هند النعيرة... "معلّمة" كناوية مسكونة بالموسيقى

18 مايو 2023
وجدت هند ضالتها في الفن الكناوي (العربي الجديد)
+ الخط -

لم تمنعها العادات والتقاليد التي ترسم خطوطاً حمراء للنساء من أن تخطّ لنفسها مساراً فنياً متفرّداً ومتمرّداً في آن. راهنت الفنانة المغربية الشابة هند النعيرة على مشروع شخصي ورؤية، خصوصاً بعد اقتحامها مجالاً ظلّ لسنوات طويلة حكراً على الرجال أو "المعلّمين الكناويين"، لتكون ثاني فنانة كناوية تعزف على آلة الكمبري في المغرب، وتتمكّن لاحقاً من تأسيس فرقة موسيقية تعيد إنتاج موسيقى كناوة بروح متجددة.
داخل فرقتها أو بيتها الثاني بمدينة الصويرة المغربية المسكونة بموسيقى كناوة الروحية، التي تنهل من جذورها الأفريقية وبصمتها الصوفية، تتدرّب هند على الأغاني، تحفظ وتعيد، تمزج وتبدع حتى تدخل في حالة انسجام مع آلة الكمبري أو الهجهوج، وهو "السلاح" الذي هدمت به قلاعاً من الأفكار النمطية السائدة، ومنحت محبيها فرصة الاستمتاع بنغمات تحرك المشاعر الإنسانية وتسافر إلى جذور ضاربة في موروث أفريقي وافد إلى المغرب العربي منذ القرن السادس عشر، في فترة  تجارة العبيد في شمال القارة.
هند من مواليد 4 إبريل/ نيسان 1997 في الصويرة أو موكادور. عشقت فن كناوة منذ صغرها، ربما ساعدتها في ذلك نشأتها في مدينة تحتفي باستمرار بموسيقى كناوة وتجمع عبر مهرجانها أعظم المعلمين في المغرب، وأفضل الموسيقيين على الساحة الدولية، وكأن الرائي أمام مختبر حقيقي لفن غنائي روحي أفريقي مفتوح على أجناس موسيقية مختلفة.
فتحت الشابة عينيها بين أسوار مدينة الرياح، تلقت تعليمها الابتدائي والثانوي فيها، ثم حصلت على شهادة البكالوريا عام 2017، ثم على دبلوم في مجال الفندقة والسياحة، واحترفت لعب كرة السلة ضمن نادي الأمل الصويري ومنه إلى المنتخب الوطني في البلاد. 

أسست فرقتها عام 2022 (العربي الجديد)
أسست فرقتها عام 2022 (العربي الجديد)

كان صوت الآلات الوترية يتناهى إلى سمعها وهي تعبر أزقة الصويرة، ويخترقها عزف آلة الهجهوج القديمة التي كانت تصنع من الحطب وتغطى بجلد الإبل، وتجذبها قوة القراقب النحاسية، أو صوت الكانكاه (الطبل الكبير) فتتماهى مع الوصلات الموسيقية لرواد هذا اللون من أمثال مصطفى بقبو ومحمود غينيا وحسن حكمون. ما سبق كان بمثابة سحر يجذبها لتضع أول قدم لها في مجال الموسيقى الكناوية.
تقول هند لـ "العربي الجديد" إن دخولها عالم الفن الكناوي كان مدفوعاً بالتحدي وكسر الصورة النمطية عن احتكار هذا المجال من قبل الرجال، على الرغم من أن المرأة قادرة على العطاء والإبداع. وتشير إلى أنها اقتنت في البداية آلة الكمبري، وبدأت تتدرب على أساسياتها وتحضر دروساً على يوتيوب وحفلات وليالي كناوية مباشرة، بالإضافة إلى قراءة مقالات وكتب عن موسيقى كناوة، التراث الذي يشكل أحد مقومات الهوية والثقافة المغربيتين.
"كانت البدايات عام 2016 بتشجيع من أصدقاء ومقربين. أعددت فيديو قصيراً لقي إقبالاً واستحساناً من قبل عشاق تكناويت، على الرغم من معارضة أسرتي". وتوضح: "رفضت أسرتي دخولي عالم موسيقى كناوة، وخصوصاً والدتي، وكانت في كل مرة تقطع لي أوتار آلة الكمبري وتقول إن الجن فعل ذلك، لتبعث في نفسي الهلع فأتراجع، باعتبار أنني داخل عالم الجن والأرواح وفق السائد في الأساطير. كان ذلك خوفاً منها على مستقبلي ولقلة وجود نساء في المجال، غير أنني واصلت مسيرة الألف ميل بخطوات تابثة".

خلال إحدى الحفلات (العربي الجديد)
خلال إحدى الحفلات (العربي الجديد)

متسلحة بالموهبة والإرادة القوية، تدرّبت هند على العزف على آلة الكمبري والغناء، وصارت ثاني عازفة على هذه الآلة الوترية في المغرب بعد أسماء حمزاوي في فرقة "بنات تمبكتو"، وبدأت تشارك في حفلات موسيقية ومهرجانات فنية في مدينتها وخارجها. وتدريجياً، تحوّلت معارضة أسرتها إلى دعم ومساندة مكّناها من أن تشق مسارها بثبات، فكانت مشاركتها ضمن مهرجان كناوة وموسيقى العالم بمثابة دفعة قوية ساهمت في لقائها بجمهور واسع اختار أن يطلق عليها لقب "المعلمة الكناوية"، وهو مُسمّى يمنح عادة للفنان الملمّ بقواعد هذا اللون الموسيقي والمتمكن منه.

عام 2022، ستكتمل لدى هند النعيرة فكرة تأسيس فرقة موسيقية، وكان لافتاً أنها تضم رجالاً فقط. تقول إنها كانت متخوفة في البداية من تقبل الأعضاء فكرة أن تتقدمهم امرأة، لكن سرعان ما اختفى هذا الهاجس لديها. فالقاسم المشترك بينهم كان عشق الفن الكناوي والرغبة في المضي به قدماً لمزيد من الإشعاع والعالمية، كما أنها لا تعارض انضمام النساء للفرقة، بل تشجعهن على خوض التجربة.
توضح هند لـ "العربي الجديد" أنها شاركت مع فرقتها في حفلات موسيقية ومناسبات عديدة، حضر فيها الفن الكناوي التقليدي القديم، و"الفيزيون" أو المزج بين أنماط موسيقية مختلفة. وتشير إلى أنها تحمل على عاتقها رسالة إيصال الفن الكناوي داخل وخارج المغرب، والتأكيد أن هذه الموسيقى قادرة على احتضان النساء ومنحهن الفرصة ليقلن كلمتهن ويرفعن أصواتهن من خلال الموسيقى. 

دخولها عالم الفن الكناوي كان مدفوعاً بالتحدي (العربي الجديد)
دخولها عالم الفن الكناوي كان مدفوعاً بالتحدي (العربي الجديد)

وجدت هند ضالتها في الفن الكناوي وتعلقت به. ولا ترى أي مانع في مزج موسيقى كناوة بإيقاعات وأنماط أخرى، طالما تساهم في إشعاعه وتطمح إلى أن تكون بحق "سفيرة موسيقى كناوة".
عن تجربتها الفنية، يقول الزجال والباحث في التراث الكناوي يوسف الصرارفي لـ "العربي الجديد": "سعت هند إلى كسر قيود المجتمع، واقتحمت عالم الفن الكناوي الذكوري بامتياز، كما استطاعت تخطي كل الصعوبات والعراقيل التي واجهتها. ضحكت وبكت، اختبرت الفشل والنجاح، ثم انتفضت لتُطلق العنان لموهبتها التي صقلتها بالتعلم والاحتكاك بالمعلمين الكناويين، حتى تمكنت من وضع قدميها على طريق النجومية".
يضيف الصرارفي أن دور النساء "الكناويات"، نسبة إلى هذا الفن، كان يقتصر على تهيئة حفل الليلة الكناوية، أحد الطقوس المتعارف عليها، والقيام على خدمة "معلميها" من دون أن يكون لهن حضور بارز في العزف والغناء، فما كان من هند إلا أن رفعت سقف التحدي لتكون في المقدمة، ولتبعث برسالة تشجيع لكل محبات هذا اللون الموسيقي، للمضي قدماً ومسايرة الموجة الشبابية التي تحتضن حالياً موسيقى كناوة وتساهم في إشعاعها وطنياً ودولياً.


يذكر أن مدينة الصويرة تحتضن في الفترة الممتدة من 22 إلى 24 يونيو/ حزيران المقبل الدورة الرابعة والعشرين من "مهرجان كناوة وموسيقى العالم"، بمشاركة 115 فناناً من دول عدة، بينهم هند. وسيحتفي المهرجان وفقاً للمنظمين بغنى وتنوع موسيقى كناوة وأنماط موسيقية عالمية أخرى، من خلال برنامج غني. 

المساهمون