يرزح نحو 500 ألف فرد من أهالي وسكان بيروت الإدارية، من أطفال ومسنّين وكبار، تحت وطأة المضاعفات الصحية الخطيرة للمولّدات الكهربائيّة الخاصّة التي تنتشر بكثافة في مساحة لا تتخطّى 20 كيلومتراً مربعاً. والحال أكثر سوءاً في بيروت الكبرى التي تُقدر مساحتها بـ 70 كيلومتراً مربعاً، ويقيم فيها مليونان وأربعمائة ألف فرد، وفق أرقام وفرتها شركة "الدولية للمعلومات" للدراسات والبحوث.
وكان آخر إحصاء أجرته الجامعة الأميركية في بيروت عام 2017، كشف عن وجود نحو 9 آلاف مولّد كهربائي في بيروت الإداريّة وحدها، أي مولّد واحد لكلّ بيتين. ومن البديهي أن هذا العدد ارتفع بعد أزمة الانقطاع الحاد في التيار الكهربائي، بالتزامن مع الأزمة المعيشية الخانقة القائمة منذ عام 2019.
وكان فرع منظمة "غرينبيس" في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نشر في 24 يونيو/ حزيران 2020، تقريراً عالمياً بعنوان "الهواء السامّ: الثمن الحقيقي للوقود الأحفوري"، وأورد أنّ "لبنان بين البلدان الأعلى في معدّل الوفيّات، والتكلفة الاقتصادية الناتجة من تلوّث الهواء، حيث يقدّر متوسط عدد الوفيات المبكرة نتيجة تلوّث الهواء بسبب الوقود الأحفوري 2700 حالة عام 2018، أي بمعدّل 4 وفيات لكلّ 10.000 شخص، ويُعتبر معدل لبنان بالتالي بين الأعلى في المنطقة، إلى جانب مصر".
وقال مدير برنامج الحملات في "غرينبيس"، جوليان جريصاتي، حينها، أنّ "الأرقام المخيفة تكشف أزمة صحية خفيّة ومجهولة، وتطلق صافرة الإنذار بشأن مستويات تلوّث الهواء في لبنان التي وصلت إلى نسب عالية تجعل صحة وحياة كلّ مواطن في خطر".
وحذّر من أنّ "تلوّث الهواء يعرّض مجتمعاتنا إلى أمراض صحيّة مزمنة، مثل مشاكل مرض القلب والسكري، والانسداد الرئوي المزمن، وسرطان الرئة، ويجعلنا أكثر عرضة للإصابة بالفيروسات التي تؤثر على الجهاز التنفسي، مثل كورونا".
ولا تتوقف انعكاسات المولّدات على المضاعفات الصحية فحسب، بل تسبّب دخان مولّد كهربائيّ خاص قبل أيامٍ باختناق فتى لم يتجاوز الـ 15 عاماً شماليّ لبنان. وقد شكّلت وفاته فاجعة للعائلة والمنطقة.
تلوّث بأمّ العين
وتوضح النائبة والأستاذة الجامعية المتخصّصة في دراسة نوعية الهواء، نجاة صليبا، في حديثها لـ"العربي الجديد" أنّ "آخر إحصاء أجريناه عام 2017، كشف استخدام 9 آلاف مولّد كهربائي في بيروت الإدارية فقط، ما يعني نشر مولّد واحد بين كلّ بيتين، رغم التداعيات الصحية الخطيرة للمولّدات وتأثيرها على الرئتين. وقد يتسبّب ذلك على المدى الطويل في أمراض سرطانيّة، ما يعني أننا نتّجه من السيئ إلى الأسوأ، علماً أننا نرى بأمّ العين التلوّث والغبار الأسود المحمّل بمواد سامّة على شرفاتنا وفي الهواء".
وإذ تشير صليبا إلى عدم توفر إحصاءات خاصة في بيروت الكبرى، تكشف أنّها تعد دراسة جديدة حول نسبة التلوّث، علماً أنه مع ارتفاع سعر مادة المازوت، اتّجه أصحاب المولّدات الخاصّة إلى التقنين من 20 ساعة تغذية بالتيار الكهربائي إلى 12 ساعة، وهو ما تصفه بأنه "عدد لا يُستهان به أيضاً".
مولدات مزروعة
وتلفت إلى أنّ "نسبة التلوّث تراجعت نوعاً ما، بالتزامن مع اعتماد هذا التقنين، بعد رفع الدعم عن المازوت، لكن مقارنة الوضع الحالي بإحصاء سابق أجري عام 2010، يظهر أن عدد المولّدات لم يتغيّر، بل عدد ساعات التغذية، إذ بات البعض يدفع بالفريش دولار للحصول على ساعات تغذية أكثر، تقارب 20 ساعة يومياً، ما يعني عودة نسبة التلوّث ذاتها كما في السابق".
وتنبّه صليبا إلى أنّ "مولّدات الكهرباء سامّة أكثر من السيارات، كونها لا تعمل بكفاءة عالية. لذا توضع في العادة في أماكن بعيدة عن المدينة، بينما نجدها مزروعة إلى جانب كلّ بيت في بيروت".
الأكثر تضرّراً
بدوره، يخبر الطبيب المتخصص في الأمراض الصدرية، ياسر طعّوم، "العربي الجديد" أنّ "المضاعفات الصحية للمولّدات سيّئة جداً، إذ تتسبّب الانبعاثات الناجمة عن حرق الزيت والمازوت في أمراضٍ صدرية، مثل التهاب القصبات (الشعب) الهوائية (داء الانسداد الرئوي المزمن). ودخان المولّدات والسيارات يُعدّ بين أكثر مسبّبات ومحفّزات أمراض السرطان التي ستظهر على المديين المتوسط والبعيد، وتتزايد أصلاً في شكل ملحوظ".
يضيف: "سيكون وقع الانبعاثات والدخان أسوأ على الأطفال ومرضى الربو، وأولئك الذين يعانون من الحساسية ومشاكل الجهاز التنفّسي، ما يضاعف نوبات الربو، لا سيّما عند الأطفال الذين ستتفاقم معاناتهم".
لمن الشكوى؟
وإذ يوضح أنّ "ظاهرة انتشار المولّدات الكهربائية بكثافة لا تقتصر على بيروت، بل تشمل كلّ لبنان، يقول طعّوم: "حتّى في القرى، نجد بين منزل وآخر مولّداً كهربائيّاً، علماً أن بلدنا يعاني أيضاً من أزمة نفايات وتلوّث المياه والطبيعة، وحالات التسمّم الغذائي جرّاء انقطاع التيار الكهربائي باستمرار".
ويسأل: "مَن يمكن أن نطلب تدخله في وقت تنازلت الدولة عن أدنى واجباتها تجاه المواطن؟ الحلّ الوحيد يتمثل في تحمّل الدولة مسؤوليّاتها في توفير التيار الكهربائي، عبر إنشاء معامل حديثة والاستغناء عن المولّدات، خصوصاً أنّنا نحتاج إلى سنوات للتخلّص من معدّلات التلوّث المرتفعة، سواء في الهواء أو البيئة عموماً".
مسح "الشحبار"
ويبدي المواطن البيروتي محمد قاروط سخطه عمّا وصلت إليه الأمور، ويقول لـ"العربي الجديد": "تعمل بعض المولّدات 24 ساعة، وتزوّد أخرى السكان بالتيار الكهربائي لساعات محدّدة، لكن التلوّث لا يُحتمل، ففي كلّ حي من أحياء العاصمة تقريباً يوجد مولّد كهربائي، ونرى الشحبار (الدخان الأسود) في كلّ بيوتنا وشوارعنا، وكيفما مسحنا وجوهنا أو شرفاتنا أو أي شيء".
يضيف: "يعيش المواطنون أيضاً وسط التلوّث، ورائحة الطرقات الكريهة والمليئة بالغبار الملتصق على الإسفلت والأرصفة، في ظلّ انعدام تنظيف الشوارع وكنسها. نسمع بشكل متكرّر أخبار اشتعال مولد مع خزّاناته، ما يعني أنّنا نعيش وسط قنابل موقوتة في قلب بيروت، والبلدية لا تتحرّك ولا تتّخذ أي إجراء لمراقبة السلامة العامة والوقاية من مخاطر المولّدات"، مؤكّداً أنّ "الأهالي لا يمكنهم البقاء من دون كهرباء، كما لا يمكن الاستمرار في الفوضى الراهنة، لذا من الضروري وضع فلاتر ومراعاة كيفية تخزين المازوت في شكل آمن، خصوصاً أنّ المولّدات الموجودة غير مجهزة للعمل 24 ساعة".
ويتحدّث قاروط عن معاناة أهل العاصمة، "فالبعض اختار الاكتفاء باشتراك بسيط لتشغيل البراد فحسب، حرصاً على عدم تلف المأكولات والتسمّم، وبات آخرون يستخدمون مراوح كهربائيّة تعمل بتقنيّة التشريج، واعتاد أشخاص النوم بلا مكيّفات أو أي وسيلة للتهوية، رغم الحرارة المرتفعة صيفاً، كونهم عاجزين عن السهر طوال الليل، ما ينعكس سلباً على صحتهم. والحال ذاتها هذه الأيام، مع صعوبة تشغيل المدافئ الكهربائيّة.
فلتان
ويشكو الأمين العام لحركة "أبناء بيروت"، يحيى نعوس، من "غياب أي دورٍ رقابي لبلدية العاصمة، وانتشار الفلتان". ويشير في حديثه لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "أصحاب المولّدات في العاصمة لا يعتمدون طرقاً احترافية لتخفيف مضارّ الدخان الأسود والمواد الناجمة عن احتراق المازوت، ما ينعكس سلباً على صحة الأهالي، ويؤدّي إلى أمراضٍ سرطانية في الرئتين، ناهيك عن الضجيج والاهتزاز المستمر، بحال كان المولّد الكهربائي ملاصقاً لجدار المبنى، ولجوء بعضهم إلى فصل التيار الكهربائي مراراً وتكراراً، ما يؤدّي إلى تلف الأجهزة والأدوات الكهربائية".
حق مهدور
من جهة أخرى، يكشف المختار السابق، جان صليبا، لـ"العربي الجديد"، أنّ "منطقة المدوّر - حي الكرنتينا (الضاحية الشمالية لبيروت) تعتمد على مولّدين فقط، وبالتالي فإنّ نسبة التلوّث ليست كبيرة فيها، وكذلك التداعيات على الصحة والبيئة. لكن المشكلة تكمن في الانقطاعٍ الطويل للتيار الكهربائي من جهة، وتكرر عمليتي التشغيل والتوقف، ما يتسبّب في تعطّل اللّمبات والأدوات والأجهزة الكهربائيّة، رغم أنّنا ندفع مبالغ إضافيّة للمولّدات".
ويناشد الدولة تأمين الكهرباء وتحديد تسعيرة جديدة، "كي نتخلّص من إشكاليّة المولّدات، علماً أنّ مناطقنا تلتزم بدفع الفاتورة، ومن حقّنا أن ننعم بالكهرباء".
خلف الأرباح
أما رضوان، أحد سكان الضاحية الجنوبية لبيروت، فيقول لـ"العربي الجديد": "حياتنا مرتبطة بالكهرباء، فمن دونها لا مياه ولا إضاءة ولا تهوية ولا تدفئة، والكلّ يعاني من آثارها الاجتماعية والاقتصادية، ومن تداعيات المولّدات الخاصّة، إن على مستوى التلوّث السمعي لكثرة انتشارها بين الأحياء، أو على مستوى المضاعفات الصحية المباشرة. ومعروف أنّ أصحاب المولدات لا يستخدمون المازوت الأخضر، بل الصناعي الذي يلوّث الهواء بمواد الهيدروكربونات العطرية ومواد مسرطنة أخرى، ما ينعكس على الجهاز التنفّسي ويؤدّي إلى إصابة البعض بضيق في التنفّس. ويضاف إلى ذلك تفاقم معاناة مرضى الربو الذين يعانون أصلاً مشاكل صحية في الجهاز التنفّسي، والذين باتوا يحتاجون إلى مضاعفة كمية الدواء. يضيف: "هناك مَن خضع مثلي لعملية قلب مفتوح، ويحتاج إلى هواء نظيف. التلوّث حدّث ولا حرج، ويرتبط أيضاً بوجود سيارات ومركبات تعمل على المازوت، وتساهم في رفع معدّلات التلوّث".
ويأسف رضوان لواقع أنّ "زيادة عدد ساعات التغذية التي توفّرها المولّدات الخاصّة والتي باتت تقارب 22 ساعة، جعلت لا مفرّ من ارتفاع عدد المصابين بأمراض السرطان والقلب والأوعية الدموية والجلطات والاضطرابات العصبية جرّاء الضجيج، وانعكاس ذلك حتى على الأطفال. فالكلّ معرض للإصابة، والمطلوب رقابة جديّة من الدولة، وإجراء وزارة الصحة دراسات حول التأثير الصحي لانبعاثات المولّدات، لا سيّما أنّها تنعكس سلباً على الفاتورة الصحية والتكلفة المالية للمواطنين. فأصحاب المولّدات يسعون خلف الأرباح، ولا يكترثون بصحّتنا".