هاجر أبو سمعان تنقل عن طفلها ناصر: أنا مش ضايع وعندي عيلة (6)

03 أكتوبر 2024
طفل ناج من قصف إسرائيلي في غزة (زياد فتيحة/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يروي النص شهادات مؤلمة لناجين من الحرب في غزة، حيث فقدوا عائلاتهم ومنازلهم وأطرافهم، ويعانون من نقص في التعليم والمستشفيات، مما يجسد الألم والمعاناة بعد السابع من أكتوبر.
- تروي هاجر أبو سمعان تجربتها خلال القصف الإسرائيلي، حيث فقدت ساقها وأصيب ابنها، وتصف محاولاتها لحماية أطفالها وسط المجازر والدمار، ومعاناتها من نقص الأدوية والماء والطعام.
- يصف النص الظروف القاسية في مستشفيات غزة، حيث يعاني الجرحى من نقص الأدوية والمعدات، وتروي هاجر اقتحام المستشفى ومعاملتها الوحشية، وخوفها الدائم على حياتها وعائلتها.

هَذِه شهادَاتٌ لِناجِين وناجياتٍ من الحرْب فِي قِطَاع غَزَّة اِلتقيْتُهم فِي البرْزخ. حِكايَاتٌ مَسمُولةٌ بِالْأشْواك تُحَاوِل التَّحْديق فِي الفاجعة، سِلْسلةُ قِصص توْثيقيَّةٍ تَبحَث فِي ثِيمة النُّقْصان. هُنَا بشر فَقدُوا كُلّ شَيْء: عائلاتهم، بُيوتهم، أطْرافهم، أحْشاءهم، قطعًا مِن اللَّحْم اِعْتادتْ أن تَكسُو عِظامَهم، حَوَاسّ زوَّدتْهم بِهَا البيولوجْيَا لِالْتقاط معْلوماتٍ عن العالم الخارجيِّ، وَرقَة تِينٍ توارِي سَوأَة خَطِيئَة لَم يقْترفوهَا، وَلغَة مُتماسكة لَم يُصبْهَا مَا أَصَاب أصْحابهَا مِن تشظٍ وَشَتاتٍ واسْتحالةٍ إِلى أَشلَاء مُتناثرة.

قِصص النُّقْصان هَذِه؛ نُقْصان الأجْساد مِن أعْضائهَا، الخريطة مِن تضاريسهَا، التُّرْبة مِن بقْلهَا وقثَّائهَا وزيْتونهَا، البحْر مِن أسْماكه، القصائد مِن وزْنهَا وقافيتهَا، المنْظومة التَّعْليميَّة مِن أساتذتهَا وتلامذتهَا، المشافي مِن حَبَّة دَوَاء، قِصص تُحَاوِل الاكْتمال عَبْر روِي النُّقْصان، صَوْت الضحِية - التِي لَم تَعُد تَملِك غَيْر ذاكرتهَا فِعْلاً لِلْمقاومة - لِجَعل اللغَة البشريَّة الحسِّيَّة قَادِرة على تَجسِيد الألم أو النَّظر إِلَيه، إِنَّها مُحَاولَة لِرؤْية الإبادة مِن وُجهَة نظرٍ خَاصَّةٍ بِلحْظةٍ مُعَينَةٍ تَبحَث فِيمَا حدث لِفلسْطينيِّي غَزَّة بَعْد السَّابع مِن أُكتُوبَر.

هذهِ الشهادات التي تكتُبُها الروائيّةُ سمر يزبك وينشرُها "العربي الجديد" على حلقاتٍ ستصدُرُ لاحِقاً في كتابٍ يحمِلُ اسمَ "ذاكرة النّقصان".

 

لم أدركْ بدايةً كمْ هي سميكةٌ تلك الأسوار التي استطاعت هذه المرأة أن تبنيَها داخل نفسها، لتصدَّ أمواجَ الحزن عن الخروج من داخلها، كانت تتكلم وكأنَّ الكارثةَ وقعت في مكانٍ آخر. ومع كلّ جملةٍ كانت تودي بشهادتها نحو صورةٍ من صور المآسي هناك في قطاع غزّة، كانت تعتذر إنْ سبّبَتْ لي أيّ ألم. كانت تلك المرأة -رُغم كلّ شيء- شهادةً حيّةً على قدرة الكرامة على الانتصار:
 أنا هاجر أبو سمعان، عمري ثلاثون سنة، أَسْكُنُ حيّ الصبرة وسط مدينة غَزَّة. صباح السابع من أكتوبر كُنْتُ مُستيقظة أُجَهِّزُ أولادي للمدرسة: سَلْوى عُمْرها إحدى عشرةَ سنةً، سارة عشرُ سنين، وناصر في السّادسة. فُوجِئْنَا حِين سماع صوت الصواريخ ذلك الصباح، لم نعرف ما يَحْدُث، وبعد ساعتين عَلِمْنَا أنّ المقاومين هدمُوا السور ودخلوا! اخْتَلَطَتْ مَشَاعِرُنَا بين الفرح والخوف، فقد تَوَقَّعْنَا أنّ الردّ الإسرائيلي سيكون قاسيًا. 

محاطون بالمجازر

نحن أساسًا نَعِيشُ في سجن في غَزَّة، ومُعَرَّضُونَ دائماً للقصف والحروب. اسْتَمَرَّ القصف الأوليّ علينا ثلاثة أسابيع، ولم نتركْ البيت. كُنَّا نَظُنُّ أنهم لن يقصفونا، فنحن مدنيّون، والإسرائيليّون يعرفون ذلك، لكنّهم قَصَفُوا الجميع. جيراننا من عائلة حمدان قُتِلَ منهم عشرةُ أشخاص. عائلتا الدّهشان والخُولي، فقد كانت بُيُوتُهُم تُؤْوي أقرباء لهم نزحوا من حي الرمال. في حيّ الرمال أبراجٌ أُخْلِيَتْ وقُصفت حتّى سُوِّيَتْ بالأرض، لذا كان لدينا في حيّ الصبرة أعدادٌ كبيرة من النازحين، ولذا خَلَّفَ القصف عندنا أعدادًا كبيرة من القتلى والجَرْحَى. المبنى الذي نَسْكُنُ فيه مكوّنٌ من ثلاثة طوابق، وهو ملكٌ لأهل زوجي، وكان فيه أيضاً أقرباء نزحوا إلينا. في ذلك الوقت كان فيه أربعون شَخْصًا، أي حين بدأ الحزام الناري. عشرات الصواريخ نزلت دفعةً واحدة، وأصوات الانفجارات كانت رهيبةً كأنّ الأرض تَنْشَقُّ. ربّما دامت الموجة الواحدة رُبع ساعةٍ تظلّ فيها الصواريخ تَنْزِلُ بالعشرات دون انقطاع. لا أَسْتَطِيعُ أن أَصِفَ لك مشاعرنا حينها، كُنَّا خائفين حتى الموت، بل نَنْتَظِرُ الموت في كل لحظة ونظلّ نُرَدِّدُ الشهادتين. النتيجة معروفة، فمجزرة الجّلاء التي راح ضحيتها مئتا شخص كانت قريبة منا، بل كنّا نسمع صوت الانفجارات فيها. مجزرة المعمداني نفس الأمر. كُنَّا مُحَاطِينَ بالمجازر، وفي انتظار دورنا كُنْتُ أَجْمَعُ أولاد البناية مُحَاوِلَةً تَخْفِيفَ الرعب عنهم، أقرأ لهم القرآن، ونَرْسُمُ ونُلوّن معاً. كُنَّا نَرْسُمُ وسط المجازر والدَّمار. ابني ناصر بات لا يخرج من تحت الكنبة، يَحْشُرُ نفسه أسفلها، واضعًا رأسه بين يديه، جسمه المشدود دائم الارتعاش، وأحيانًا يثنيه كما لو أنه دائرة تريد أن تختفي. منظره كذا سَبَّبَ لي مزيجًا من الخوف والشفقة عليه. وكنت أقول له: تعال لحضني، أنتَ في حضني بأمان. فيسْرِعُ إليّ ويتكور في حضني دافنًا رأسه في صدري. كانت أيامًا صعبة، وزاد القصف ومعه زاد خوف الأولاد وصياحهم. صوت الزنّانة بذاته مخيفٌ، يُخِيفُنا فيه أنّها قد تدخل علينا، فقد دَخَلَتْ بعض البيوت! وصار من العادة أن أَنَامَ مع أولادي في غرفةٍ واحدة، في الصّالون غالبًا، ظَنًّا منّا أنّه أكثر أَمْنًا: ناصر في حضني، وسلوى وسارة متكوّرتان عليّ، وأنا أَدْعُو الله أن يرزقنا نعمة النوم، أمّا زوجي فينام في غرفةٍ أخرى. تلك كانت حالنا في الليلة التي قُصِفَ فيها مَبْنانا. ضَرَبُوا صاروخين. مبنانا من ثلاثة طوابق كما أخبرتُكِ، أَسْكُنُ في الطابق الأول/ فوق الأرضي. طارت الشبابيك، تَخَلَّعَت الأبواب، والطّابقان اللذان فوقنا تهدّما. سَقْفُ الصالون الذي كُنَّا ننام فيه تهدّم أيضًا، نزل علينا حاملًا معه جُثَثَ ستة أفرادٍ من أقارب زوجي كانوا ينامون في الصالون فوقنا تمامًا. ماتوا نيامًا، أمّا أنا وابني فقد أُصِبْنَا إصاباتٍ خطرة. علمتُ ذلك كلّه حين صحوت لاحقًا في المشفى، فقد غبت عن الوعي فورَ القصف. حدث القصف ليلة الثاني من نوفمبر. اسْتَيقظْتُ مثل من كانت في نومٍ عميق لأجد نفسي في المشفى برِجلٍ واحدة. أَخْبرَنِي زوجي أنّ رِجْلِي قُطِعَتْ فورًا بسبب القصف، وأنّهم دفنوها مع جُثَث وأشلاء من قُتِلُوا بالغارة. هكذا صار جزءٌ من جسدي مدفونًا مع جُثَثِ أقربائي وأشلائهم في حُفْرَةٍ واحدة. التفكير في هذه المسألة غريب، لا أَكَادُ أصدّق أو أفهم. كيف يمكن هذا؟ جثث أقربائنا كانت أشلاءً، مفتّتة. والأشلاء كانت مختلطةً ببعضها، معجونةً بالركام، ومبعثرة في كلّ مكان. لم يعرفوا كلّ جزءٍ منها لمن يعود. وجدوا رأسَ ابن صِهري على سطح دارٍ مجاورة. قُتِلَ من قُتِلَ، وأُصِيبَ البقية. زوجي قال إنّ الضّربة اخترقت الطابقين العلوِيّين صانعةً فتحةً في سقف الصالون وهي التي تسبّبت ببتر رِجْلِي. اخترت الصالون ننام فيه ظانةً أنّه آمنٌ، ما من مكانٍ آمن في غزّة. قال زوجي إنّه فورَ القصف رأى رأس ابننا ناصر بين الركام وظنّ أنّه ميّتٌ، ثمّ تبيّن له أنّه أُصِيبَ بجراح عميقةٍ في رأسه وبطنه ورجله. حمله وركض بَحثاً عن سيارة. كان لدى جميع سكان الحيّ مُصَابُهُمُ الذي ينشغلون به، لكنّ ذلك لم يمنعهم من مساعدة بعضهم بعضاً. أخذ جيران لنا ابني بسيارتهم وعاد زوجي للبحث عني. كنت مدفونةً تحت الرّدم، الجروح في كلّ مكانٍ في جسدي، والدماء تُغطيني، ورجلي مقطوعة. ظنّني ميتة، لكنّ ابنتي سلوى قالت له إنّها سمعت أنيني. أُصِيْبَتْ سلوى بالحروق، لكنّها بقيت واعيةً أثناء القصف وبعده ورأت كلّ شيء، أمّا سارة فقد أكل الصاروخ من لحمها وسبّب لها جراحاً مشوِّهةً في كل جسمها.

أنا مشْ ضايع

في البدايةِ ظنُّوا أنَّ ناصرًا ميّتًا، لذا وضعوه، فورَ أنْ أوصله جيرانُنا إلى المشفى، بجانبِ جثثِ الأطفالِ الذين قَضوا في المجازر. وضعهُ الممرِّضونَ مع الأطفالِ المجهولين إذْ لم يعرفوا اسْمهُ ولا ابنَ من يكون. الأعدادُ كبيرةٌ والحالةُ فوضى. ثمَّ لمّا أتى زوجي لم يجدهُ. الزحامُ خانقٌ، الناسُ تائهون، والجثثُ ملقاةٌ على الأرض، وكلُّ واحدٍ يبحثُ عن جثثِ أهلهِ وأقربائهِ، وزوجي لا يجد جثةَ ناصر. ضاع ابني! ظنُّوا أنَّه ميتٌ فوضعوه مع جثثِ بقيَّة الأطفال، وحينَ أتت ساعةُ الدفنِ اكتشفوا أنَّهُ حيٌّ فأسرعوا به إلى غرفةِ العمليّات. أجروا له عمليةً في رأسهِ واستأصلوا طحالهُ وبتروا رجلَهُ من الكعب. بعد أنْ صحا من عمليتهِ سمع بأنَّهم يقولون عنهُ إنَّه طفلٌ ضائعٌ مجهولُ الاسم، قال لهم إنَّه ليس ضائعًا وإنَّ لديه اسمًا وعائلة. صار يصرخ: "أنا مشْ ضايع، عندي عيلة، اسمي ناصر أبو سمعان". لم يلتفت له أحدٌ، خبّرتك، كان ذلك اليوم مثلَ يومِ الحشر، قتلى، مصابون، الباحثون عن أقاربهم بين الجثث وقوائم الجرحى، فوضى، صراخٌ وعويلٌ في كلِّ مكان، كيفَ لأحدٍ أنْ يسمعَ أحدًا؟ لم يسمعْهُ أحد، وناصر يظلُّ يصيح: "أنا مشْ ضايع، عندي أهل، أنا ناصر أبو سمعانْ. ظلَّ زوجي يبحثُ عن ابننا بين الشهداء، وفي كلِّ قسمٍ من أقسام المشفى، حتّى عثر عليه أخيرًا بعد يومين. في تلك الفترة كنت ممدَّدة على سريري في المشفى مثلَ جثةٍ، لا أستطيع تحريكَ عضوٍ من جسمي، ولا حتّى رأسي، لا أرى غير السقف، ولم أكنْ عرفتُ بعدُ أنَّ رجلي قُطِعَت. في الحقيقة لا أذكر الآن اللحظةَ التي عرفتُ فيها أنّني فقدتُ رجلي، مرَّ كلُّ شيءٍ بشكلٍ سريعٍ وغريبٍ في مشفى ظلَّ أطباؤُه يعملون ليلَ نهار، وكلُّ الجرحى حولي ذوو إصاباتٍ خطرةٍ ويحتاجون لعملياتٍ جراحيةٍ لا تنتهي. المهم، حينَ جاءَ زوجي وأخبرني أنَّهُ عثر على ناصر حمدتُ الله، بعدها جاؤوني به. لاحظتُ أنَّهُ ارتاح حينَ رآني، ابتسم، ابتسمتُ، لم يستطعْ أنْ يركضَ نحوي، لم أستطعْ أنْ أركضَ نحوه، بل لم يستطعْ أحدُنا أنْ يضمَّ الآخر، اكتفينا بتبادلِ النظراتِ والتبسُّم.

حَدَثَ في مَشفى الشِّفاء

بَعدَ أُسبوعٍ حوصِرَ المَشفى. فكَّرَ زَوجي أنْ يَنقُلَنا إلى المَشفى المَعمَداني، كان المَعمَداني عادَ للعملِ بَعدَ المَجزَرة. كَيفَ سَأنتَقِلُ؟ كُنتُ عاجِزةً عنِ الحركةِ، حتّى تَحريكِ أصابِعي. جِسمي كُلُّهُ يُؤلِمُني، التَّنَفُّسُ يُؤلِمُني، آلامٌ شَديدةٌ لا تُوصَف، وبِساقٍ واحدة. قُلتُ له: إذا تَحرَّكتُ سَأموت! عَبثاً حاوَلَ أن يُقنِعَني. كُلُّ ما كُنتُ أُفَكِّرُ فيهِ هو أطفالي، أَرَدتُ أن يَنجوا ويَعيشوا. أَقنَعتُهُ أن يَأخذَ الأولادَ إلى المَعمَداني، أمّا أنا فسَأَبقى هُنا في الشِّفاءِ وسيَعتني بي أَخي. إذَن فقد كُنتُ في مَشفى الشِّفاءِ حينَ حوصِرَ بَعدَ أُسبوعٍ من إدخالي إليهِ، ثُمَّ اقتَحَمَهُ الإسرائيليون. قَتَلوا كثيرين. ظَلَّ أَخي يَخرُجُ ويَدخُلُ ويُخبِرُني بما يَراه. أَطلَقوا النارَ على الجميع، انتشَرَت الجُثثُ في كُلِّ مكان، وبَقِيَتْ مَرميةً على الأرضِ تَنهشُها الكِلابُ والقِطط، ونحنُ على أَسِرَّتِنا داخِلَ الأَقسامِ نَسمَعُ ما يَحدُثُ في الخارِجِ من قِصَصٍ مُرعبةٍ مُعتقِدينَ أنَّنا نَنتَظِرُ المَصيرَ نَفسَه. ماذا أَقولُ لكِ؟ لم يَتَخَلَّ عَنَّا الأطباءُ والممرِّضون، كانوا مُتَفانين إلى أَبعَدِ حَدٍّ. قالوا لنا: نحنُ أَقسَمنا القَسَمَ الطِّبي، لا نَترُكُ جَرحانا، سَنَظلُّ معكُم، نَعيشُ معًا أو نَموتُ معًا. لا أَزالُ أذكُرُ مُمرِّضًا، اسمُهُ محمود جُودة، ذَكَرَهُ الله بكُلِّ خير، كانَ يَعمَلُ من السّابعةِ صباحًا إلى الواحدةِ بَعدَ مُنتَصَفِ الليل، يَعمَلُ بلا تَوَقُّفٍ في خِدمةِ ثَمانينَ مريضًا. مَلاكٌ حقيقي. وكانَ يُغَيِّرُ لي ضِماداتِ جُروحي. كانتِ الجُروحُ في كُلِّ شِبرٍ من جِسمي، بَعضُها طَويلٌ وعَميق، ولا بُدَّ من تَغييرِ الضِّماداتِ كي لا تَتَفاقَمَ إنتاناتُ الجُروحِ ويَأكلَني الدودُ وأنا حَيَّة. المُشكلةُ أنَّهُ لم تَتوفَّرِ الأَدويةُ المُخدِّرةُ والمُهدِّئة، لا كيتامين ولا غيرُه، وكانَ تَغييرُ الضِّماداتِ مُؤلِمًا إلى أَقصى دَرجة. كُنتُ أَصرُخُ طالِبةً مِنهُ أن يَقتُلَني، لا أَستطيعُ تَحَمُّلَ الوَجع، لا أُريدُ أن أعيش. وكانَ المُمرِّضُ، وغيرُه من المُمرِّضينَ والأطباء، يُعامِلونني بهُدوءٍ ورَحمةٍ طالِبينَ مِنّي الصَّبرَ والتَّحمُّل. لم أَتَوَقَّف عن البُكاء، حَقًّا، لم أَكُن أتَوَقَّف عن البُكاء. أَشعُر أنَّ سَكاكينَ تُقَطِّع لَحمي، أَموتُ أَلفَ مرَّةٍ وأَعودُ إلى الحياة، كُلُّ ثانِيةٍ هي في الوقتِ نَفسِهِ مَوتٌ وعَودةٌ إلى الحياة.

يخوض أطفال غزة مقاومة من نوع خاص (محمد عابد/فرانس برس)
يخوض أطفال غزة مقاومة من نوع خاص (محمد عابد/ فرانس برس)

عانَينا كثيرًا من نَقصِ الماءِ والطَّعام. شَرِبنا "المياهَ المالحة" من المَواسير، وبعدَ فترةٍ لم نَكَد نَحظى حتّى بتِلكَ المياه، فأَخذَ بَعضُ الشَّباب يُغامِرونَ بحَياتِهم ليَخرُجوا ثُمَّ يَعودوا لنا بالقَليلِ من الماء. وماذا أُحدِّثُكِ عن نَقصِ الطَّعام؟ جُعنا، جاعَ الجميع، سَمِعتُ بُكاءَ الأطفالِ من الجوع. أُضيفي إلى ما سَبَقَ نَقصَ الأَدوية الشَّديد، هذا كُلُّه ونحنُ تحتَ القصفِ وجُنودُ الاحتلالِ قد يَقتَحِمونَ غُرَفَنا في أَيَّةِ لحظة. وأنا أُعاني، وأَسمع، وعاجِزةٌ عن الحركةِ أو فِعلِ أَيِّ شيء. قَصَفوا مَبنَى الوِلادةِ في المَشفى، وسمعنا قِصَصًا رهيبةً عَمَّا جرى هناك، لا أَستطيعُ أن أَرويَ لكِ كُلَّ الذي سَمِعت، لا أَقدِر. قَصَفوا قِسمَ الخُدَّج، كانَ بهِ ما بينَ عِشرينَ أو ثلاثينَ خديجًا، لا أَذكُرُ الرَّقمَ بدِقة. ماتَ بَعضُهم واحِدًا تِلوَ الآخر، ثُمَّ أَخرجوا البَقية، هكذا سَمِعت. مَن أَخرجهم؟ إلى أَينَ أَخَذوهم؟ هل يَعرِفونَ أَسماءَهم وعائِلاتِهم؟ ما الذي حَلَّ بهم؟ ما الذي حَلَّ بأُمهاتِهم؟ كُنتُ على سَريِري أَسمعُ هذهِ القِصَصَ وأُفَكِّرُ بحالِ الأُمهاتِ وأَتَألَّم. القَصفُ مُستمِر، الاتِّصالاتُ مَقطوعة، المُصابونَ والجُثثُ في كُلِّ مكان، ولا أَستطيعُ الاطمِئنانَ على زَوجي وأولادي ومَعرِفةَ أَخبارِهم. ظَلَّ أَخي مَعي كما أَخبرتُكِ. كانَ يَعتني بي ويُخاطِرُ ليأتيَ بِبَعضِ الماءِ والمُعلَّبات، جَعلني هذا في خَوفٍ دائمٍ عليه. كانَ عندَنا بَعضُ التَّمر، رُبَّما أَكلتُ تَمرَةً في اليومِ أو تَمرَتَين. قَبلَ انتهاءِ الحِصارِ بأَربعةِ أَيَّام صَدَرَ أَمرٌ بِخُروجِ الجميع، على الجميعِ من أَطباءَ وممرِّضينَ ومَرضى مُغادَرَة المَشفى. يَبقى فقط مَن هم في حالاتٍ حَرِجةٍ أو مُمدَّدون، أمَّا كُلُّ مَن يَستطيعُ الحركةَ ولو على عُكازٍ أو كُرسيٍّ مُتحرِّكٍ فعليهِ الخُروجُ عبرَ المَمرِّ الآمِن. هكذا سَمَّوه! مَمرٌّ آمِن! هو شارع، نَسيتُ اسمَهُ والله، خَرَجَ إليهِ الجميعُ ومَشوا فيه. بَقيتُ بِسببِ وضعي مع مَن بَقيَ من أَصحابِ الإصاباتِ الخَطرة، وبَقيَ مَعنا خَمسَةُ أطباء وأَربعةُ ممرِّضين، ونَزلنا جميعًا إلى الطَّابِقِ السُّفلي. رَأيتُ جَرحى مَتروكين، تَرَكَهُم أهلُهم وخرَجوا. أذكر رَجُلاً تركه ابنه وحيداً، أُصِيبَت جُرُوحُهُ بالتعفُّن حتّى صار الدود يخرج منها، والرجل صامتٌ لا يتفوّه بشيءٍ. في تلك الأيام كان أخي هو من يغير لي الضمادات، تعلَّمَ من مراقبته الممرضين. انتظرنا القصفَ، توقعنا ذلك، انتظرنا الموتَ في كلّ لحظةٍ، ولم نتخيلْ أن يقتحموا المبنى. لكنّهم اقتحموه! حدثَ ذلك بعد أربعة أيامٍ من الإخلاء الذي تمّ. دخلوا المشفى، أخذوا الأطباءَ وعرَّوهم من ملابسهم، ضربُوا الممرضينَ، اعتقلوا الشبابَ أو قتلوهم، وقد أشعرني هذا بخوفٍ شديدٍ على أخي. ثم نادوا في المذياع أنّهم يريدون تفتيشَ المرضى، فجمعونا، وجاء جنودٌ مدجّجون بالسلاح عرَّوا كلّ الذكور وفتشونا. هذا في الحصار الأوّل الذي تعرض له المشفى، في الحصارات اللاحقة سيقتلون الجرحى.
عشيّةَ الهدنة أخرجَنا الإسرائيليون من المشفى. كلّ الذي حدثَ معي حتّى ذلك الحين في كفةٍ، وما حدثَ بعده في كفةٍ. كدّسونا في سيّارةٍ واحدةٍ، أنا ومعي أربعة جرحى آخرين، طفلان وبالغان. ظلت السيارة تهتز بنا على طول الطريق، وجسمي ملتصقٌ مباشرةً بحديد السيارة وجروحي مكشوفةٌ. مع كل هزةٍ كان الألم يذبحُني. القافلة مؤلفةٌ من سبع عشرة سيارة إسعافٍ، وانتظرنا تسع ساعاتٍ عند حاجز نتساريم حتّى جاء دور سيارتنا للتفتيش. كنت أسمع صوتَ أنيني يخفت شيئًا فشيئًا حتّى ظنّنتُ أنّي متُّ. اعتقد الإسرائيليون خطأً أنّ الجريحَ الذي بجانبي مطلوبٌ، فوضعوا فوّهةَ البندقية على رأسه. حينها أغمضتُ عيني، فكرتُ في أنّهم سيطلقون النار عليه. وفي الجانب الآخر منّي كانت أمٌّ تحضن طفلتها المصابة. الطفلة مصابةٌ في رأسها، وقد أُجريَتْ لها عمليةٌ فيه، ولم تكن قادرةً على تثبيته، يظل يتحرك ويهتز. صرخ جنديٌّ في الأم كي تثبت رأسَ ابنتها. أخبرته الأمّ أنّ هذا من مضاعفات إصابتها. كان الإسرائيليون يريدون إجراء مسحٍ ضوئيٍّ لعين البنت. جاء عدّةُ جنودٍ وثبّتوا الطفلةَ وأجروا المسحَ الضوئي. لم أفهمْ ما يحدث، جنودٌ اجتمعوا لتثبيت رأس طفلةٍ في السابعة من عمرها لأخذ صورةٍ لعينها. أهذه البنت تهدّد العالم؟ يا الله! تسع ساعاتٍ انتظرنا عند حاجز نتساريم تحت أنظار الأمم المتحدة والهلال الأحمر. اعتقل الإسرائيليون المسعفين، والممرضين، والأطباءَ الخمسة. اعتقلوا شابّةً مسعِفةً من الهلال الأحمر. اعتقلوا الدكتور محمد أبو سلمية، وأخي نجا من الاعتقال بأعجوبةٍ. لم تفعل الأمم المتحدة شيئًا، جرى ذلك أمام أعين موظفيها.

تكرر النزوح تحت القصف في مدينة غزة (فرانس برس)
تكرر النزوح تحت القصف في مدينة غزة (فرانس برس)

مرت ساعاتُ التفتيشِ والانتظارِ عند حاجز نتساريم كأنّها قرنٌ. انتهى التفتيشُ، وتابعتِ السياراتُ طريقَها. كنّا نسيرُ تحتَ القصفِ، وعلى مدِّ النظرِ في الطريقِ انطرحتِ الأشلاءُ البشريةُ والجثثُ المتعفنةُ. أخذوني إلى مدرسةٍ، فالمشفى كان ممتلئًا بالمرضى والنازحين. المشفى الإندونيسيُّ محاصرٌ، والمشافي الأخرى غيرُ مؤهلةٍ لاستقبالِ المزيدِ. وضعوني على سريرٍ معدنيٍّ دونَ فراشٍ، كان جسمي على الحديدِ مباشرةً. بقيتُ أصرخُ طيلةَ الوقتِ من الألمِ، وكانت الطفلةُ نفسها، ذاتُ الرأسِ المفتوحِ الذي لا يكفُّ عن الاهتزازِ، تصرخُ هي الأخرى صرخاتٍ مرعبة. في اليومِ التالي قالوا إنّهم جهزوا لنا مشافيَ ميدانيّةً، هي خيامٌ مزودةٌ ببعضِ الأمورِ الطبيةِ. سعى خالي لنقلي في سيارةِ إسعافٍ إلى إحدى تلكَ الخيامِ، وكانوا يغيرونَ لي الضماداتِ في المشفى الأوروبيِّ. في فترةِ الهدنةِ تلكَ عرفتُ ما حلَّ بأهلي خلالَ الشهرينِ الفائتينِ، نزحوا مراتٍ ومراتٍ، من حيِّ الدرجِ إلى الجلاءِ، ثمّ إلى الزيتونِ، بعده إلى الشجاعيةِ. كنتُ ممددةً على سريري بينما كانوا يعانونَ وهم ينزحونَ من مكانٍ إلى مكانٍ والقصفُ يلاحقهم في كلِّ مرةٍ. أخي إبراهيم استشهدَ، كان ينقلُ مياهَ الشربِ للناسِ حينَ استهدفتْه طائرةٌ مسيّرةٌ. زوجي وأولادي ظلّوا في المشفى المعمدانيِّ. تشتتنا، افترقنا كلٌّ في مكانٍ، لم أرَ أهلي وأولادي إلى الآن.

صورٌ كثيرةٌ لمأساةٍ واحدةٍ

توجدُ صورٌ كثيرةٌ لا تغادرُ رأسي. صورةُ الذبابِ وهو يغطينا ونحن في المشفى. صورةُ الدماءِ على البلاطِ. صورةُ القططِ التي كانت تلتهمُ الجثثَ ثمّ تدخلُ علينا بوجوهٍ حمراءَ، نراها ونعرفُ أنّها دماءٌ بشريةٌ. 
توقفَتْ للحظةٍ عن الكلام، بدَت وكأنّ شفتيها تحتجزان سيلًا من الكلمات، تُحرك كتفيها وكأنّها تنفي فكرةً ما في حوارٍ داخليّ، ثمّ كأنّها توقفت أن تشعر بوجودي، راحَت تتكلمُ مثل مَن يُحدّثُ نفسَه: 
صورةُ الجثثِ تفترشُ الطرقاتِ في طريقنا إلى نتساريم ثمّ في طريقنا من نتساريم. صورةُ طفلةٍ ممددةٍ قبالتي في المشفى الميدانيِّ نزفتْ حتّى الموتِ. كانت رجلُها مبتورةً ولم يكنْ معها أحدٌ، ظلّت تنزفُ وتنزفُ وتغيبُ عن الوعيِ شيئًا فشيئًا إلى أنْ ماتت. عشتُ خوفًا ورعبًا شديدين، ولا أدري هل تكفي كلماتٌ مثل الخوفِ والرعبِ لوصفِ ما عشته. انتظرتُ الموتَ في كلِّ لحظةٍ، لم أتخيلْ أنّي سأعيشَ وبي هذه الآلامُ والجروحُ التي لا تلتئمُ. لم أتخيلْ أن تفرّقَ الأيامُ بيني وبينَ أولادي وزوجي وأهلي. كنتُ أتمنى أن ألتقيَ بهم، أردتُ أن نعيشَ معًا أو نموتَ معًا. الفراقُ صعبٌ. أقولُ لكِ ذلك وأنا أعلمُ تمام العلمِ أنّ ما حصلَ معنا لا يساوي شيئًا بالمقارنةِ مع آخرين. فقد نجوتُ على الأقلِّ، وإن بساقٍ واحدةٍ، ونجا زوجي وأولادي والحمدُ لله. تذكرتُ! الآن تذكرتُ طفلةً من آل الخولي، عمرها خمسُ سنواتٍ. حينَ سقطَ الصاروخُ على بنايتهم قُتلَ الجميعُ، أبوها، أمها، الأعمامُ، العماتُ والخالاتُ. تعرفين كيفَ نجت؟ طارت! طارتْ هي وأختاها من أثرِ الانفجارِ. أختٌ منهما أُصيبتْ بحروقٍ شاملةٍ، الثانيةُ لا أدري ماتتْ أم نجتْ، أمّا البنتُ التي أحدثكِ عنها فقدتْ رجليها. كانت معي في مشفى الشفاءِ، وكنتُ أنظرُ إليها وأفكرُ في أنّها فقدتْ كلَّ عائلتها. أترين؟ أنا بخيرٍ، نجا أولادي وزوجي وأهلي. إيمان، إي، اسمها إيمان الخولي. أذكرُ طفلةً يتيمةً ثانيةً، اسمها حلا الدهشان، وطفلةً ثالثةً اسمها دارين البياع، قُتل سبعون واحداً من عائلتها، كلُّ الناسِ تعرفُ قصتها. آخ! أسماءٌ كثيرةٌ في رأسي، أسماءٌ لأطفالٍ اختفتْ عائلاتهم بأكملها، العائلةُ كلها من أعمامٍ وأخوالٍ وأقاربَ. أتذكرُ أيضًا صورًا من المجاعةِ. أهلي، في حيِّ الدرجِ، كانوا يخلطونَ العلفَ مع الطحينِ، نعم! أكلوا علفَ الحيواناتِ. اقتتلَ الناسُ من أجلِ الطحينِ، وصلَ سعرُ الكيسِ لألفِ دولارٍ. تعاركوا وهم يذهبونَ لجلبِ المساعداتِ أو ينتظرونَ كيسَ الطحينِ. ماتَ بعضُهم من أجلهِ. وصلنا لمرحلةٍ مخيفةٍ، مرّتْ أمورٌ كثيرةٌ، وتوجدُ أشياء لا يمكنُ الحديثُ عنها.

المساهمون