استخدم الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 25 ألف طن من المتفجرات على قطاع غزة منذ بدء حربه واسعة النطاق في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أي ما يعادل قنبلتين نوويتين، بحسب بيان صادر عن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري.
ووفقاً للمرصد ومقره جنيف، فقد اعترف الجيش الإسرائيلي بقصف أكثر من 12 ألف هدف في قطاع غزة، مع رقم قياسي من القنابل يتجاوز 10 كيلوغرامات من المتفجرات لكل فرد. وأشار المرصد إلى أن وزن القنابل النووية التي أسقطتها الولايات المتحدة على هيروشيما وناغازاكي في اليابان نهاية الحرب العالمية الثانية في أغسطس/ آب 1945، قدر بنحو 15 ألف طن من المتفجرات.
وكانت شبكة أخبار فلسطين، قد نقلت عن مسؤولين فلسطينيين في قطاع غزة، نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أن قوات الاحتلال الإسرائيلية أسقطت ما يقارب 20 ألف طن من المتفجرات على القطاع في حربها العدوانية المستمرة. فيما لفت المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي أسقط أكثر من 18 ألف طن من المتفجرات على قطاع غزة منذ بدء عدوانه حتى نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وبعيداً عن التباين في الأرقام، إلا أن الثابت والمؤكد بأن قوات الاحتلال أسقطت ما بين 18 و25 ألف طن من المتفجرات، ما يزيد عن حجم القنبلة النووية التي أسقطت خلال الحرب العالمية الثانية.
وبالنظر إلى حجم التأثيرات الإنسانية الناتجة عن انفجار القنبلة النووية في هيروشيما، والتي كانت تحمل ما يعادل آلاف الأطنان من المواد المتفجرة، يمكن القول إن التاريخ أعاد نفسه في قطاع غزة الذي تبلغ مساحته نحو 365 كيلومتراً مربعاً، ما يسمح بإطلاق تسمية "هيروشيما الثانية" على القطاع.
وفيما تسببت القنبلة التي ألقيت على هيروشيما عام 1945 بمقتل عشرات الآلاف، ليس الوضع في غزة أقل كارثية، حتى على صعيد الإصابات، فقد بلغ عدد الشهداء نحو عشرة آلاف، فيما بلغ عدد الجرحى أكثر من 25.000 جريح. كما تسبب العدوان الإسرائيلي بتضرر 220 ألف وحدة سكنية، وتضرّر 40 ألف وحدة سكنية بشكل كلي وباتت غير صالحة للسكن،
بحسب المكتب الإعلامي في غزة، علماً أن قصف مناطق مكتظة بالسكان بكميات كبيرة من المتفجرات وذات قدرة تدميرية عالية يزيد تأثيراتها السلبية على الصحة والبيئة.
مخاطر آنية وبعيدة
يؤكد اختصاصي الأمراض الداخلية الدكتور جورج بشارة، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن قصف مساحة جغرافية صغيرة ومكتظة سكانياً بكميات كبيرة من القنابل التي تنتج إشعاعات خطرة سيتسبب في تأثيرات صحية جسدية ونفسية عدة.
ويقول: "يعد الدخان الكثيف الناتج عن الغارات الجوية وإلقاء القنابل والسموم من أهم الأسباب التي تُصيب السكان بأمراض تنفسية، فاستنشاق هذه المواد، خاصة في الساعات الأولى من إلقائها، يتسبب في حصول التهابات فورية في القصبة الهوائية، كما يدخل الدخان الرئة، وقد يعيق التنفس ويُتلف الرئة".
ويتحدث بشارة عن أن التأثيرات قد تكون آنية أو بعيدة. ويشرح أن "تلك الآنية ترتبط بكون الدخان المتصاعد من القنابل مصدر خطر كبير خلال الدقائق الأولى من انتشاره، لأنه يحمل النار والكثير من الغازات السامة المشتعلة مثل كلوريد الزنك وأكسيد الزنك وحمض الهيدروكلوريك، وسداسي كلور الإيثان وكلوريد الكالسيوم والألومنيوم. وإذا انتشرت هذه الغازات في بيئة مفتوحة وجيدة التهوية وعالية الرطوبة، تؤثر بشكل ضئيل على جسم الإنسان، أما إذا استهدفت منطقة أو مكاناً مقفلاً وذا مساحة صغيرة نسبياً فتدمّر تأثيراتها الصحة".
وتفيد دراسات علمية بأن تأثيرات استنشاق الدخان تختلف بين السكان، فالأطفال الرضع والصغار تحديداً قد يواجهون خطر الاختناق بسبب صغر حجم الرئة، وكذلك الحال بالنسبة إلى كبار السن، أما الكبار فقد يستطيعون المقاومة بشكل أكبر.
ويوضح بشارة أن الإصابات الناتجة عن استنشاق الدخان تحصل بشكل رئيسي بسبب مادة "كلوريد الزنك" الموجودة في بعض القنابل.
ويعرّف المركز الأميركي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها كلوريد الزنك بأنه مادة شديدة الاشتعال يمكن أن تتلف بسرعة الغشاء المخاطي في الجهاز التنفسي. ويؤدي الاستنشاق الكبير للمادة، خاصة في مكان ضيّق، إلى سعال وشعور بضيق في الصدر وبحة في الصوت وسرعة في التنفس، وصولاً إلى الإصابة بمتلازمة الضائقة التنفسية الحادة (ARDS)، وربما الوفاة.
ويعلّق بشارة: "على المدى الطويل، تصيب التأثيرات الجهاز التنفسي، وقد تشكل أحد عوامل الإصابة بأمراض مزمنة، خاصة إذا تركزت الأبخرة والغازات في جسم الإنسان، وقد تتسبب في أمراض السرطان".
أبعد من إصابات الرئة
وتكشف دراسة أجراها موقع مجلة "يال" الطبية الأميركية أن الغازات السامّة قد تؤثر في جودة الهواء، خاصة إذا كانت ذات تركيز عالٍ. وتمر الملوّثات الناتجة عن الغازات بآليات الدفاع المعتادة في مجرى الهواء العلوي للجسم، ويمكن أن تخترق عمق الرئتين وتضعف وظائف الرئة، وتتسبب في أمراض، بينها التهاب الشعب الهوائية، ونوبات ربو. كذلك يمكن أن تنتقل الجزيئات إلى مجرى الدم، وتنتقل إلى أعضاء أخرى.
وإضافة إلى مشكلات الجهاز التنفسي، جرى ربط التعرض لجسيمات PM2.5 بزيادة خطر الإصابة بالنوبات القلبية والسكتة الدماغية وسرطان الرئة وانخفاض الوظيفة الإدراكية.
وتؤثر إصابة الرئة الناجمة عن استنشاق الدخان على وظيفة الرئة لدى المريض، لأن وظيفتها الطبيعية تتطلب سلامة جدار الصدر، وتحسن عضلات الجهاز التنفسي، ومجرى الهواء مفتوحاً، وبنية أنسجة طبيعية. وبعد استنشاق الدخان، يمكن أن يتسبب عمل المكونات السامّة وعوامل الحرارة في سلسلة تغييرات في العمليات الفيزيولوجية لجسم الإنسان، مثل تفاعلات الالتهاب، وزيادة نفاذية الشعيرات الدموية الرئوية، وزيادة تدفق الدم القصبي، والتشنج القصبي، وانخفاض امتثال الجهاز التنفسي.
غزة أكثر تلوّثاً
أظهرت دراسات عدة أن استخدام الأسلحة بشكل مفرط وأخرى محرمة دولياً، مثل الفوسفور الأبيض ومواد إشعاعية أخرى، يترك تأثيرات واضحة على البيئة المحيطة. وقد عانت أجيال ناشئة من أمراض عدة نتيجة التفاعلات الإشعاعية والغازات السامّة، سواء على صعيد التشوّهات الخلقية، أو ارتفاع نسب العقم، أو الأمراض السرطانية.
ويعتبر المهندس الزراعي والخبير البيئي محمد صالح، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "إلقاء متفجرات، خاصة تلك التي تحمل مواد سامة، يؤثر مباشرة على الإنسان من خلال الأمراض، وغير مباشرة من خلال تلويث الهواء والتربة، وهو ما أعتبره الأخطر".
يتابع:"تعد البيئة جزءاً مهماً ومتكاملاً لا ينفصل عن المناطق المأهولة بالسكان، باعتبار أنه يصعب رسم خط فاصل قوي بين البيئة وحياة الناس. وإلقاء كميات كبيرة من القنابل، التي وصلت في قطاع غزة إلى أكثر من 12 ألف طن، يرفع نسبة تلوّث الهواء، إذ تتبخر الغازات في الغلاف الجوي للمنطقة، وهو ما ظهر في كميات الدخان المتصاعدة التي غطّت لأيام مناطق عدة في القطاع".
ويذكر أن "تقارير سابقة عدة صنّفت غزة من بين المناطق الأكثر تلوّثاً في العالم نتيجة الحروب المتكررة، وكميات الدمار التي تخلفها العمليات العسكرية. ويزيد تلوّث الهواء حدة الأمراض المستعصية، على غرار أمراض الرئة والربو".
ويرى أن "تلوّث الهواء لا يشمل فقط إصابة الجهاز التنفسي، بل يصل إلى مجاري الأنهار والمياه، وشرب كميات كبيرة من المياه الملوّثة يجعل صحة الإنسان في خطر، وقد يصاب بأمراض تتعلّق بالجهاز الهضمي وغيرها".
مادة "الأسبستوس"
يعتقد صالح أنّ "المباني المدمرة تحتوي على مواد سامة، مثل الأسبستوس، ما يعرض صحة الناس لخطر". وتستخدم مادة "الأسبستوس" في البناء، وهي ذات فوائد تجارية؛ بسبب مقاومتها غير العادية لقوة الشدّ ورداءة توصيلها الحرارة ومقاومتها النسبية لهجمات المواد الكيميائية عليها، لكنها في المقابل مادة مسرطنة بالنسبة إلى البشر، وقد تتسبّب في الإصابة بورم المتوسطة (يصيب الطبقة الرقيقة من الأنسجة التي تُغطِّي مُعظم الأعضاء الداخلية) وسرطان الرئة وسرطاني الحنجرة والمبيض، وأيضاً في أمراض أخرى، مثل داء "الأسبستوس" (تليّف الرئتين) وداء لويحات أغشية الرئتين وحالات التثخّن والانصباب.
ولا تقارير في المرحلة الراهنة عن حجم الدمار الذي لحق بقطاع غزة، رغم أن مشاهد الخراب واضحة، لكن يتوقع أن يكون حجم الدمار في القطاع؛ بسبب هذه الحرب الأعلى والأعنف.
وعام 2014، قدّر فريق المهندسين التابع للمجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار حجم الدمار من العدوان الإسرائيلي بنحو 1.2 مليون طن حجم الركام.
وتركز الجزء الأكبر من الركام حينها في مدن وبلدات معينة تعرضت لقصف وحشي، ما دمّر مساحات واسعة، منها بيت حانون وبيت لاهيا شمالي القطاع، والشجاعية وخزاعة في الشرق، ورفح في الجنوب.
وأظهر تقرير الفريق حينها دمار نحو 8.8 آلاف وحدة سكنية بالكامل، وتضرر 7.9 آلاف وحدة بشكل بالغ، و39 ألفاً أخرى بشكل متوسط أو بسيط.