استمع إلى الملخص
- الظروف القاسية تتجلى في قصصهم الشخصية، حيث فقد البعض منازلهم ومصادر رزقهم، لكنهم يحاولون التكيف من خلال المشاركة في الأنشطة اليومية التي تنظمها الجمعيات.
- الدعم المجتمعي والتطوع يلعبان دورًا حيويًا في مساعدة النازحين، حيث تقدم المبادرات مثل حملة "إيد بإيد" المساعدات العينية والمادية، مما يخفف من معاناتهم.
يصعب بالنسبة للنازحين في مدينة طرابلس شمالي لبنان، التخفيف من مشاعر الاشتياق القوية لقراهم الجنوبية وتفاصيل حياتهم وأصدقائهم. فالتأقلم في أماكن النزوح لا يخفف عنهم وطأة النزوح
أُرغِمَت مئات العائلات الهاربة من قصف العدو الإسرائيلي مساحات واسعة من الأراضي اللبنانية على تركِ منازلها وقراها بحثاً عن الأمان بعدما حاصرتها النيران، هي التي عاشت 11 شهراً محاطة بالغارات قبل أن تدقّ أبوابها، مع تصاعد العدوان في 23 سبتمبر/ أيلول الماضي.
طرابلس، شمالي لبنان، كانت وِجهَة آلاف المواطنين الباحثين عن مكانٍ آمنٍ، وخصوصاً لأولادهم، باعتبارها من المناطق "غير المُستهدَفة"، أقلّه حتى اليوم، هم الذين اعتادوا القصف الإسرائيلي على حقباتٍ عدّة، لكنهم يتمسّكون بتأمين منازلٍ آمنة للأطفال الذين لم تفارقهم أصوات الصواريخ والمُسيّرات وجدارات الصوت منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. غادروا مرغمين مع ذكرياتهم وتركوا قلقهم وقلوبهم في قراهم التي دمر العدوان كلّ معالمها.
يقول مواطنٌ جنوبيّ من بلدة كفرا (قضاء بنت جبيل في محافظة النبطية جنوبي لبنان)، كما أراد التعريف عن نفسه، إنّه أرغم على ترك قريته من أجل الأطفال والأحفاد، هو الذي بقي صامداً منذ بدء الاشتباكات على الحدود مع فلسطين المحتلة في الثامن من أكتوبر، رغم الغارات والمجازر الإسرائيلية. لكنه اضطر إلى المغادرة بعد وقوع ست غارات على بعد أمتار قليلة من منزله، ما أدى إلى استشهاد 14 شخصاً فيها. اليوم يعيش مع 14 شخصاً في فندق "كواليتي إن" في طرابلس الذي فتح أبوابه للنازحين.
بحرقة وغصّة، يُعبّر عن اشتياقه لكفرا. يقول: "ولدت وتربّيت وعشت وأريد أن أموت في كفرا. هذه منطقتي المتجذرة في شراييني. لدينا أطفال نريد حمايتهم. أعرف كلّ حجر فيها، كلّ حبّة تراب، لا يمكن أن أنساها. هي اليوم مثل بقية المناطق في لبنان مُدمّرة". يضيف: "لولا عائلتي لما تركت كفرا. أشتاق إلى تراب القرية. اعتدت الصلاة عند الساعة الرابعة أو الخامسة فجراً والتوجه إلى الحديقة. هذه التفاصيل تعني لي كل الدنيا". يقول المواطن الجنوبي إنه ترك كلّ شيء من أجل أحفاده. يومَ غادر، أرسل إليه معارفه صوراً تظهر دمار منزله والمحلّ الذي يملكه ويعتاش منه. خسر كلّ شيء وفقد مصدر رزقه. رغم ذلك، لم يفقد الأمل بالعودة إلى كفرا عندما تنتهي الحرب. فالعدو الغاشم لا يفرّق بين مقاتل ومواطن مدني، وقد كثف في الفترة الأخيرة من تركيزه على استهداف المدنيين، كي يقلب الدنيا على المقاتلين، وهذا ما دفعه هو وعائلته إلى المغادرة ومحاولة الصمود، والاستفادة من المواد الغذائية وغيرها من مستلزمات العيش التي تقدمها الجمعيات.
"سلّمي على هوا الجنوب"، تقول الطفلة ماريا (7 أعوام) لـ "العربي الجديد"، معربة عن مدى حبّها لمنزلها وأصدقائها الذين اشتاقت إليهم. منذ نحو 20 يوماً، غادرت ماريا بلدتها جبال البطم في قضاء صور جنوبي لبنان، من دون أن تتمكّن من أخذ أغراضها وألعابها وكتبها المدرسية، أو أن تطمئن على أصدقائها. رحلت بحرقة، ولا تزال تتمنّى اليوم الذي تعود فيه إلى منزلها، وإلى حياةٍ سعيدة كانت تعيشها قبل الحرب.
تقول ماريا: "قبل الحرب، كنّا نلعب وأصدقائي مع بعضنا بعضاً. اشتقت لهم كثيراً. لم أرهم أو أتحدث إليهم منذ أكثر من 20 يوماً. كنّا نلعب في الحارة، ونشتري الأغراض معاً، ونلعب كرة القدم، وأقود دراجتي الهوائية، وأستعير السكوتر من شقيقتي. اشتقت إلى هذه الأيام، إلى بيتي وكل من أحب في الجنوب"، مضيفة: "قبل أن آتي إلى هنا كنت سعيدة جداً. أكثر ما أحب في الجنوب هم أصدقائي. أنا سعيدة في طرابلس وهذه المرة الأولى التي أزورها لكنني أريد العودة".
عن يومياتها، تقول ماريا: "صرت أستيقظ في الصباح الباكر. حتى قبل أن تستفيق أختي، أحاول اللعب بما تيسّر. فأغراضي كلها بقيت في المنزل بعدما غادرناه سريعاً. ألعب هنا في الباحة كرة قدم. هذه هوايتي المفضّلة، وكلّ ما أريده هو العودة". وبتأثر كبير تختم ماريا كلامها: "بحبّك يا جنوب".
من جهته، غادر حسين فضل الله (15 عاماً) منزله في بلدة جويا (قضاء صور في محافظة الجنوب) منذ نحو 13 يوماً، ويحاول التأقلم مع يوميات جديدة فرضتها عليه الحرب الموسّعة، والحفاظ على هوايته المفضّلة وهي كرة القدم، واللعب مع الأطفال الذين نزحوا بدورهم جراء القصف الإسرائيلي. يمضي حسين يومه باللعب وقراءة القصص ومتابعة النشاطات التي تنظمها الجمعيات في مركز الإيواء. لكن في المقابل، لا يخفي اشتياقه لقريته ورفاقه. يقول: "أنا سعيدٌ هنا، لكن أريد العودة عندما تنتهي الحرب".
أما رضا (11 عاماً)، والذي غادر جويا منذ نحو 20 يوماً قادماً إلى طرابلس مع عائلته، فيقول لـ "العربي الجديد": "بعض أصدقائي هنا في المركز، ولا أعرف إذا كان الآخرون لا يزالون على قيد الحياة. أتمنى العودة ورؤيتهم جميعاً بخير". يضيف: "صوت القصف لم يفارقنا. كنّا نسمعه يومياً في الجنوب. غادرنا عندما اشتدّ العدوان وباتت الغارات قريبة من منزلنا. أشتاق إلى منزلي وأصدقائي وعائلتي الممتدة. هناك كنا نلعب، حياتي كلها أمضيتها في جويا ولم أخرج يوماً منها، وأريد العودة إليها". يتابع: "أنا سعيد هنا، وبالنشاطات التي تُقام بهدف إسعادنا وتمضية الوقت. لكن رغم ذلك، أشتاق إلى بيتي. نحن اليوم بلا مدرسة، التعليم تراجع، وسنتأثر طبعاً. يقال إننا سنتعلم عن بُعد لكن لا كتب مدرسية لدينا ولا شيء. نأمل أن تنتهي الحرب ونعود إلى حياتنا".
من جهته، نزح علي حرب من جبشيت (قضاء النبطية)، واختار التطوع لمساعدة الأهالي قدر الإمكان، "فنحن لسنا نازحين بل ضيوف، وأهالي طرابلس يعاملوننا على هذا الأساس"، يقول لـ "العربي الجديد". يضيف: "غادرنا بيوتنا مرغمين نتيجة القصف الهمجي الإسرائيلي، تركنا منازلنا وقرانا وأهلنا، لكن المعاملة هنا جيدة جداً، لا شيء اختلف سوى النوم على سريري طبعاً". يوضح: "نحن نعيش الحرب منذ نحو 10 أشهر، لكن قريتنا من القرى الخلفية. كنّا نسمع أصوات القصف من القرى الحدودية، بينما كانت تقتصر الغارات في النبطية على أهداف معينة، لكن مع توسع العدوان، شنّ العدو خلال 40 دقيقة نحو 60 غارة على القرية. كنا على الشرفة ورأيناها، لم نتمكن يومها من المغادرة نتيجة خطورة الطرقات، لكن مع حلول الصباح خرجنا وتوجّهنا إلى طرابلس، ونحمد الله أننا وجدنا مكاناً نشعر فيه بالأمان وكأننا بين أهلنا".
ويشير المتحدث إلى أنه متطوع في فندق "كواليتي إن" الذي يستقبل نحو 700 شخص، يحاول مع الأشخاص المتطوعين تأمين جميع الاحتياجات، بفضل الخيّرين وأصحاب الأيادي البيضاء، خصوصاً أن العديد من العائلات غادرت بسرعة من دون أن تأخذ أوراقها الثبوتية وأغراضها وحتى ملابسها وأموالها، لافتاً إلى أننا "نظمنا حملة إيد بإيد تضم أشخاصاً من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، بالإضافة إلى شبان من طرابلس وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، وحصلنا على مساعدات عينية ومادية وتمكنا من تأمين نحو 100 حصة تموينية للعائلات، ونسعى لتأمين مساعدات إضافية خصوصاً مع حلول فصل الشتاء".
معاناة هؤلاء لا تختلف عن صعوبات كثيرة مرّت بها مواطنة جنوبية من بلدة العديسة (إحدى القرى الحدودية في قضاء مرجعيون) فضلت عدم ذكر اسمها. تقول إنها مرّت بظروفٍ قاسية مع زوجها، كونهما اضطرا خلال هذا العام إلى النزوح أكثر من مرة وتغيير نحو خمسة منازل. كان النزوح الأول مع اشتداد القصف على العديسة إلى كفر رمان (النبطية)، ثم تنقّلا إلى أكثر من مكان فيها جراء الاغتيالات والقصف الذي طاول المنطقة، ثم اضطرا إلى التوجه نحو بيروت. لكن مع توسع العدوان وتنفيذ غارات دموية يومية على العاصمة ومحيطها والضاحية الجنوبية، وتكثيف الاحتلال من بيانات الإخلاء والإنذارات بالقصف، اضطرا كذلك للمغادرة فكانت وجهتهما طرابلس، حيث يتلقيان أحسن معاملة، على حدّ وصفها.
تقول: "كانت سنة صعبة جداً، اضطررنا إلى تغيير أكثر من مكانٍ هرباً من القصف، والوضع لم يكن جيداً أبداً. لكن الحمد لله لا نزال على قيد الحياة، وعلى أمل أن نبقى صامدين، وأن ننتصر ونعود إلى منازلنا بخيرٍ وسلامٍ".