تُعَدّ الوصاية المجتمعية أمراً شائعاً في مصر، على صعد عدّة. وهي تطاول الجميع، لا سيّما النساء باختلافهنّ، فتنتهك حرّيتهنّ الشخصية، وحريّة الملبس هي أحد أوجه تلك الحرية التي كفلها الدستور والقانون في البلاد.
قبل نحو عام، شاركت حبيبة طارق التي تُعرَف اليوم بـ"فتاة جامعة طنطا" أو "فتاة الفستان"، كخبيرة تجميل خاص بالخدع السينمائية في فيلم قصير موضوعه التنمّر. وقد جعلت حبيبة طارق نصف وجه بطلة الفيلم مشوّهاً نتيجة حروق، بهدف إيصال رسالة عن التنمّر الذي تتعرّض إليه النساء في مصر بسبب مظهرهنّ. ولم تتخيّل حبيبة طارق أنّها سوف تكون بعد عام "بطلة حقيقية" لواقعة تنمّر في جامعتها وعلى مرأى ومسمع من الجميع، بسبب ارتدائها فستاناً خلال تأديتها امتحاناً.
في منشور على صفحتها الخاصة على موقع "فيسبوك"، تروي حبيبة أنّها تعرّضت إلى تنمّر فيما كانت خارجة من امتحان في اللغة التركية بكلية آداب جامعة طنطا. هي كانت ترتدي فستاناً بكمَّين طويلَين ويغطّي الجزء الأكبر من ساقَيها. وتعليقاً على ذلك، أعلنت إدارة جامعة طنطا: "نؤكد للجميع أنّه حتى هذه اللحظة لا توجد أيّ شكوى رسمية وُجّهت إلى إدارة الكلية من قبل الطالبة في هذا الشأن، ونؤكد أيضاً للجميع أنّه في حالة وجود شكوى رسمية سيجري التحقيق فيها على الفور وإعلان نتائجها للجميع". من جهته، أشار المتحدث الرسمي باسم الجامعة وليد العشري في تصريحات إعلامية، إلى أنّ الجامعة سوف تفتح تحقيقاً على الفور في الواقعة بصرف النظر عن وجود شكوى رسمية من عدمه.
وسرعان ما تلقّف الواقعة محامي البلاغات المصري الشهير سمير صبري، وتقدّم ببلاغ إلى النائب العام المصري ضدّ مراقبي امتحان كلية الآداب في جامعة طنطا، بشأن ما تعرّضت إليه الطالبة حبيبة طارق. وجاء في بلاغ صبري أنّ سؤال الطالبة عن كونها مسلمة أم مسيحية وسبّها بـ"قلة الأدب" يشكّلان "أركان جريمة التنمر المؤثمة بموجب نص المادة (309 مكرّر ب) من قانون العقوبات المصري.
وتنصّ المادة 309 مكرّر ب في قانون العقوبات المصري على أنّه "يُعَدّ تنمّراً كلّ قول أو استعراض قوة أو سيطرة للجاني، أو استغلال ضعف للمجني عليه، أو لحالة يعتقد الجاني أنّها تسيء للمجني عليه، كالجنس أو العرق أو الدين أو الأوصاف البدنية، أو الحالة الصحية أو العقلية أو المستوى الاجتماعي، بقصد تخويفه أو وضعه موضع السخرية، أو الحط من شأنه أو إقصائه عن محيطه الاجتماعي، ومع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد منصوص عليها في أي قانون آخر يعاقَب المتنمّر بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه (نحو 640 دولاراً أميركياً) ولا تزيد على ثلاثين ألف جنيه (نحو 1910 دولارات) أو بإحدى هاتَين العقوبتَين. وتكون عقوبة الحبس مدّة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقلّ عن عشرين ألف جنيه (نحو 1280 دولاراً) ولا تزيد على مائة ألف جنيه أو بإحدى هاتَين العقوبتَين إذا وقعت الجريمة من شخصَين أو أكثر".
وتأتي واقعة التنمّر على فتاة جامعة طنطا التي اشتهرت بـ"فتاة الفستان"، بعد أيام قليلة من واقعة تنمّر أخرى على طالبة منتقبة تُدعى داليا ربيع وتتابع دراستها في الفلسفة في كلية الآداب بجامعة بني سويف. وداليا لم تتعرّض للتنمّر فحسب، بل للضرب من أستاذ مساعد ورئيس قسم التاريخ حسين يوسف بعدما خلع عنها نقابها عنوة. وأفادت الطالبة المنتقبة في شهادتها بشأن ما تعرّضت، بأنّه "في أثناء قيامي بامتحاني تمّ الاعتداء عليّ، حيث صفعني أستاذ جامعي على وجهي".
بعد هذه الواقعة، قرّرت جامعة بني سويف، وقف يوسف عن العمل لمدّة ثلاثة أشهر أو إلى حين الانتهاء من التحقيقات معه لصفعه طالبة منتقبة وتجريدها من نقابها، وذلك وفقاً لقانون تنظيم الجامعات المصري في المادة 106 التي تنصّ على أنّه "لرئيس الجامعة أن يأمر بإيقاف عضو هيئة التدريس عن عمله لمدّة لا تزيد على ثلاثة أشهر، كما عهد - طبقاً لذات القانون - للمحقق القانوني بالجامعة وهو أحد أعضاء هيئة التدريس بكلية الحقوق، بإجراء التحقيق في الواقعة، مطالباً بسرعة إنجاز التحقيق وعرض نتائجه عليه فوراً لاتخاذ القرارات اللازمة في ضوء ما تسفر عنه التحقيقات ولمنع تكرار مثل تلك الوقائع مُستقبلاً".
في الواقع، القضية ليست قضية حبيبة وداليا، بل هي قضية النساء في مصر عموماً. هؤلاء يفتقرنَ إلى كثير من الحرية في اختيار مظهرهنّ الخارجي. وفي أحيان كثيرة، تحتّم الظروف والوصاية المجتمعية عليهنّ خيارات محدودة قد لا تعبّر عن شخصياتهن الحقيقة. وفي حال تمسكهنّ بخياراتهنّ، يدفعنَ الثمن غالياً كما حبيبة وداليا. في عام 2016، كشف استطلاع للرأي أعدّه مركز "بيو" الأميركي للأبحاث الذي يتّخذ من واشنطن مقرّاً له، عن آراء عدد من الدول العربية والشرق أوسطية تجاه حرية المرأة في اختيار الملابس التي ترتديها والطريقة التي ترتدي بها، أنّ مصر جاءت في أسفل قائمة الدول العربية، إذ إنّ 14 في المائة فقط يعتقدون في حرية اختيار المرأة لملابسها. واللافت أنّ قضية حرية اختيار المرأة المصرية ملابسها أمر يتجدد في كلّ فترة مع كلّ واقعة تنمّر أو مضايقة أو تمييز، آخرها كان مع أزمة ملابس السباحة للمحجبات (بوركيني)، حين منعت قرى ومنتجعات سياحية فخمة في الساحل الشمالي المصري النزول إلى برك السباحة بـ"البوركيني".
في سياق متّصل، أُقحمت قضية ملابس المرأة لتبرير وقائع التحرّش الجنسي التي صارت أمراً معتاداً قد تتعرّض له أيّ امرأة مصرية في حياتها اليومية، ما دفع دار الإفتاء المصرية إلى إصدار بيان جاء فيه أنّ "إلصاق جريمة التحرّش النكراء بقَصر التهمة على نوع الملابس وصفتها تبريرٌ واهمٌ لا يصدر إلا عن ذوي النفوس المريضة والأهواء الدنيئة". كذلك وجّهت مؤسسة الأزهر رسالة مع المضمون نفسه، عبر جريدة "صوت الأزهر" الناطقة باسمه، جاء فيها أنّ "ملابس المرأة أياً كانت، ليست مبرراً للاعتداء على خصوصيتها وحريتها وكرامتها".
تجدر الإشارة إلى أنّ الدستور المصري كفل الحرية الشخصية لجميع المواطنين ووضع قيوداً صارمة لعدم المساس بها، فتنص المادة 54 من الدستور على أنّ "الحرية الشخصية حقّ طبيعي، وهي مصونة لا تُمس". كذلك تنصّ المادة 99 على أنّ "كلّ اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور جريمة لا تَسقُط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم". وفي تعليق قانوني على ما تعرّضت له الشابتان حبيبة طارق وديالا ربيع، أفادت مؤسسة حرية الفكر والتعبير (منظمة مجتمع مدني مصرية) تحت عنوان "حرية الملبس في الجامعات المصرية"، بأنّ حرية الملبس هي أحد أوجه الحرية الشخصية التي كفلها الدستور والقانون المصري كما الدولي، وأنّ أيّ تعدٍّ عليها يُعَدّ انتهاكاً للدستور وسيادة القانون.