصول إليهم أسهل.

ساعدتُ الشباب في بعض عمليات النقل والنبش. جاء محمود (أبو الليل) بالقهوة، وأخذ يصبّها في كاساتٍ ورقية. كان نبيل الذي فقد معظم عائلته يجلس على طرف إحدى تلال الرّكام، ينبش وحدَه محاولاً إيجاد شيء أو سماع صوت أو التقاط ما يمكن أن يقود إلى بقايا جسدٍ تتم مواراته الثرى. وقد تقع يده على لعبة طفلٍ أو لباس فتاة فيأخذ بالبكاء من الحرقة، وهو يندُبُهم ويندُب حظّه العاثر. على طرف الحجارة المائلة نحو الزقاق الشرقي، ثمّة صحنٌ من البسبوسة تناثرت منه حبّات البسبوسة، وبقي بعضُها في الصحن، كأنها تنتظر من يأكلها. فجأةً، وجدْنا أنفسنا واجمين ننظر إلى الصحن، ولا بد أنهم كلهم مثلي يتخيّلون الجلسة الأخيرة حوله، وكاسات الشاي التي كانت ترتفع إلى الشفاه مع قضمات البسبوسة. حفلةٌ انتهت بالموت أو موتٌ بدأ بحفلة.

كانت الليلة الماضية قاسية. تبدو مثل هذه العبارة عاديةً ومكرورة، لأن كل ليالي الحرب قاسية، ولأن المفاضلة بينها ليست إلا في حقيقة واحدة، النجاة. وطالما نجوْنا الليلة، فبغضّ النظر عن بشاعة ما مررْنا به، إلا أن هذا جيّد. مرّت ليلة أخرى. ومرّ الموتُ من أمامنا كثيراً، وبقينا أحياء. يصعُب وصفُ ما جرى، إلا أنه صورة أخرى عن بقية الليالي. ولكننا دائماً نشعر بأن ما جرى قبل لحظاتٍ أشدّ وطاة مما جرى قبلها. ولأن ذاكرتنا تكون طازجة، وتكون ردّات فعلها تتصاعد، وتتهيأ لمزيد من التفاعل. الذاكرة تؤلم، والذاكرة مثل ريح عاصفةٍ لا تبرح تقتلع خيام الحاضر. تواصل القصفُ الليلة في كل مكان. كنّا نسمع صوت الصاروخ قبل أن يهوي. في بداية الحرب، كنا نتجادل عن نوع الصاروخ ومصدره، طائرة أم بارجة أم مدفعية. أمّا وأن الموت بات الشيء الوحيد المؤكّد حولنا، لم يعد مهمّاً هذا كله. يصفّر الصاروخ وهو هابط من السماء مثل القدر، ثم يدوّي انفجارٌ عنيف. يهتزّ البيت. تترنّح الجدران وفق بُعْد القصف أو قربه منّا. ولكن هذا كله لم يعُد يحرّكنا، ولم نعُد نقف فزِعين نبحث عن مكان القصف، إذ صار الأمر عادياً، ولم يعد يثير مشاعر كثيرة.

كانت الليلة الماضية قاسية. تبدو مثل هذه العبارة عادية ومكرورة، لأن كل ليالي الحرب قاسية، ولأن المفاضلة بينها ليست إلا في حقيقة واحدة النجاة

هل تبلّدت المشاعر؟ هل لم نعد نخاف؟ ليس تماماً، كلّ ما في الأمر أن الموت موتٌ رغم كل شيء. ومع حضوره الدائم، يصبح التسليم بهذا الحضور بديهيّاً لا مفرّ منه، وتصبح من العبث محاولة الهرب أو محاولة فهم ما يجري. لن يفيد الفهم في شيءٍ، ففهم التفاصيل لا يلغي الفكرة الكبرى أن الموت يحدُث فجأة، ويحدُث من دون أن تختار طريقته أو مكان وقوعه. ولكثرة ما تُسمع أخبار الذين خطفهم الموت، وفيما تُصاب بالدهشة من البداية، ويُمسك بك الألم في لحظات، إلا أنك، مع الوقت، تفقد المقدرة على الاندهاش، وتفقد حاسّة الاستغراب. يبدو كلّ شيء عادياً. من العاديّ جداً أن تموت، ومن العاديّ جداً أن تسمع أخبار الموت، ومن العاديّ جداً أن تفقد أحدا فجأة. وربما على العكس، فقد يصير من المستغرب أن أحداً لم يمُت حولك، أو أن يمرّ يوم ولا تسمع فيه خبر وفاة شخصٍ تعرفه. الموتُ هو الأمر العاديّ، أما الحياة والنجاة فهما الاستثناء في هذه الظروف. للحرب قوانين، عليك أن تسلّم بها وتفهمها، حتى تستطيع مواصلة انتظار الموت، لعلك تنجو. النسيان إبرة الهواء التي نحقن بها جسد الماضي. لذلك إحدى أهم حيل التهرّب من الواقع تجاهله وتجاهل حدوثه. أن تتخيّل أن هذا كله لا يجري. أنت لا تحلم ولا تعيش في كابوس، بل إن كل هذه التفاصيل غير موجودة أساساً.

الصورة
رجل يجلس على الأنقاض بعد قصف إسرائيلي على مخيم جباليا في قطاع غزة في 1/ 11/ 2023 (الأناضول)
رجل يجلس على الأنقاض بعد قصف إسرائيلي على مخيّم جباليا في قطاع غزّة (1/ 11/ 2023/ الأناضول)

جرّبت هذه الطريقة اليوم، وأنا أدخل المستشفى في زيارة وسام الصباحية. سِرتُ من باب المستشفى إلى غرفة الجراحة التي ترقد فيها وسام من دون أن أرى شيئاً. لم أر ولم أسمع ولم تقع عيناي على شيء. لم أغمض عينيّ ولم أغلق أذني. واصلت سيري، وتخيّلت أنني لا أرى شيئاً، وأساس ذلك أن تؤمن بأن الآخرين لا يرونك، وأنك طيف يسير بينهم. صحيحٌ أني أحفظ كل تفاصيل الممرّات والأقسام التي أمرّ بها كما أحفظ من وماذا يقع في كل مسطبةٍ من مساطب الدرج، إلا أنني فعلاً لم أر شيئاً. كأنني أفيقُ فقط حين وصلت إلى وسام وهي تتألم وتناجي الله وتسأله: لماذا نجّيتَني؟ كان يمكن لك أن تأخذَني معهم. لقد كنتُ معهم في الغرفة نفسها، فلم نجوْت. أسئلة مؤلمة، والإنصات لها وهي تغرق استقرارنا كلنا في هذه المناجاة، يعيد فتح الجرح، ويعيد تذكّري أن النيسان أمرٌ عصيٌّ وصعب، وأن محاولة الهروب مما يجري ليست بطولة، وليست رحلةً سهلةً نحو الاستقرار. ما أصابنا سيظلّ يطنّ في آذاننا زمناً طويلاً.

قد يصير من المستغرب أن أحداً لم يمُت حولك، أو أن يمرّ يومٌ ولا تسمع فيه خبر وفاة شخصٍ تعرفه. الموتُ هو الأمر العاديّ، أما الحياة والنجاة فهما الاستثناء في هذه الظروف

أن تكون لا مرئياً أمرٌ سهلٌ ربما. وأن تكون مرئياً وثابتاً وقادراً على المواصلة رغم الجراح هو الأمر الصعب والمعقّد. لذلك، حين خرجتُ من قسم الجراحة لاوياً نحو السيارة، بحلقتُ في كل شيء، وأخذتُ أتفقّد كل شيء. ما زالت المرأة السمينة على سريرها قرب المصعد، وما زالت السيدات الشابات يجلسن على الفرشات يتبادلْن نظرات الحسرة، وما زالت الطفلة تقلّب دفترها المدرسي كأنها غير متأكّدة هذه المرّة أن ثمّة مدرسةٌ وثمّة حصّة رياضيات عليها حضورها. وثمّة أطفالٌ يلتفّون حول أمهم التي تلتهم الرغيف الناشف مع قطع الحلاوة. أما الرجل ذو الساق المخرّمة بالبلاتين فما زال يتأوّه، وهو يواصل همسَه مع زوجته. وددتُ لحظةً، لو أستمع للحوار الذي يدور بصمتٍ وألم. لا يمكن وصف الحال بالكلمات، ولا يمكن الوفاء للألم بالكتابة عنه، كما لا يمكن التخفيف منه بكل قواميس المواساة ولغاتها. تذكّرت نبيل وهو يتفقد ألعاب الأطفال وملابسهم، ويعيد سرد آلاف القصص على مسامعه. وتخيّلت زوجته، ابنة عمي بثينة البشوشة الضحوكة، وهي تسأل الله لو ترك لها طفلاً لتربّيه.

مساء أمس، وفيما كنتُ، أنا وبلال، نبدأ جلستنا العادية حول الأرجيلة نتبادل الأخبار والتحليلات والقراءات، حدثت جلبةٌ شديدةٌ في الشارع. أناسٌ يتحدّثون ويتناقشون وسيارات تطلق أبواقها في الهواء. خرجنا إلى الشارع. يتّصل الجيش بكل البيوت في منطقة الرمال ويطلب منها الإخلاء، وإلا فإنهم سيتعرّضون للقصف والتدمير. شارع الشهداء، حيث يقع بيت الصحافة من الشوارع القليلة في حيّ الرمال التي ما زالت عامرة، وما زالت تشهد بعض مظاهر الحياة. يوم أمس، كان شابٌّ وصبيةٌ يسيران في الشارع، يتوسّدان ذراعي بعضهما بعضا. كان الحبّ طيوراً ترقُص فوقهما. التقطا صورة سيلفي أكثر من مرّة وهما يبتسمان. كنت أقفُ، كالعادة، وحيداً في الشارع، أحاولُ أن التقط إشارة الإنترنت حين رأيتُهما. حاولتُ أن أبتعد حتى يأخذا راحتَهما في لحظات الحبّ تلك في الزمن الممنوع، زمن القتل والقصف. كانت الفتاة تنظر إلى السماء وهي تلفّ يدَها على كتف الشاب. ربما تقول له إن يوماً سيأتي ويسافران، ويريان العالم الذي تحرمهم منه الحرب. طرحا عليّ التحية، وهما يقولان "الحمد لله على السلامة". وهذه عبارة التحية الآن في غزّة، ففكرة أن ترى شخصاً فرحة، وهي حقيقة أنه ما زال حيّاً. ولذلك يتبادل الناس التهنئة بالسلامة وبالنجاة. وقفا، الشاب والصبيّة، تحت شجرة الكينيا الضخمة، والتقطا صورة، وهما يقفان تحت فيئها الوارف، ثم تواريا في شارع الناصرة.

قال لهم الضابط الإسرائيلي إن عليهم مغادرة المنطقة إلى الجنوب، وإنهم إن لم يفعلوا ذلك فسيقصف بيتهم. الأمر مرعبٌ بالنسبة للأطفال، كما للنساء وللشباب. فكرة قصف البيت على ساكنيه

مقابل بيت الصحافة، في مدخل شارع الناصرة، تسكن عائلة رجل الأعمال أبو سعد الوادية. العائلة التي رفضت الخروج وفضّلت البقاء رغم كل الظروف. كان أبو سعد الشخصية البارزة المحبوبة يقف وسط عائلته الممتدّة والمكوّنة من عشرات الأفراد، حائراً غير مصدّق أن عليه أن يخرُج إلى الشارع. دخلنا جميعاً إلى بيت الصحافة. في مثل هذه الأوقات، أفضلُ شيءٍ أن يتمالك الإنسان نفسه، أن يتصرّف بأكبر قدر من الحكمة والصبر. قال لهم الضابط الإسرائيلي إن عليهم مغادرة المنطقة إلى الجنوب، وإنهم إن لم يفعلوا ذلك سيقصف بيتهم. الأمر مرعبٌ بالنسبة للأطفال، كما للنساء وللشباب. فكرة قصف البيت على ساكنيه. ولا يعوز الجيش القاتل الوقاحة لفعل ذلك، ففي كل ساعةٍ يتم إسقاط عمارة على ساكنيها، وتدمير برجٍ على من فيه وقصف مستشفى أو كنيسة أو مسجد على من يوجدون داخله. الجيش مصرٌّ على إفراغ غزّة والشمال من السكّان، من أجل أن يواصل مهمّته في عملية الإبادة والاجتياح بعد ذلك، والناس مصرّون على البقاء والصمود. جلسنا عشراتٍ داخل بيت الصحافة، ننتظر اللحظات المقبلة. تحدّثنا في شؤونٍ كثيرة، بدأت بالحرب وانتهت بالمستقبل والماضي الجميل. وحين يتجاور الماضي مع المستقبل فهذا يخبرنا الكثير من بشاعة الحاضر والرغبة في تجاوزه. لا أحد يستطيع أن يغيّر ما يجري، ولا أن يعيد توجيه الأحداث، ولكن على الأقل كلّ منا قادرلإ على الوقوف أمام واجبه في ذلك.

بالنسبة لأبو سعد، تركُ البيت والمنطقة مجازفةٌ كبرى، لأن لا شيء مضمونٌ، ولأن الحركة جنوباً لا تقلّ خطراً عن البقاء في غزّة. لذا قرّر، هو والعائلة، أن يظلوا في المنطقة. وكنتُ أشعر بما يعتمل داخله من غضبٍ وألمٍ يعتصرانه وهو يتمالك نفسه، حتى يدير كل هذا الجمع من العائلة والأقارب في تلك اللحظات العصيبة، من أجل أن يظلّوا معاً ومن أجل سلامتهم. تركتُهم، إذ كان عليّ أن أواصل روتيناً يومياً بالمرور على وسام في المستشفى، ثم أذهب إلى الشقّة في الصفطاوي. روتين صار جزءاً من حياتي بتفاصيلها.

في الصفطاوي، غسلتُ ملابسي. نقعتُها في الطشت وفركتُها بالصابون. كان قميصي الزهري الذي صرتُ ألبسه حين أغسل بلوزتي الزرقاء مليئاً بالشّحبار والوسخ، وأخذت أدعكه دعكاً شديداً بفلقة الصابون، حتى تزول منه الأوساخ. ثم غسلتُ بقية الملابس وعصرتُها ونشرتُها حتى تنشف يوم غد. مددتُ ظهري على فرشة السرير قليلاً، مثلما أفعل كل يوم، حتى يرتاح ظهري. النوم على الأرض مرهقٌ ومتعبٌ، وظهري يؤلمني بشكل مستمرّ. لذا أحرصُ على أن أتمدّد نصف ساعة على السرير في الشقة، علّه يرتاح قليلاً. باتت العمارة التي كنتُ أسكن فيها شبه فارغة. غادرها الجميع فبحثتُ عن مكانٍ أكثر أمناً. ذهب جارنا أبو محمد الذي يدير شؤون العمارة إلى خانيونس. باتت الناس تخاف المبيت في البنايات التي تضمّ أكثر من عائلة، خشية استهداف شقّةٍ منها، فتنهار البناية على كل ساكنيها. أيضاً منطقُ الحرب الذي لا منطق لها.

في سوق المخيم، كان الشاب يضع جميع أجهزة الراديو على طاولة، وينادي عليها بأنواعها. رجع زمن الراديو ورجع زمن المؤشّر

لم نأكل منذ الصباح. قلتُ لمحمّد: نشتري فلافل ونأكل عند فرج. ... لم يخطُر ببالنا أن لا خبز لدى فرج، وأنه يتوقّع منا أن نُحضر الخبز. ولم يخطُر ببالنا أننا قد نبيت بدون طعام إن لم نصطفّ على طابور الخبز من أجل أن نُحضر بعض الأرغفة. اتصلتُ بفرج أخبره بأن يحضّر العشاء حيث سنشتري الفلافل. سأل عن الخبز. لا خبز لدينا. في شارع الحارة، سمع يوسف (أبو أسيل) سؤال أخي إبراهيم إن كان لديهم خبزٌ، فهاتف زوجته، وقال لها إن الدكتور (يقصدني) لا يوجد لديه خبزٌ ليأكل، هل من الممكن أن تعطيني عشرة أرغفة لآكل أنا وابني وأخي محمد. قالت المرأة الطيّبة، بدون تردّد، حتى لو كان هذا آخر رغيفٍ لديها. ذهب يوسف إلى البيت، وأحضر لنا الخبز. جهّز فرج العشاء، وصعدنا عندَه وأكلنا. عادت زوجة فرج من مخيم البريج، فبات الطابق الثاني موضع إقامتنا. مشكلة هذا الطابق الوحيدة أن الإنترنت لا تصل إليه من شبكة الشارع، لذا كان علينا أن نعاني من الحياة بلا إنترنت. وكالعادة، نقضي الليل في انتظار النهار، حتى نكون في مأمنٍ، وبعيدين من الموت.

في كل ساعةٍ يتم إسقاط عمارة على ساكنيها، وتدمير برجٍ على من فيه وقصف مستشفى أو كنيسة أو مسجد على من يوجدون داخله

قبل أن أصل إلى فرج، ذهبتُ لزيارة حماتي، سألت بعض الأسئلة الروتينية. كان الحزنُ قد هدّها وأتعبها عن مواصلة النواح، لكن نظرات عينيها القلقة المتعَبة تفضح هذا الألم الذي تحسّه. أصرّ ياسر أن ينام معي في منزل فرج، لأنه يريد أن يصحو معنا، ويذهب لزيارة وسام في المستشفى، فهو يشتكي من أننا نذهب ولا نأخذُه معنا. قلت له: من الأفضل أن يبقى بجوار جدّته، لأنها تريد ذلك لكنه رفض. كان والدي في منزل العائلة يتناول العشاء، قطع الجبن والزيت، وكان يشعل الغاز الصغير. استغربتُ، وسألتُ: إن كان يشعر بالبرد؟ قال: نعم، رغم أن الجو ليس بارداً. ... أحضرتُ له مكسّرات. جلستُ جوارَه على التخت، وتحدّثنا قليلاً. وكالعادة، نخلط الجدّ بالمزاح والحاضر بالماضي والذكريات بالكوابيس. في شارع الحارة العتمة تنهش استقرارنا. ما زال المئات، رغم العتمة، يجلسون في الحارة يتبادلون الحديث ويتناقشون ويتناقلون الأخبار، في سعيهم المحموم نحو إيجاد إجاباتٍ شافيةٍ لكل ما يشعرون به رغم إقرارهم بالعجز. في سوق المخيم، كان الشابّ يضع جميع أجهزة الراديو على طاولة، وينادي عليها بأنواعها. رجع زمن الراديو ورجع زمن المؤشّر. يبتاع الرجالُ منه الراديوهات، ممنّين أنفسهم في انتظار الخبر المفضل، حين يقول لهم المذيع أو المسؤول إن الحرب انتهت. كانت شخصية أبو درويش، وهو يحمل الراديو، تقفز أمام عينيّ، وأنا أتذكّر كل هذا الانتظار الذي عشنا معه.

22 أكتوبر

مرّ يومٌ آخر. صحوْنا أحياء. بدأت الجلبة والحركة في الشارع. وقفتُ أنظر أسفل النافذة. كان الشبّان يتجهّزون لبدء عملية التكسير ونقل الركام، للكشف عن مزيدٍ من الجثامين. في الليل، نمتُ على صوت القصف الذي تواصل طوال أول ساعات الليل حتى منتصفه. لم أعرف كيف نِمت. أعرف أنني آخر مرّة نظرتُ فيها إلى ساعة الموبايل، للتعرّف على الوقت، كانت الحادية عشرة والنصف. أغارت الطائراتُ على عشرات المواقع في المخيم. كنتُ أسمع صوت الصاروخ يصفّر ثم يدوّي الانفجار فيهتزّ البيت. في الضربة الأخيرة، مرّت الرمال والحصى الصغيرة والهباء المتناثر من النافذة. سعلتُ بقوّة، ثم شربتُ ماءً ثم أظنّني غفوْت. لم يعد التفكير بالموت يشغلني، لأن الموت بحدّ ذاته لم يعُد مهمّاً، فهو قد يقع في أي لحظة. وحين يقع، لا يعود مهمّاً إذا أحسستَ به أم لم تحسّ. المؤكّد الوحيد أن أفضل طريقة هي عدم التفكير به. لم أعد أعقد حواراتٍ طويلة معه أو أناجيه أو أحاول أن أفهمه أو أُجرى مقايضاتٍ معه. ليس مهمّاً. حين يصبح الموت الشيء الطبيعي حولك، تبدو محاولة تأجيله موتاً آخر. ولشدّة ما عانيتُ وأنا أفكّر فيه، وأحاول أن أخفّف من وقع أقدامه وسرعة خطواته على الطريق نحوي، كنت أشعرُ به في كل ثانية. لذا قرّرتُ أن أفضل طريق أن أنسى وجوده، وأتعامل كأن هذا الوجود أساس، كالهواء والماء وكتفاصيل الحياة الأخرى.

لذلك، لم يعودا، القصف وصوت الانفجارات، يثيران فيّ رعبا وقلقا كثيريْن. في البداية، أيّ انفجارٍ مهما كان صغيرا يبدو أمراً جللاً، وتبدو معرفة مكان القصف خبراً مثيراً. الآن، هي مجرّد صوت آخر. خلفية أخرى لمشهد روتيني. موسيقى جنائزية في مشهدٍ حزين، لكنه بات مقبولاً لكثرة وقوعه. الآن، تدوّي الانفجارات، وتهدر الطائرات ثم تنفجر البنايات وتهوى العمارات وتتطاير الشظايا في كل الأنحاء، من دون أن أتحرّك. ماذا يمكن لي أن أفعل لو قلقتُ، لو خفتُ، لو حاولتُ أن أختبئ أو أتجنّب ما يجري بحثاً عن مكانٍ أكثر أمناً. هل حقّاً يوجد مثل هذا المكان؟ لا فائدة من محاولة الهرب. فقط تعامل مع ما يجري بأنه طبيعي. أقنع نفسك. لذا، حين تحضّر عشاءك حضّره كأنك تنتظر ضيوفا أعزّاء دعوْتَهم إلى الاحتفال بعيد ميلادك. حفلة تليق بقدرتك على التركيز وسط هذه الضوضاء. لذلك، ليس كل ما يجري أكثر مما جرى في السابق، وهو لن يتوقّف عن الاستمرار. أفضل طريقةٍ أن تقنع نفسك بأن الأمر طبيعي، وأن قلقك لو ظهر، وخوفك لو سيطر عليك، هو غير الطبيعي الوحيد.

قد يصير من المستغرب أن أحداً لم يمت حولك، أو أن يمر يوم ولا تسمع فيه خبر وفاة شخصٍ تعرفه

تبدو كل هذه الأصوات، الآن، مثل الألعاب النارّية والاحتفالات الموسمية التي لا تُثير القلق. حتى التفكير في موضع القصف أو نوعه لم يعد مهمّاً. الآن، فيما أكتب، ترشق الدبّابات المدينة بصلياتٍ غير متقطّعة من القذائف. تستمرّ الحياة، لأن الموت يستمرّ أيضاً. فجأةً، يسأل أحمد: أين يمكن أن يكون القصف؟ أشير إلى الغرب، وأقول هناك. أين؟ طبعاً، لا أعرف. كلّ ما أردتُ أن أقوله حين أشرتُ إلى الغرب إن القصف في مكان ما. ليس مهمّاً أين المكان. الصوتُ أو "الدبّة" العنيفة ثم صوتُ الصاروخ يصفّر ثم الانفجار. عملية صارت جزءاً من إيقاع يومي. لا تتوقّف الطائرة. تُواصل طنينَها والحرب دائرةٌ والحياة مستمرّة. فقط من يموتون يخرًجون من الحرب، تظلّ ذكراهم تؤلم هؤلاء الذين يفكّرون فيهم، ويفكّرون أن رحيلهم حدث مبكّراً، وأنه ما كان يجب أن يتمّ.

الصورة
طائرة تقصف غزة
طائرة حربية إسرائيلية تقصف في قطاع غزّة (1/11/2023/الأناضول)

أخذت هناء في الليل تبكي، وهي تقول لي إن ما يؤلمها أنها لا تستطيع أن تصدّق أن هدى وحاتم والأولاد قد رحلوا، وأنها لن تراهم. تعرف أن هذا قدر، وأن عليها أن تسلّم به. ولكن، كان يمكن لهذا القدر ألا يحدُث، وأن يظلوا أحياء. تبكي، وهي تقول إنها لا تتصوّر أنها لن تراهم مرّة أخرى. وأكثر ما يؤلمها أننا لا نستطيع دفنهم حتى الآن. على الأقلّ، كانت سترتاح. الألم مرّة أخرى رفيقٌ مزعج لنا في هذه اللحظات. لكننا لا نملك أن نردّه أو نقمعه. قلتُ لها مواسياً، لعلنا في الصباح نستطيع أن نعثر على الجثامين وندفنها. أيضاً هذه أمنية لا أملك أي دليلٍ مادّي على إمكانية تحقيقها.

استطاع فرج أن يتدبّر أمر الخبز، ويُحضِر منه ما يكفي اليوم. أنت بحاجةٍ لأن تنتظر ساعاتٍ أمام المخبز، حتى تشتري بضعة أرغفة. بعض المخابز جرى استهدافُها وقصفُها، منها مخبز أبو ربيع، قرب بيت أختي أسماء في منطقة الفالوجا في المخيّم. لم يعُد المخبز يعمل، وعلى كل الذين كانوا ينتظرون على بابه طوال الأسبوعين الماضيين أن يجدوا مخبزاً آخر للانتظار أمامه، من أجل أن يحصَلوا على خبز يومهم. يصل الطابور أمام بعض المخابز إلى أكثر من كيلومتر. وبعض الناس يقف منذ الخامسة صباحاً حتى يتمكّن من الحصول على الخبز عند الثامنة، فيفطر مثلما كان يفعل قبل الحرب. الانتظار من أجل الخبز من الأشياء التي يجب أن تفكّر فيها قبل أن تنام. عليك أن تفكّر كيف يمكن لك أن تحصل على خبزك قبل منتصف النهار فتتمكّن من تناول طعامك. صارت المخابز أهم الأماكن في المدينة وفي كل المناطق. بجوار المخابز، صارت تقف عرباتُ بيع الفواكه، من أجل بيع الناس إلى جوار خبزهم خضارهم وما يحتاجونه من أجل طعام يومهم. تصبح الحياة أكثر قسوةً مع الوقت، وتفاصيلها تصير أكثر إرباكاً. ومن أجل أن تواصل الحياة، عليك أن تضع قوانينك الخاصّة التي تمكّنك من أن تجد هذا الحد الأدنى من متطلبّاتها ومن أساسياتها.

حين يصبح الموت الشيء الطبيعي حولك، تبدو محاولة تأجيله موتاً آخر

ذهب محمّد إلى بيت أختي عيشة، من أجل أن يُحضِر ملابسه التي تركها عندها، حتى تغسلها. فكرة الملابس أيضاً مربكةٌ ومحيّرةٌ في الحرب. فأنت لا تملك كثيرا من الترف، حتى تفكّر في ما تلبسه. عليك فقط أن تجد ما تلبسه. أنا أغسل بيديّ ملابس وأبدل بينها كل يوم. وحين تغسل عليك أن تنتبه جيداً للماء، فلا تُسرف كثيراً. ما يكفي حتى يبلل ملابسك، ويزيل منها العرق الذي علق فيها من النهار. لبس محمّد ملابسه المغسولة عند عيشة، وترك عندها ملابسه التي كان يلبسها حتى تغسلها وعاد. تناولنا فطورنا وشربنا الشاي، ونحنُ نتناقل أخبار القصف الليلة الماضية ومواضعه. كان فرج ومحمّد يحملان تفاصيل كثيرة، لأنهما خرجا إلى الشارع وتحدّثا مع الناس.

يحلم الكلّ باللحظة التي ستنتهي فيها الحرب، ويفكرون في اليوم التالي، حين يفتحون أبواب بيوتهم ويكون شبح الحرب قد غادر المدينة

اقترحتُ على محمّد أن نذهب الليلة للمبيت عند عيشة. "نغيّر جو". التغيير مهمٌ من أجل عدم الملل. لدى عيشة طاقة شمسية، وبالتالي ماء مثلج، وتهوية، وشحن موبايلاتنا. عيشة أختي مدرّسة اللغة الإنكليزية في مدرسة. أزورها، في معظم زياراتي غزّة يوم الجمعة، وأتناول عندها الغداء. بالنسبة لمحمّد، بدا الأمر معقولاً. تعيش عيشة في منطقة تل الزعتر، وهذه ضاحية شرقي المخيم، تتعرّض مثل بقية المخيم لقصفٍ مستمرّ، وهي من القلائل في المنطقة التي لم تغادر منزلها رغم القصف. اضطرّت، قبل ثلاثة أيام، للخروج في منتصف الليل، بعدما تعرّض منزلٌٍ في الحارة للتدمير. ظلت في الشوارع بضع ساعات ثم عادت. هذا طبيعيٌّ في غزّة، فأنت قد تضطر للبحث عن مأمنٍ بعض الوقت، حتى تهدأ الغارة التي تصيب منطقتك، وفي النهاية تعود. كثيرون تعرّضوا لهذه المواقف. ولكن التقدير أن هذا المكان خطر وهذا أقلّ خطراً لم يعد مقنعاً مع الوقت، إذ كل غزّة خطرة. وعليه، لا يبدو ذهابُنا إلى المبيت عند عيشة مجازفة وليس خرقاً للمألوف. تهاتفني هناء الآن، وتقول إن سكّان العمارة التي نسكن فيها في منطقة الصفطاوي اتصلوا بها، وقالوا إن الجيش يهدّد العمارة بالقصف، ويطلب منهم الرحيل عنها. أحاول أن أشرح لها أن الأمر روتيني، فالجيش يتّصل بكل سكّان شمال غزّة يطلب منهم إخلاء بيوتهم حتى يسهّل مهمته في الاجتياح البرّي، وهي تصرّ أن الأمر حقيقي، وأن كل السكان قد غادروا فعلاً. أقول لها إني أريد أن آخذ صورنا وصور العائلة حتى تبقى للذكرى. ترفُض وتقول إن الصور ليست مهمّة إذا لم يعد أصحابها موجودين. عليّ الآن أن أفكّر ماذا سأفعل، لأنني فعلاً أريد أن أحتفظ بتلك الأشياء العزيزة، لو حدث مكروهٌ للشقّة وتدمّرت. أشعر بالندم أنني لم أحملها قبل عشرة أيام في السيارة، لكنت قد أعفيتُ نفسي من هذا التفكير وهذا الألم المصاحب له.

التقدير أن هذا المكان خطر وهذا أقلّ خطراً لم يعد مقنعاً مع الوقت، إذ كلّ غزّة خطرة

كانت العمارة، يوم أمس، حين وصلتُ إلى الشقّة شبه فارغة. قمتُ بما أقوم به كل يوم من تبديل ملابس وغسل الذي ألبسه ونشره حتى ينشفَ غدا. جلس محمّد مع بعض الجيران الذين فضّلوا البقاء في العمارة. وكالعادة، الحديث عن الخوف وعن القلق والانتظار. حين دلفتُ، سألوني ما إذا كانت ثمّة هُدنة في الأفق. قلتُ مازحاً: هدنة جارتنا رحلت. ... يحلم الكلّ باللحظة التي ستنتهي فيها الحرب، ويفكّرون في اليوم التالي، حين يفتحون أبواب بيوتهم ويكون شبح الحرب قد غادر المدينة. أحلام بسيطة، لكن لا شيء بسيطاً في الحرب. فقط مقدرُتك على مواصلة الحياة هو أبسط وأعقد ما يمكن أن تسعى إليه.

حتى شوارع المدينة تبدو خاليةً في المساء. بعد أن تنتهي المخابز، وتنتهي طوابير الانتظار أمامها، ويأخذ المنتظرون خبزهم، ويذهبوا إلى بيوتهم، أو إلى مراكز إيوائهم، تعود المدينة إلى علبة الفراغ التي تحبس كل حركةٍ فيها. لا شيء يتحرّك، خصوصا بعد العصر، إذ تتحضّر الناس لليل ولعتمته ولعتمة المجهول. لا تجد في بعض المناطق أحداً. حتى مراكز الإيواء لا يغادِرها الناس، خوفاً من أن يطاولهم القصف، على اعتبار أنها آمنةٌ من الداخل كما يتوهّمون، أو كما يودّون أن يقنعوا أنفسهم. تقول "أونروا" إنها تلقت تهديداً من الجيش بضرورة إخلاء أربعة مراكز إيواء في منطقة غرب غزّة.

الشمس حارقة والغبار يسير مع الهواء، وكل شيء يبدو حزيناً، حتى تلك البنايات التي ما زالت قائمة تنتظر مصيرها، بعدما أخذت الغارات أخواتها وجيرانها. عالم من الخراب والدمار

لا تتوقّف الحركة في مستشفى الشفاء. لا يبدو أن هناك تحسّناً في الخدمة الطبية بعد دخول العشرين شاحنة عبر معبر رفح يوم أمس، فجلّ ما تم إدخاله لم يساعد في تحسين شيء، وهو لا يشتمل على معدّاتٍ طبّية. تتوسّل وسام لي، وهي تقول إنها تريد مسكّناً يخفّف من الألم الشديد الذي تشعر به. كان الحديث عن إدخال المساعدات الموضوع الأساس في نقاش الناس. بالنسبة لبعضهم، هذا يعني أن حلولاً بدأت تلوح في الأفق، وأن إدخال المساعدات يعني تهدئةً أو هدنةً أو ممرّاتٍ آمنةً أو أي شيء، وربما وقف إطلاق النار بشكل كامل. يريد الكلّ أن يسمع ما يبلّ ريقه وما يُخبره بما يُسعده.

ما زال الآلاف يتكدّسون في المستشفى. تحوّلت منطقته إلى مركز تجاري ضخم. محلات للبيع وعربات لكل شيء وحلاقون أيضاً وبائعو ملابس. لا يمكن لك أن تحرّك قدميْك بسهولة في المفترق أمام المستشفى. تتحرّك الناس في كل اتجاه. حتى السيارات تنقل الناس من هناك إلى أماكن المدينة المختلفة. كل ما تحتاجه تجده في هذه البقعة الصغيرة. سرتُ نحو غرفة وسام، وأنا أتخيّل كيف يمكن للحياة أن تصبح بهذا القدر من الهشاشة بين لحظة وضحاها، وكيف يمكن لنا، نحن البشر، أن نتكيّف مع الظروف، ونقبل بما هو مقبول من أجل أن نواصل طريقنا رغم كل العثرات.

الصورة
رجل وبجانبه طفل ينتظران الحصول على العلاج في مشفى في قطاع غزة في 31/ 10/ 2023 (الأناضول)
​ رجل وبجانبه طفل ينتظران الحصول على العلاج في مسشفى في غزّة (31/10/2023 الأناضول)

سرتُ مشياً على الأقدام نحو بيت الصحافة. يبدو جسمي هشّاً من كثرة الجلوس والنوم. قلتُ إن المشي يمكن أن يساعد في تفكيك عظامي، وإعطائي بعض الراحة. الشمس حارقةٌ والغبار يسير مع الهواء، وكل شيءٍ يبدو حزيناً، حتى البنايات التي ما زالت قائمة تنتظر مصيرها، بعدما أخذت الغارات أخواتها وجيرانها. عالم من الخراب والدمار.

وصلتُ إلى بيت الصحافة اليوم. كنتُ أشعر بالتعب والألم، فظهري يؤلمني بشكلٍ أكثر من اللازم. مددتُ فرشة في الغرفة التي يتم شحن البطاريات فيها وشغّلت المروحة ونمت. الفرشة مريحةٌ قليلاً، خصوصا أنها سميكة. يبدو أن الجيران من بيت الداية الذين باتوا يستخدمون بيت الصحافة في الليل من أجل النوم جلبوا هذه الفرشات الجديدة معهم. نِمتُ قرابة ساعة وأنا أشعر بالراحة. حين أفقتُ، كان بلال وأبو سعد يتحدّثان في شؤون الحرب وطرق البحث عن النجاة. يقول بلال: لو اضطُررنا للذهاب جنوباً سننام في واحدة من المقطورات الكبيرة التي يملكها أبو سعد، وهي كثيرة، وجزءٌ منها موجودٌ في الجنوب. في داخلها يمكن لنا أن نحتمي من القصف، فهي مصفّحةٌ بعض الشيء.

كلّ صور التهجير والتنقل وحمل الملابس والآنية والأطفال والخروج من البيت مشاهد مؤلمة، تعيد تذكيرنا بالألم الكبير أو الأكبر

هل سنطرُق الخزّان أم سنظلّ داخله مختبئين. بدت الفكرة معقولةً، لكنها مؤلمة، فمشهدنا داخل الخزّان الكبير في جزف المقطورة هو استعادة لألمٍ كثيرٍ في تاريخنا. كلّ صور التهجير والتنقل وحمل الملابس والآنية والأطفال والخروج من البيت مشاهد مؤلمة، تعيد تذكيرنا بالألم الكبير أو الأكبر. فكّرتُ أنني لن أفعل هذا مهما كلّف الأمر. تقول أمي "اللّي بطلع من داره بنقلّ مقداره"، والخروج من البيت هو خروجٌ إلى المجهول، وأنا لا أحبّ المجهول، والبحث عن النجاة ليس إلا محاولة فاشلة من أجل تأجّل تحقيق المحتوم، لو كان سيقع. لذلك قلت لبلال: "لا مقطورة ولا معمورة، اللي بدّه يصير راح يصير".

كان بلال يحاول أن يهدّئ من روْع نفسه، ويخفّف من قلقه. سألني: "فكرك في اجتياح برّي". قلتُ: لا. ... لم أقصد التخفيف من قلقه، ولكنني كنتُ أحاولٌ أن أجد الإجابة الأقرب إلى الصواب، فالجيش يدمّر كل شيء حولنا، وهو فعلاً يجتاح البرّ من الجو. ليس هذا ما قصدَه بلال بالسؤال. كل ما يرمي إليه ما إذا كان الجنود سيدخلون غزّة. لأن هذا يعني أن علينا أن ننفّذ تعليمات الجيش بالتوجّه جنوباً. بدت المناشير التي سقطت اليوم من طائرات الاحتلال أكثر جدّية، وكانت مكتوبةً بحزمٍ أشد، إذ حملت كثيرا من التهديد بأن من سيبقى سيتمّ اعتباره يتعامل مع منظمّات إرهابية، على حد وصف المناشير.

لا جديد يمكن أن تفعله. تسير حياتُك بالرتابة نفسها، وتمرّ تفاصيل يومك بالمراحل نفسها وبالتوقيت المكرّر. سأمضي النهار هنا. عند الرابعة، سأذهب إلى عيادة وسام، وأتأكّد من أنهم لا يريدون شيئاً. سأحمل اليوم معي الماء المثلّج بعدما وضعت الزجاجات في برّاد الثلاجة. ثم عند الخامسة، سأذهب إلى الشقّة في الصفطاوي. وعند السادسة لزيارة حماتي وحماي. وعند السادسة والنصف لزيارة والدي. وعند السابعة عند فرج أو عند أختى عيشة اليوم. يظل السؤال: هل سأذهب إلى شقّتي في الصفطاوي كالمعتاد، أم أن تحذير هناء يجب أن يكون رادعاً. قالت: "لا أريد أن أفقدكم. بكفّي".

قضايا وناس
التحديثات الحية
المساهمون