مهجّرون من السودان يواجهون مستقبلاً غامضاً في مصر ولا يعرفون متى العودة

15 مايو 2023
بعض السودانيين الذين وصلوا أخيراً إلى مصر هاربين من القتال (سامي مجدي/ أسوشييتد برس)
+ الخط -

كان المقهى أمام محطة أسوان، جنوبي مصر، يعجّ بالعائلات السودانية، وأمتعتها فيما هي تنتظر استقلال القطار إلى القاهرة؛ المحطة التالية في رحلتها الشاقة، هرباً من العنف الذي يمزّق بلادها، والذي قلَب حياتها رأساً على عقب.

وقد تحوّلت أسوان، المدينة المصرية الأقرب إلى الحدود مع السودان، إلى محطة على الطريق بالنسبة إلى عشرات آلاف السودانيين الفارين من القتال الدائر ما بين الجيش السوداني و"قوات الدعم السريع" منذ شهر كامل.

ويصل السودانيون منهكين، بعد أيام قضوها على الطرقات. الآن، لا بدّ من معرفة كيفية التنقّل، في حين أنّ المستقبل مجهول أمامهم، من دون أيّ فكرة بشأن قدرتهم على العودة إلى ديارهم.

في مقهى ناصر بأسوان، تبدو الأستاذة الجامعية السودانية نجلاء الخير أحمد أنّها ما زالت في حالة صدمة منذ انفجار العنف المفاجئ بالبلاد في 15 إبريل/ نيسان الماضي، وذلك بعد تصاعد التوتّر بين اثنَين من كبار الجنرالات في السودان. وتقول: "لم نتخيّل قطّ أنّ المناوشات الكلامية سوف تنتهي باندلاع الحرب... لم نكن نتوقّع أنّ قرار (خوض) الحرب سهل لهذه الدرجة".

وتتوجّه الأستاذة الجامعية إلى العاصمة المصرية القاهرة مع والدها المسنّ وابنتها، في حين أنّ زوجها فضّل البقاء في مدينة أمّ درمان المجاورة للعاصمة الخرطوم. وتمسح دموعها وهي تخبر "كنت أبكي طوال الطريق... وظللت أقول لنفسي: سوف أعود. بالتأكيد، سوف أعود قريباً".

الصورة
هاربون من السودان  يعبرون إلى مصر 1 (سامي مجدي/ أسوشييتد برس)
في العبّارة ما بين السودان المأزوم ومصر بلد اللجوء (سامي مجدي/ أسوشييتد برس)

وبحسب ما تفيد البيانات المصرية الرسمية، فقد عبر أكثر من 76 ألف مواطن سوداني وأكثر من خمسة آلاف شخص من جنسيات أخرى إلى مصر منذ بدء القتال.

من جهتها، تتوقّع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن يصل عدد العابرين من السودان إلى 350 ألفاً. وعلى الرغم من تباطؤ تدفّق هؤلاء في الأسبوع الماضي، فإنّ العابرين ما زالوا يتوافدون مع استمرار القتال.

وبينما يعقد الجيش السوداني و"قوات الدعم السريع" مفاوضات في مدينة جدّة السعودية، فإنّ الذين فرّوا من البلاد المأزومة لا يعرفون متى تصير عودتهم آمنة، علماً أنّهم كانوا قد قضوا أياماً محاصرين في منازلهم وسط إطلاق نار مستمرّ وانفجارات وهدير طائرات حربية.

وفي حين أنّ كثيرين من الوافدين إلى مصر يملكون، على الأقل في الوقت الحالي، أموالاً تتيح لهم السكن على الأراضي المصرية أو السفر بعد ذلك إلى أوروبا أو دول الخليج، إلا أنّ هذا الصراع يُعَدّ أشدّ صعوبة بالنسبة إلى آلاف السودانيين الأكثر فقراً الذين يعبرون الحدود.

وفي محطة قطار أسوان ومحطة الحافلات في قرية كركر المجاورة، يرحّب متطوّعون مصريون وسودانيون باللاجئين بوجبات ساخنة ومياه.

محمد يحيى مواطن سوداني يعمل في أسوان منذ عام 2020، سلّم شقته لقريبة له لتسكن فيها مع بناتها الثلاث، فيما انتقل هو مع زوجته وابنه الصغير إلى منزل صغير يستأجره في الوقت الحالي في كركر. يقول الرجل البالغ من العمر 29 عاماً عن ضيفاته: "هنّ فقيرات، والزوج لم يرافقهنّ... كلّنا -سودانيين ومصريين- نتقاسم الخبز مع أيّ شخص يصل إلى هنا".

من جهته، جاسم أمين المخرج السينمائي السوداني الذي يعيش في مصر منذ عام 2016، حضر إلى أسوان قبل ثلاثة أسابيع، وانضمّ إلى متطوّعين آخرين يساعدون السودانيين الوافدين حديثاً في توفير السكن لهم أو حجز تذاكر لهم إلى وجهات أخرى أو مدّهم بالرعاية الطبية.

ويشير أمين إلى أنّ "سوقاً سوداء" قامت لبيع تذاكر الحافلات والقطارات وتأجير الغرف المفروشة للسودانيين بأسعار باهظة. لكنّ المجموعة التي يعمل أمين في إطارها، تعمد في كلّ صباح إلى شراء مئات التذاكر وتوزّعها على السودانيين الذين يحاولون الوصول إلى القاهرة أو الإسكندرية. وفي حين يتقاضون ثمن التذاكر من الأشخاص القادرين على تحمّلها، يوفّرونها مجاناً للفقراء. كذلك تساعد المجموعة الوافدين في العثور على غرف إيجارها في المتناول.

الصورة
هاربون من السودان  يعبرون إلى مصر 2 (سامي مجدي/ أسوشييتد برس)
متطوّعون سودانيون في مصر يمدّون الواصلين بالطعام والمياه (سامي مجدي/ أسوشييتد برس)

وتخبر الأستاذة الجامعية نجلاء أنّه "عندما اندلع القتال بداية، ظننت أنّه سوف يكون قصيراً، لكنّه سرعان ما اجتاح الخرطوم وأمّ درمان". وتتحدّث عن "قتل جماعي ودمار ونهب هائلَين في كلّ شيء"، مشيرة إلى أنّ "طائرات الجيش قصفت بصورة متكرّرة معسكراً لقوات الدعم السريع بالقرب من منزلي، فاهتزّت المنطقة بأكملها".

ووسط هذا الوضع المأساوي، تشير نجلاء إلى أنّها وعائلتها "اختبأنا لساعات تحت أسرّتنا مع احتدام المعارك في الخارج"، وقاومت مطالب إخوتها بالمغادرة لمدّة أسبوعَين. لكنّه مع فرار الآلاف وإخلاء أحياء بأكملها، قرّرت بدورها الرحيل، إذ "لا أعتقد أنّ ثمّة مكاناً آمناً في البلاد".

وبعد حسم أمرها، حصلت نجلاء على ثلاث تذاكر نقل بالحافلة لها ولابنتها البالغة من العمر 15 عاماً ولوالدها، بواسطة أحد الجيران الذي يملك شركة سفريات. وغادر الثلاثة في الصباح الباكر، عبر أزقة خلفية، لتجنّب تبادل إطلاق النار، حتى وصلوا إلى محطة الحافلات، فصعدوا إلى حافلتهم المكتظّة بالعائلات الفارة كذلك من تدهور الوضع الأمني في البلاد. وقد استمرّت رحلتهم أكثر من 15 ساعة قبل بلوغهم مدينة أسوان المصرية، علماً أنّ الحافلة توقّفت في الطريق مرّات عدّة، قدّم في خلالها قرويون طعاماً وشراباً للركاب.

وتتذكّر نجلاء "ثلاثة شبان صعدوا إلى الحافلة وراحوا يوزّعون علينا الخبز وقوارير المياه والمشروبات، وعرضوا استضافة الذين لا يستطيعون تحمّل تكاليف السفر إلى مصر". وتؤكد: "قابلنا أشخاصاً كريمين كثيرين، علماً أنّ هيئتهم تدلّ على أنّهم فقراء".

وتتابع نجلاء أنّ "المرور كان سلساً من خلال معبر أرقين الحدودي، وهو الأمر الذي فاجأني". يُذكر أنّه في ذلك الوقت، كانت الحكومة المصرية قد رفعت عدد الموظفين عند المعبر، الأمر الذي أدّى إلى تسريع مرور صفوف طويلة من الحافلات والسيارات.

لجوء واغتراب
التحديثات الحية

في المقابل، ما زال الطريق الرئيسي الآخر أكثر فوضوية، ذلك الذي يمرّ عبر مدينة وادي حلفا السودانية التي تبعد نحو نصف ساعة بالسيارة من الحدود مع مصر. وتكتظ المدينة بعشرات آلاف من الفارين الذين تعجّ بهم فنادق معدودة، الأمر الذي دفع كثيرين إلى قضاء ليالٍ في مساجد ومدارس ومساحات مفتوحة.

وينتظر الرجال في صفوف طويلة أمام القنصلية المصرية للحصول على التأشيرات المطلوبة للعبور، علماً أنّ النساء السودانيات يستطعنَ دخول مصر من دون تأشيرة، فيما الرجال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 16 و49 عاماً يحتاجون إليها.

من هناك، عبرت نجلاء وابنتها ووالدها إلى مصر، ثمّ استقلوا عبّارة في بحيرة ناصر إلى مدينة أبو سمبل. وتمتدّ هذه الرحلة لمسافة 300 كيلومتر قبل بلوغ مدينة أسوان، أو قرية كركر.

الصورة
هاربون من السودان في أسوان في مصر 2 (سامي مجدي/ أسوشييتد برس)
استراحة في المنطقة الحدودية من مصر قبل الانتقال إلى وجهات أخرى (سامي مجدي/ أسوشييتد برس)

ريم عادل، الحامل في شهرها الخامس، من بين السودانيين الذين عبروا إلى مصر. وتخبر أنّها ظلّت عالقة لأيام عدّة في منزل شقيقة زوجها بحيّ الصافية في الخرطوم الذي شهد واحدة من أعنف المعارك. تضيف أنّ ثمّة جيراناً لها أُصيبوا بالرصاص، في حين احتلّ عناصر "قوات الدعم السريع" شارعهم، واقتحموا شققاً ونهبوها وطردوا سكانها. كذلك أقاموا نقطة تفتيش، واستولوا على مقتنيات ثمينة كان يحملها المارة.

تقول ريم، وهي مسؤولة في منظمة غير حكومية: "أوشكنا على الموت داخل منزلنا مثل كثيرين آخرين". وبعد ذلك "هربت مع زوجي وعائلة شقيقته". استغرق الأمر أياماً عدّة قبل الوصول إلى وادي حلفا، حيث تعيّن على الرجال الانتظار للحصول على تأشيرات الدخول إلى مصر.

وتتابع ريم أنّ الجميع سار في منطقة وعرة لمسافة ثلاثة كيلومترات على الأقدام، قبل بلوغ معبر "قسطل" البرّي لتجاوز أرتال من الشاحنات التي تنتظر المرور، بعضها كان قد وصل قبل أسبوع.

وتؤكد ريم أنّ "الوضع كان محفوفاً بالمخاطر بالنسبة إلى امرأة حامل، لكنّه لم يكن لدينا أيّ خيار آخر". ووصلت ريم ومرافقوها إلى القاهرة، حيث استأجروا شقة. وهم يخطّطون للبقاء في مصر حتى موعد الولادة على أقلّ تقدير. في غضون ذلك، تبحث ريم وزوجها عن أيّ فرصة عمل متاحة. وتقول: "لا أحد يعرف متى نستطيع العودة. وحتى لو توصّلوا إلى هدنة في محادثات جدّة، قد ينشب القتال في أيّ وقت... لا يمكن الوثوق" بأيّ من الطرفَين المتقاتلَين.

(أسوشييتد برس)

المساهمون