يراجع كثير من التونسيين منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة النظر في رؤيتهم السابقة للغرب، ولا سيما الدول الأوروبية الداعمة للاحتلال، وبدأ كثيرون تكوين أفكار مناهضة لفكرة الهجرة الرائجة، وصولاً إلى الاستغناء عن استعمال اللغة الفرنسية التي يتم تداولها على نطاق واسع في البلاد.
تجري التونسية بسمة بن حسين (46 سنة) مراجعة شاملة بشأن نظرتها إلى الدول الأوروبية منذ عملية "طوفان الأقصى"، وصلت إلى حد التفكير في إعادة تسجيل ابنتها التي تدرس في جامعة ألمانية بإحدى الجامعات التونسية. وتقول لـ"العربي الجديد": "دعم الحرب على غزة، والانحياز الأوروبي المفضوح للكيان الصهيوني غيرا كل مواقفي تجاه تلك الدول، وأعادا تشكيل وعي العديد من التونسيين حول زيف المبادئ التي طالما حاولت الدول الغربية ترويجها بشأن احترامها لحقوق الإنسان".
هاجر ضياء الغمراسني (23 سنة) إلى فرنسا في سن التاسعة عشرة لاستكمال دراسته الجامعية، ثم قرر الاستقرار هناك للعمل، ويؤكد أن "موجة العنصرية التي تفجرت ضد العرب بعد طوفان الأقصى غيرت كل قراراتي جذرياً، وأصبحت بصدد ترتيب أموري للعودة إلى تونس، والاستقرار فيها نهائياً. البلدان العربية مطالبة باستعادة أبنائها من دول المهجر، لا سيما الدول الأوروبية التي تستفيد من المهاجرين بينما تحارب تطوير أوطانهم".
وتشدد منية السهيلي (36 سنة) على أن "الحكومات العربية باتت مطالبة بإعادة النظر في سياساتها التي تدفع المواطنين إلى الهجرة، والتركيز على بناء جبهة داخلية صلبة. الهجرة جزء من خطط تفقير البلدان واستعمارها اقتصادياً، وهذا لا يقل خطورة عن العدوان المسلح".
وخلال السنوات الأخيرة شهدت تونس موجات هجرة متزايدة شملت معظم شرائح المجتمع، كما استفحلت ظاهرة هجرة الكفاءات نتيجة عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، إلى جانب انتشار البطالة، وتعطل منظومة تشغيل حاملي الشهادات الجامعية.
وحسب أرقام المرصد الوطني للهجرة، ارتفع عدد التونسيين في الخارج إلى 1.5 مليون شخص، ويغادر سنوياً نحو 36 ألف تونسي لاعتبارات أهمها اقتصادية واجتماعية. وكشف المرصد الحكومي أنّ 39 ألف مهندس و3300 طبيب غادروا البلاد في الفترة بين 2015 و2020 من أجل الحصول على فرصة عمل بالخارج، وشهدت تلك الفترة طفرة في هجرة الكفاءات من الاختصاصات المميزة، كما كشفت دراسة ميدانية حديثة قام بها المرصد أن 65 في المائة من المستجوبين من فئة الشباب يرغبون في الهجرة، وأن نحو 40 في المائة من الشباب يفكرون في خطة للهجرة، حتى لو كانت غير نظامية.
يقول الباحث في علم الاجتماع بالجامعة التونسية، رياض بن خليفة لـ"العربي الجديد": "النخب التونسية في نقاش مستمر منذ اندلاع الحرب في غزة. هذا النقاش يؤدي حتماً إلى مراجعات على مستوى السلوك والقرارات، وقد يشمل هجرة الأفراد، لا سيما حاملي الشهادات العليا والكفاءات. نجح الغرب رغم تاريخه الاستعماري في تسويق صورة احترامه لحقوق الإنسان والحريات العامة والفردية، قبل أن تكشف الحرب على غزة زيف كل تلك الشعارات، ما يستدعى إعادة نظر من قبل النخب في علاقتهم بتلك الدول وبنظرتهم إليها".
ويرى أنه "من المبكر الحديث عن تأثير الحرب على غزة على سياسات الهجرة في تونس. لكن التضييقات التي يواجهها المهاجرون، وتصاعد موجات التمييز والعنصرية ضدهم قد يحدان من الرغبة في الهجرة. تبقى الهجرة قراراً شخصياً، وأرجّح أن تجيب الفترة القادمة عن تأثير اهتزاز صورة الغرب لدى التونسيين على قرارات الهجرة".
وحسب التوزيع الجغرافي للجالية التونسية في المهجر، يقيم 85.7 في المائة من أفرادها في دول أوروبية، وتعتبر فرنسا دولة الاستقبال الأولى للمهاجرين التونسيين في الفضاء الأوروبي، وبنسبة تتجاوز 56 في المائة، وتأتي بعدها إيطاليا بنسبة 15 في المائة، ثم ألمانيا بنسبة 6.6 في المائة، كما تقيم في البلدان الثلاثة النسبة الأعلى من التونسيين الذين لم تتجاوز أعمارهم 18 سنة، وتقدر النسب بـ14.8 في المائة في فرنسا، و33.5 في المائة في ألمانيا، و21.6 في المائة في إيطاليا.
ويقول المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، إن "دوافع الهجرة لا تزال قائمة في تونس، ومن بينها الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية، لكن تنامي العنصرية في الدول الأوروبية قد يحد من جاذبيتها مقارنة بتزايد جاذبية دول منطقة الخليج العربي. المناخ العام في الدول الأوروبية، والمواقف السياسية لحكامها غالباً ما يكون لهما تداعيات على الجاليات العربية، والمهاجرون يكونون غالباً في مرمى الملاحقات الأمنية والترحيل، وأرجح أن تعجّل المواقف من الحرب على غزة بالعودة النهائية لبعض المهاجرين".