سجى ياسر صالح: زوجة ألطف رجل في العالم (9)

14 أكتوبر 2024
شهداء وناجون في دير البلح، وسط قطاع غزة (بشار طالب/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يروي النص شهادات مؤلمة لناجين من الحرب في غزة، حيث فقدوا عائلاتهم ومنازلهم وأحلامهم، موثقًا النقصان في الأجساد والتعليم والمستشفيات.
- تروي سجا ياسر صالح قصتها المؤثرة عن حياتها السعيدة قبل الحرب، وفقدانها لعائلتها تحت القصف، ونجاتها بأعجوبة لتجد نفسها وحيدة.
- تعبر سجا عن معاناتها المستمرة تحت الحصار والتهديد، مؤكدة أن ما يحدث في غزة يتجاوز الحرب ليصبح إبادة جماعية.

هَذِه شهادَاتٌ لِناجِين وناجياتٍ من الحرْب فِي قِطَاع غَزَّة اِلتقيْتُهم فِي البرْزخ. حِكايَاتٌ مَسمُولةٌ بِالْأشْواك تُحَاوِل التَّحْديق فِي الفاجعة، سِلْسلةُ قِصص توْثيقيَّةٍ تَبحَث فِي ثِيمة النُّقْصان. هُنَا بشر فَقدُوا كُلّ شَيْء: عائلاتهم، بُيوتهم، أطْرافهم، أحْشاءهم، قطعًا مِن اللَّحْم اِعْتادتْ أن تَكسُو عِظامَهم، حَوَاسّ زوَّدتْهم بِهَا البيولوجْيَا لِالْتقاط معْلوماتٍ عن العالم الخارجيِّ، وَرقَة تِينٍ توارِي سَوأَة خَطِيئَة لَم يقْترفوهَا، وَلغَة مُتماسكة لَم يُصبْهَا مَا أَصَاب أصْحابهَا مِن تشظٍ وَشَتاتٍ واسْتحالةٍ إِلى أَشلَاء مُتناثرة.

قِصص النُّقْصان هَذِه؛ نُقْصان الأجْساد مِن أعْضائهَا، الخريطة مِن تضاريسهَا، التُّرْبة مِن بقْلهَا وقثَّائهَا وزيْتونهَا، البحْر مِن أسْماكه، القصائد مِن وزْنهَا وقافيتهَا، المنْظومة التَّعْليميَّة مِن أساتذتهَا وتلامذتهَا، المشافي مِن حَبَّة دَوَاء، قِصص تُحَاوِل الاكْتمال عَبْر روِي النُّقْصان، صَوْت الضحِية - التِي لَم تَعُد تَملِك غَيْر ذاكرتهَا فِعْلاً لِلْمقاومة - لِجَعل اللغَة البشريَّة الحسِّيَّة قَادِرة على تَجسِيد الألم أو النَّظر إِلَيه، إِنَّها مُحَاولَة لِرؤْية الإبادة مِن وُجهَة نظرٍ خَاصَّةٍ بِلحْظةٍ مُعَينَةٍ تَبحَث فِيمَا حدث لِفلسْطينيِّي غَزَّة بَعْد السَّابع مِن أُكتُوبَر.

هذهِ الشهادات التي تكتُبُها الروائيّةُ سمر يزبك وينشرُها "العربي الجديد" على حلقاتٍ ستصدُرُ لاحِقاً في كتابٍ يحمِلُ اسمَ "ذاكرة النّقصان".

 

هل تُصدِّقيننِي إِن قُلتُ لكِ إنَّني كنتُ أسعدَ امرأةٍ في العالَم؟" هكذَا ابتدَأَت سَجَى شهادتَها. مَلامحُها الطُّفوليَّة تَشِي بِفرحٍ مكتُومٍ عندما تتحدَّثُ عن زَوجِها؛ تبتسِمُ، يتَورَّدُ خدَّاها، تحكِي عن أفرادِ عائلتِها الصَّغيرةِ كأَنّها تراهمُ الآن، تصمُتُ فجأةً. تُخفِضُ رأسها، تشْردُ كأنَّها تُحدِّقُ في فراغٍ، ثُمَّ تنسكبُ الدُّموعُ.

هل تُصدّقيننِي إن قُلتُ لكِ إِنّي كُنتُ أسعدَ امرأةٍ في العالم؟ هذا ما كُنتُ أشعُرُ به حقًّا. اسْمِي سَجَى ياسر صالح، عُمري ثلاثةٌ وعشرونَ عامًا، وأَسكنُ في دير البلَح. زوجِي، يَعقُوب العرقَان، ألطفُ إِنسانٍ يُمكنُ لأحدٍ أن يراهُ ويتعاملَ معهُ. شابٌّ في التَّاسعةِ والعشرينَ من عُمرهِ، وسيمٌ إلى أبعدِ حدٍّ، لطيفٌ فوقَ الوصفِ، ويعملُ طاهيًا لِلمَندِي، نعم! تلكَ الأَكلةُ اليمَنيَّةُ الشَّهيرَةُ. تَزوَّجتُهُ قبلَ ثلاثِ سنواتٍ، أحْببتُهُ أكثرَ من أيِّ مخلوقٍ آخرَ، أحْببتُهُ أكثرَ ممَّا أحْببتُ أحدًا. حنونٌ، كريمٌ، موهِبتهُ فطريَّةٌ في جعلِ البيتِ مفعمًا بالحُبِّ والتَّفاهمِ والرّضى، كاملٌ إلى الدَّرجةِ الَّتي تجعلُكِ تشعُرينَ فيها أَنّهُ غريبٌ عن هذا العالمِ، أنّهُ ليسَ من هذهِ الأَرضِ. ملأَ عليَّ حياتِي، وكُنتُ مُستعدّةً أن أهبهُ عُمري كلّهُ دُون أدنى تردّدٍ. كانت عيشتي معهُ هانئةً، تَختصرُ كُلَّ الجمالِ الَّذي يُمكنُ لي أن أتخيَّلهُ. معهُ سكنْتُ في بيتٍ من مبنًى توزّعتْ على شققهِ عائلةُ زوجِي كلّهَا: والداهُ، أعمامُهُ، إخوتهُ وزوجاتهُم وأولادهُم، ونحنُ. عشرُ عائلاتٍ سكنتِ المبنى نفسهُ. رزقَنِي اللهُ طِفلةً أسْمَيناها مِيرَا، عُمرها وَقَفَ عندَ سنَةٍ وسبعَةِ أشهرٍ. وحِينَ بدأتِ الحربُ كنتُ حُبلى بشام، وكانت نِيّتي أن أمارسَ التَّدريسَ بعدَ أن ألِدَ، فقدْ درسْتُ اللُّغةَ الإنكليزيّةَ في الجامعةِ، وأحببتُ أن أُعينَ زوجي في شُؤونِ حياتنا اليوميَّةِ. ليسَ من السّهلِ إيجادُ فُرصةٍ للعملِ، فالوظائفُ قليلةٌ، وأعرفُ من تخرّجَ من الجامعةِ قَبلي ولم ينلْ فُرصتهُ المهنِيّةَ بعدُ، لذا كنتُ أفَكّرُ في فتحِ معهدٍ خاصٍّ لتدريسِ اللّغَةِ، وحتّى ذلكَ الحينِ كثيرًا ما كُنتُ أساعدُ زوجي في الطّبخِ.

الصورة
فلسطينيون ونزوح في دير البلح - وسط قطاع غزة - 29 أغسطس 2024 (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)
فلسطينيو قطاع غزة في نزوح دائم (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)

إصابتي طفِيفةٌ!

ولدتُ ابنتِي شام في دارِ أهلي في مُخيّمِ النّصيراتِ، حدثَ ذلكَ نهايةَ نُوفَمبر، كانَ القصفُ في كلِّ مكانٍ في المُخيّمِ. لم أستطعِ البقاءَ بعيدةً عن زوجي، فقرّرتُ العودةَ فورًا إلى بيتنا على الرّغمِ من المخاطرةِ. نجوتُ مع شام من الموتِ بأعجوبةٍ. وحينَ صارَ عمرُهَا أسبوعينِ، وكنت لا أزالُ في فترةِ النّفاسِ، ذهبتُ بها إلى العيادةِ لِتأخذَ لُقاحَ السّلِّ. في طريقِ عودتنَا طاولَ القصفُ حيَّنا، في منطقة البُروكِ في ديرِ البلحِ. رأيتُ ذلكَ! في البدايةِ ظننتُ أنَّ الصّواريخَ نزلت على بيتنا. ركضْتُ نحوهُ مثلَ المجنونةِ وحضنتُ ابنتِي مِيرَا حامدةً اللهَ أنَّها بخيرٍ. تكسَّرَ زُجاجُ البيتِ، تخلَّعت أبوابهُ وشبابيكهُ، وامتلأَ بدُخانٍ أسوَدَ ذِي رائحَةٍ غريبةٍ بشعةٍ. الكلُّ يقولُ إنَّ هذهِ الصّوارِيخَ مزودةٌ بسمومٍ. لا أستبعدُ ذلكَ، فدخانها يجعلُ التّنفّسَ صعبًا ومُؤلمًا، تشعرينَ بِتقطُّعِ أحشائكِ مع كلِّ نفسٍ، ويُسبّبُ لكِ السُّعالَ الشَّديدَ والصُّداعَ. لكنَّ الصّاروخَ لم يُصب بنايتنا مُباشرةً، نزلَ على دارِ جيرانِنَا من آلِ مطرٍ. أذْكرُ أنَّ ثمانيةً منهم قُتلُوا مُباشرةً في إِثْرِ القصْفِ. صارَ بيْتُنا في حالٍ مُزْريةٍ، لكنْ لأنَّ قرارنا كانَ البقاءَ فيهِ مهما حدثَ، فقدْ بدأْتُ وزوجي بتنظيفهِ، يدي على يدهِ. اِسْتغرقَ منا الأمرُ النَّهارَ بطُولهِ، من الصّباحِ إلى المساءِ. أخذنا نُزيلُ الشّظايا والأتْربةَ والأوْساخَ، بيْنما كانَ جيرانُنا يُخرجونَ موتاهُمْ. هذا ما كانَ. لا أُنْكرُ أنَّ تلكَ الأيّامَ منذُ السّابعِ منْ أكتوبرَ كانتْ صعبةً للغايةِ، لكنّ وُجودَ زوجي وابنتيَّ معي هوّنَ عليَّ المصائبَ. كانَ يكفينِي أنّنا بخيرٍ معًا لأتجاوزَ كلَّ الأهْوالِ. لا أذكرُ أنّي تأفّفْتُ في مرّةٍ. مساءً، حينَ انتهيْنا، كانَ التّعبُ هدَّ جسدينا، لكنّ البيتَ عادَ نظيفًا مُرتّبًا صالحًا للسّكْنى. أخبرْتُكِ أنّنا قرّرْنا البقاءَ في البيتِ مهما حدثَ، عِشْنا فيهِ وسنموتُ فيهِ. ثُمَّ إلى أينَ نذهبُ؟ لا أزالُ نفساءَ، شام لم تتجاوزِ الأسبوعينِ، والفصلُ شِتاءٌ والجوّ باردٌ. سنبقى. أخبرتُكِ أنّي لمْ أتحمّلِ البقاءَ في دارِ أهلِي فورَ ولادتِي بعيدةً عن بيتنا، كيفَ سأطيقُ النّزُوحَ عنهُ بربِّكِ؟ في نهايةِ ذلكَ النّهارِ المُتعبِ قالَ زوجي: أنا جُعْتُ، اعملِي لنا عشاءً. كنْتُ في المطبخِ أعدُّ العشاءَ، ومِيرَا عندَ جدَّتهَا، وزوجي مستلقٍ ينتظرُ الطّعامَ، حينَ قصفُونا بصاروخينِ. كانَ ليلًا وشبكةُ الإنترنتِ مقطُوعة، اعتدنا منهم أنْ يفعلُوا هذا كُلَّما أرادُوا قصفَ مِنطقةٍ، يُريدونَ أنْ يقتلونا في غفلةٍ من عيونِ العالَمِ. ضربُونا بصاروخَينِ، واحدٍ في أعلى البناءِ وواحدٍ في أسْفلهِ، كأنَّهمْ بذلكَ أرادُوا ألَّا يتْركُوا مجالًا لنجاةِ أحدٍ. يقعُ المطبخُ في زاويةٍ جانبِيّةٍ مُرتفعًا قليلًا عن البناءِ الرّئيسِ، وأنا فيهِ رأيْتُ لَمعانَ الصَّاروخِ وسمعْتُ صَفيرَهُ. شيءٌ مثْلَ لمحِ البصرِ، رأيتُ لمعانًا خاطِفًا وسمعْتُ صَفيرًا حادًّا فقلْتُ: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ، ودوَّى الانفجارُ. حدثَ كلُّ شيءٍ في طرْفة عينٍ. طارَ بيَ الانْفجارُ بعيدًا عنْ مكانِ القصفِ، والصَّاروخانِ هدمَا البناءَ بأكملِهِ. هبطَتْ بنايتنا كلُّها على الأرضِ. في تلكَ الضَّربةِ قُتلَ عشْرونَ شخصًا دَفعةً واحدةً، منْ بينهمْ زوجي وابنتايَ، وأُصيبَ سبعةٌ آخرونَ إصاباتٍ خطرةً. ماتَ زوجي جائعًا. كلَّما فكَّرْتُ في ذلكَ أحسسْتُ قلبي يتحطَّمُ. وأنا تحتَ الرُّكامِ، بعيدًا عن مكانِ القصفِ حيثُ أسقطنِيَ الانفجارُ، ظننْتُ أنّي على وشكِ الموتِ اختناقًا. فوقي رَدْمٌ، وفي صدري دخانٌ، ومنْ تحتِي تصلُني أصواتُ صُراخٍ لنساءٍ وأطفالٍ كانُوا مدفونِينَ أسفلَ منّي. لمْ أسْتطعِ الصُّراخَ، ولا التَّنفّسَ، ثمَّ أحسسْتُ فجأةً أنَّ دفقةً منَ الرّيحِ دخلتْ رئتيَّ. بقيتُ أُفكّرُ في زوْجي وابنتيَّ، وتمنّيْتُ منَ اللهِ، بكلِّ إيمانٍ ويقينٍ، أنْ يُميتَني ويأخُذنِي معهمْ إنْ كانُوا اسْتشهدُوا. حينها أغمَضْتُ عيْنيَّ وكُلِّي اعْتقادٌ أنّي لنْ أفْتحهُما ثانيةً. كنتُ في عتمةٍ تحتَ الرُّكامِ أُفكّرُ بعائلتِي وأسمعُ الصُّراخَ والأَنينَ لمَّا دخلَتِ الرّيحُ رئتيَّ وتنفّسْتُ. وجدْتُ نفسي مدْفُونةً بشكلٍ كاملٍ، ورأيْتُ فتحةً صغيرةً جدًّا استطعْتُ أنْ أُمرّرَ أصابعي منها. لمْ أُصدّقْ أنِّي لا أزالُ حيَّةً، لمْ أُصدِّقْ أنِّي لمْ أمُتْ. أخْرجْتُ أصابعي منَ الفتحةِ وبدأْتُ أُحرِّكها، بقوَّةٍ بادئَ الأمْرِ، ثمَّ بوهنٍ إذْ عاودنِي شُعوري بصُعوبةِ التَّنفُّسِ واقترابِ الموتِ. لا بُدَّ أنَّهم رأَوْا أصابعي فبدؤُوا الحفْرَ لانتشالِي، أرْبعةُ شُبَّانٍ حفرُوا بأيْديهم. لمْ تكنْ لديْهِم أدواتٌ أوْ آلاتٌ للْحَفْرِ، ولا كهْرباءُ أوْ وقودٌ لتشغيلِهَا إنْ وُجدتْ، لكنَّهُمْ حفرُوا حتَّى أخرجُونِي. مُتأكّدةٌ أنَّهم فزعُوا أوَّلَ الأمرِ حينَ رأوْا رجلِي ملقاةً على بطني. أخرجَ أحدهُم رجْلي أوّلًا، كانتْ تتأرْجحُ بيدِهِ مثلَ خرْقةٍ، ثمَّ أكْملُوا انتشالي. وضعُونِي بعدهَا على غطاءِ سريرٍ، شَيءٍ مثلَ نقَّالةٍ بدائيّةٍ، ومشَوْا بي بينَ أكْوَامِ الرُّكامِ ثمَّ أخذُوا يهرولُونَ.

أعي كلَّ ما حدثَ في تلكَ السّاعةِ، لم أقْوَ على الكلامِ، اكتفيْتُ بالإشارةِ لهُم إلى مكانِ زوجي وابنتيَّ ليذهبُوا إليهِم ويُساعدُوهُم. أذكرُ أيضًا أنّي كنْتُ أُفكّرُ بوالديْ زوجي، كانا عجوزينِ. قُلتُ في نفسي: أكيد استشهدُوا، أمّا أنا فبقِيتُ حيَّةً لأنَّ زوجي وابنتيَّ لا يزالُونَ بخيرٍ. وصلَ بي الشُّبّانُ الأربعةُ إلى الشّارع، وهُناكَ وضعُوني على فراشٍ مُلقىً على الأرْضِ. لم أكُنِ الوحيدةَ، أحاطَتْ بي عشراتُ الأجْسادِ، عنْ يميني وعنْ شمالي ومن كُلِّ جهةٍ، أجسادٌ لمُصابينَ وأجْسادٌ لقتْلى، جُثثٌ. لم أكُنْ أشْعرُ بالألمِ بعْدُ، بلْ لم أكُنْ أشعرُ بشيءٍ، لا بخوفٍ ولا غيرهِ، كنتُ أُفكِّرُ بزوجي وابنتيَّ فقطْ، كُنْتُ أُريدُ الاطْمئنانَ عنهُم. في الشّارعِ - وأنا بيْنَ الأجسادِ المرْصُوفةِ بجانبِ بعضِها بعْضًا- لفُّوا رِجْلي بشاشٍ ثمَّ أخَذُونِي إلى مشْفى شُهداءِ الأقْصى. الحادِيَ عشرَ من ديسمْبِر، كيفَ يُمكنُ أنْ أنسَى ذلكَ التّاريخَ؟ الوضعُ كارثيٌّ في المشْفى، المُصابونَ في كلِّ مكانٍ، قِسْمُ الاستقبالِ كانَ مُمتلئًا عنْ آخرهِ. من جَديدٍ وضعُونِي على الأرْضِ بينَ عشراتِ الأجْسادِ المرْميَّةِ وعشَراتِ الأجْسادِ التي تمرُّ وتمْشي من فَوْقِنا. رأيْتُ مُصابينَ فقدُوا أطْرافهُم، وآخرينَ تمزَّقَتْ أجسادُهُم، وغَيرهُم فُتِحَتْ بُطونهُم ورؤوسُهُم. زحامٌ شديدٌ، فوضى، صُراخٌ وألمٌ في كُلِّ مكانٍ، والطّاقمُ الطّبّيُّ عاجزٌ عنْ اسْتيعابِ أعْدادِ المُصابينَ والتّعامُلِ معهُم. تخيَّلي أنّهُم قالُوا إنَّ إصابتِي طفِيفةٌ! إي واللهِ! رجْلي مقطوعَةٌ وعظامي تبرزُ عاريةً للهواءِ وإصابتِي تُعدُّ من الإِصاباتِ الطَّفيفةِ. معهُم حقٌّ، لو رأيْتِ الإصاباتِ الّتي رأيْتُها لقلْتِ إِنَّ إِصابتِي ليستْ من بينِ الإِصاباتِ الخطِيرةِ أو القاتلةِ الّتي تتطلّبُ تدخُّلًا عاجِلًا. لذا اكتفوْا ساعتها بوضْعِ محلولٍ مُعقِّمٍ على رجلِي وانْصرفُوا يهْتَمُّونَ بباقي المُصابينَ. ثمَّ سمعْتُهُم يذكرُونَ بعضَ الأسماءِ. ذكرُوا اسْمَ والدِ زوجي، أبُو إبراهيمَ يعقوب العرقانِ وزوجتَهُ فايزةَ من بينِ الشُّهداءِ. حينَها تذكَّرْتُ أنَّ ابْنتي مِيرا كانتْ معَ جدَّتها لحظةَ القصْفِ وأنا أعدُّ العشاءَ في المطْبخِ. في تلْكَ اللَّحظةِ استطعْتُ الكلامَ، صرخْتُ بكلِّ ما عِنْدِي من قوَّةٍ: بنْتِي معهُمْ؟ لم يردَّ عليَّ أحدٌ، قُلتُ في نفسي: إنْ ماتتْ جدَّتُها فلا بُدَّ أنْ تكونَ ميرا ماتتْ معها. ثمَّ مرَّ من بينِ الأجْسادِ جارٌ لنا، هوَ صديقٌ لزوجي، قُلْتُ لهُ: اذهبْ لزوجي وبناتِي وطمّنّي عنهُمْ. غيرَ أنّي لم أسمعْ منهُ خبرًا. تبيَّنَ لاحقًا، أنَّهُ بسببِ شدَّةِ القصفِ وصُعوبةِ عمليّاتِ الانْتشالِ، لم يستكملُوا استخراجَ الجثَثِ إلّا في الصَّباحِ.

الصورة
عملية انتشال جثث من تحت الأنقاض في دير البلح - وسط قطاع غزة - 6 أكتوبر 2024 (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)
من عملية انتشال جثث من تحت أنقاض دير البلح (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)

ثَديٌ مُتحجِّرٌ لرَضيعةٍ تَحْتَ التُّرابِ

أخْبرني أبِي أنَّ زَوْجي وابْنتَيَّ بخيْرٍ، وأنِّي سأراهُم بعدَ أنْ أتعافى، والمُهِمُّ الآنَ أنْ أُجري العمليَّةَ. بترُوا لي رجْلي، وخاطُوا نصْفَ الجُروحِ في جسدي المُثْخنِ تارِكينَ النِّصْفَ الآخرَ مفْتوحًا، وبدأَتْ رِحْلَتي مع الآلامِ والمُسَكِّناتِ. الأَلَمُ فظيعٌ، أظَلُّ أَصْرخُ وأبْكِي بسَبَبِهِ، وثَديَايَ تحجَّرا. امْتَلَأَ صدْرِي بالحَليبِ، ظلَّ يُفْرِزُهُ منْ أجلِ شام. تراكمَتْ فيَّ الآلامُ: ألمُ بَتْرِ رجْلِي، وألمُ الجُروحِ، وألَمُ صَدْرِي المُتحَجِّرِ، وألَمُ الشَّوْقِ لزَوْجي وابْنتَيَّ. لم لا يأْتُونَ إليَّ؟ لم لا أراهُم؟ لم لا أضعُ شامَ على صدْرِي وأُلْقمُها الثَّدْيينِ؟ أظلُّ أصْرُخُ وأغيبُ عنِ الوعْيِ ثمَّ أصْحُو أسْأَلُ عنْ زَوْجي. زوجُكِ في العنايَةِ المُرَكَّزةِ ووضْعُهُ الآنَ صعبٌ، قالَ أبِي. اصْبِرِي قليلًا وسيخِفُّ تحجُّرُ صدْرِكِ شيئًا فشيئًا، قالَتْ أمِّي. لم أُصدِّقْ، لم أقتنِعْ، لم يطْمَئِنْ قلْبِي، هاتُوا لي شام على الأقلِّ لترْضعَ! قالَتْ أمِّي إنَّ ابنَتِي بخَيْرٍ، ولكنْ لا يصحُّ الإتْيانُ برضيعةٍ لم تتجاوَزِ الأُسْبوعينِ إلى مشفى يعجُّ بالمكروباتِ، قدْ تلتقطُ عَدْوى خطرَةً. مَضى أسْبوعٌ، رأى أبي أنِّي تَماثلْتُ للشِّفاءِ قليلًا فصارَ بوُسْعهِ أنْ يقولَ لي بوُضوحٍ وبِكلِماتٍ معدودةٍ: زَوْجُكِ وبناتُكِ استشهِدُوا، الحَمدُ للهِ. ردَّدتُ وراءهُ: الحمدُ للهِ. زوجِي يعقوبُ مَحبوبٌ، كلُّ منْ رآهُ وعرَفهُ أحبَّهُ، ألطَفُ رجُلٍ في العالمِ، مات. مِيرا، النَّسمةُ الَّتي كانَتْ ساعتَها تمرَحُ في حضْنِ جدَّتِها، ماتَتْ. شام، الَّتِي لم يَطِقِ العالَمُ وُجودَها أَكْثرَ منْ أُسبوعَينِ وامتلَأَ صدْرِي بالحَليبِ في انْتظارِها، ماتتْ. الحمْدُ للهِ.

لم أكفَّ لحظةً واحدَةً عنْ التّفكيرِ فيهمْ مُذْ علمْتُ بموتِهِمْ. ما توقّفْتُ لحظةً واحدةً عنْ استعْراضِ احْتمالاتِ نَجاتهِمْ. كانَ الإِسْرائِيلِيّونَ يقصفُونَ الجرّافاتِ الَّتي تُشارِكُ في عملِيّاتِ الحَفْرِ والانتشالِ، يقصفُونَ سيّاراتِ الإسْعافِ الَّتي تُحاولُ إِنْقاذَ المُصابِينَ، يَقْصِفُونَ الطُّرقَ والمُستوْصفاتِ والمشافي. ظلّوا يفعلُونَ ذلكَ دونَ انقطاعٍ. لولا أفعالهُم هذهِ، ألمْ تكنْ توجدُ فرصَةٌ لِإِنْقاذِ أَرْواحٍ كثيرةٍ؟ أما كانَ منَ المُمْكنِ أنْ ينجو زوجي وابْنتايَ؟ أليسَ من الواردِ أنَّهُ كانَ بهمْ رَمَقٌ منْ حياةٍ تحتَ الرّكامِ وكانَ يُمكِنُ إنقاذُهم لو توفّرتْ أدواتُ الحفرِ؟ كانُوا حياتي كلَّها، بقِيتُ أفكِّرُ فيهمْ وأنا ممدودةٌ على السَّريرِ في المشْفى، أتذكَّرُ كلَّ لحظَةٍ عِشْناها معًا وأشْعرُ أنَّ روحي تنسلِخُ منْ جسمي. لم أكُنْ أتوقَّفُ عنِ البكاءِ، أَبكي منَ الفراقِ والألمِ، والمُسكّناتُ تُهدّئُ أوْجاعِي قليلًا فأنامُ بسببها لأَصْحوَ فزعةً على حقيقةِ اختفاءِ عائلَتِي. دفنُوا جميعَ منْ قضى في قصْفِ بِنايتِنا في حُفْرَةٍ واحدَةٍ، قَبْرٍ جماعِيٍّ. لم يتمكَّنُوا منْ إخْراجِ الجُثثِ كلِّها، بقِيَ بعضُ شُهداءِ العائلةِ تَحْتَ الأنْقاضِ. لم تَخرجْ كلُّ الجثَّث كاملَةً، كانَ بعضُها أَشْلاءً مُمزَّقَةً وقطعًا منَ اللَّحْمِ متفاوِتةَ الحُجومِ. حمدْتُ اللهَ كثيرًا أنَّ جثثَ زَوْجِي وابنتيَّ كانَتْ كاملةً، عزَّيْتُ نَفْسي كثيرًا بأَنّهم لم يبقوا تحتَ الأنْقاضِ، لم يتحوّلُوا إلى غُبارٍ، لم يخرجُوا مزقًا وفُتاتًا. خرجُوا كاملِين ودُفِنُوا في قَبْرٍ على الشَّاكِلةِ التي خلقهُم بها اللهُ في أحْسنِ تقوِيمٍ. إي والله! أُعَزّي نفسي بهذا على الرَّغمِ منَ الفاجعةِ، لكنْ ما العمل؟ تهُونُ عليْكَ مصيبتُكَ بعضَ الشَّيءِ حين تريْنَ مصَائبَ غيرك، وقدْ وقعَ لغيري منَ المصائبِ ما لا يصدّقُهُ العقْلُ. وتظَلُّ الحقِيقةُ أنَّ عائلَتي اختفَتْ. يا الله! بربِّكَ لا تنسِي اسْمَي ابْنتيَّ. مِيرَا العرْقان، عُمْرها سنةٌ وسبعةُ أشْهُرٍ، وشَام العَرقَان، عمرُها أسْبُوعانِ، وهما الآنَ عصفورَتانِ في الجنَّةِ. ولا تنسِي اسمَ زوجي، يعقوب العرقان. قُولي للجميعِ إنَّ الإِسْرائيليِّين قتلُوا يعقوب وطفْلَتَيْهِ. قُولِي أمامَ الجميعِ إنَّ الإسْرائيلِيِّين قتلُوا ألطفَ رجلٍ في العالمِ وأجملَ زَوْجٍ على وجهِ الأرضِ.

تُخفضُ رَأسها وتَشْردُ في عالمهَا تاركةً دُموعها تسيلُ بغزارةٍ. "قتلُوا ألْطفَ رجلٍ في العالمِ وأجمَلَ زوجٍ على وجهِ الأَرْضِ"، قالتْها بكُلِّ صِدْقٍ، وعِشْقٍ، وألمٍ. قالتها كأنَّها تُرِيدُ أنْ تُحِيطَ البشرِيَّةَ كُلَّها عِلْمًا بِحجمِ خسارتِها.

بقِيَتْ غائبةً في عالمهَا بضْعَ ثوانٍ، كأنَّ تلكَ الثَّوانيَ القَليلَةَ كانَتْ كافيةً لتستجْمعَ فيها شتاتَ أفكارِهَا وتقولَ شيئًا آخرَ:

في فتْرةِ وجودي في المشفى بقينا مُهدَّدينَ بالقذائفِ والكُوادْكبتَر. هذهِ الأَخيرةُ مروحيَّاتٌ مُسيَّرةٌ، صغيرةُ الحجْمِ، أُسميها القاتلةَ الطَّائرَةَ. كُنتُ أَشعرُ أنَّها تعيشُ بيننا. ليسَ صحيحًا أنَّها للتَّصوِيرِ والمراقبةِ فقط، كانُوا يقتلُوننَا بها. هي الَّتي قتلَتْ عمَّةَ زوجي وخالتهُ، هيَ الَّتي قتلتْ بعضَ أصدقائِنَا. كائناتٌ مُرْعبَةٌ، قتلةٌ آليُّون، وحوشٌ صُمّمَتْ للقتْلِ، يصطادُوننا بهَا كذا بكلِّ بساطةٍ. ماذا يريدونَ؟ أعرفُ ما لا أريدهُ: لَا أُريدُ التّشرّدَ، ولا أُريدُ العيشَ في خيمةٍ، لذلكَ بَقِينا. أكانَ مُمكنًا لوْ خرجْنا أنْ نعودَ؟ نعرفُ عائلاتٍ خرجتْ منذُ عشراتِ السِّنينَ بعدَ أنْ طردها الإِسْرائيلِيُّونَ، ولمْ تعدْ إِلى الآن. ولأَنَّنا تمسّكْنا بأرضنا قرّرُوا قتْلَنا. قصفُوا كلَّ شيْءٍ: البيوتَ، المدارسَ، المشافيَ، خزَّاناتِ المياهِ، خزَّاناتِ الوقودِ، كلَّ شيءٍ. قتلُوا كثيرِينَ، أغْلبهُمْ نساءٌ وأطفالٌ، ولا أُصدّقُ الأرقامَ الرَّسمِيّةَ، الأَرقام الحقِيقِيَّة ستُكشفُ مع الأيَّامِ وستكونُ أكبرَ بكثيرٍ. وما أقولهُ لك لمْ يروه لي أحدٌ ولمْ أسْمعْهُ في نشراتِ الأخبارِ، رأيْتهُ وعِشْتُهُ بنفْسِي. يقولُونَ إنّهُمْ يُريدُونَ القضاءَ على حماسَ، ثمَّ ترينهمْ يقصفُونَ سيَّاراتِ الإِسْعافِ والخيامَ ومراكزَ إِيْواءِ النَّازحينَ والمدارسَ والمستشفياتِ. وهمْ في ذلكَ يستخدمُونَ كلَّ ما أُتيحَ لهمْ منْ أسلحَةٍ: الطَّائراتُ تلقي حمولاتٍ تمسحُ مُربَّعاتٍ سكنيَّةً كاملةً في لحظاتٍ، الدبَّاباتُ تقْذِفُ قَذْفَ عشواءَ، الفُسْفُور، الصَّوارِيخ المُزوَّدةُ بسُمومٍ نجهلُ ما تكونُ لكنّنَا نُعانِي منْ آثارها ونرى أَعْراضها علينَا.

ما أُريدُ قَولهُ لك باخْتصارٍ:

وُلدْتُ وعِشْتُ في قِطاعٍ مُحاصرٍ، وعشْتُ طُفولتِي وشبابِي في حُروبٍ، أُمِّي منْ قبلِي أيضًا، وأجدادِي منذُ سبعينَ سنةً يعِيشُونَ الحروبَ، وهذهِ ليستْ حربًا. لا! ليستْ حربًا! يُريدونَ محْونَا منْ فَوْقِ وجهِ الأَرضِ. توجدُ عائلاتٌ بأكْملهَا مُسِحتْ منَ القيدِ المَدَنِيِّ. قتلُوا عائلتِي، قتلُونِي، خَلَّفُوني امرأَةً ميّتَةً لا تكفُّ عنْ سؤالِ نفسِهَا: أكانَ يجبُ أنْ أغادرَ بيتنا فيظلَّ زَوْجي وابْنتايَ أحياءَ؟

المساهمون