مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، ستضيئه هذه السلسلة التي ينشرها موقع "العربي الجديد" بمناسبة كأس العالم قطر 2022.
بالنظر إلى عدد الألقاب التي أحرَزَها (أبرزُها خمس بطولات عالم تجعله الأكثر تتويجاً بها إلى اليوم) وما يخلقه من فخر وطني ومن مُتعةٍ وفُرجةٍ، يكونُ منتخب البرازيل أكثر من أسعد شعبه في تاريخ الكرة، لكنّه أيضاً أكثر من عرّض هذا الشعب للنكسات والخيبات. فما لم يعد "السيليساو" متوّجاً بكأس العالم فإن الأمر يتعلّق بكارثة وطنية في البرازيل. لا توجد، هناك، منطقة وسطى بين الفرح والحزن، بين الجنة والنار، وبالتالي لا يبقى في قلوب البرازيليين إلا من يمنحهم مجد الجلوس في قمة العالم. كل ما عدا ذلك يلفظه تاريخهم بلا رحمة.
ومن عبث تاريخ كرة القدم بالبرازيل أن أقسى خيبات منتخبهم في كأس العالم شاهدوها رؤيا العين على أرضهم، بل في ملعب ماراكانا بالذات، ذلك الصرح الذي أنشأوه ليكون أشبه بمعبد لكرة القدم، وهو مشروع فرعوني لا يشبهه غير الشروع في بناء عاصمة جديدة في الأدغال (في نفس الفترة بدأ بناء برازيليا). في ماراكانا الممتلئ بمائتي ألف مناصر، خسرت البرازيل كأس العالم 1950 أمام الأوروغواي، وشاءت الأقدار أن يكون نفس الملعب مسرح الهزيمة المذّلة 7-1 أمام ألمانيا في نصف نهائي مونديال 2014. إن حكاية منتخب البرازيل - وإن وقعت تحت صخب السامبا ورقصاتها - تراجيديا بامتياز.
لا شيء يخضع للمنطق في البرازيل. لا شيء يخضع للضبط، لا الجغرافيا المترامية، ولا التطوّر الاجتماعي، ولا التاريخ السياسي. ولن تكون كرة القدم استثناء، بل لعلّ سر الكرة البرازيلية هو عدم الخضوع للمنطق وللتوقع، وذلك ما أسَرَ قلوباً كثيرة حول العالم وجعلها تشجّع البرازيل تماماً كمنتخبات بلدانها وربما أكثر.
وإذا كان التهديف هو غاية كرة القدم ومفتاحَ انتصاراتها، فإن معظم المدارس الكروية قد توسّلت بعناصر مثل الانضباط التكتيكي واللعب المباشر لتبلغ هذه الغاية، إلا أن البرازيليين فسحوا المجال لألوان أخرى من الأهداف، حيث يتاح للموهبة أن تبرز وللإبداع أن يلمع. ففيما أن افتكاك الكرة وترويضها وحسن تمريرها أو تسديدها هي الأبجدية الأساسية لكرة القدم كما يعرفها العالم، فإن البرازيليين أضافوا عنصراً آخر، يبدو أنهم استعاروه من الرقص، وهو المراوغة، بل جعلوا منها في أحيان كثيرة أعلى مرتبة، محوّلين كرة القدم من رياضة إلى فن، وبها حوّلوا تلك البضاعة التي وصلت بلادهم مع تيارات العصر الكولونيالي إلى صناعة محليّة، فأعيد اختراعها، وباتت تشبه البرازيليين في تنوّعهم وفي خروجهم عن المألوف.
روح البرازيل وفلسفتها حاضرة في المراوغة، إنها حركة يوحي بها اللاعب أنه سيتّخذ اتجاهاً ومن ثم يغيّر مساره متخلّصاً من منافسيه ليتقدّم في الملعب. ينطوي تاريخ الكرة البرازيلية على أمهر المُراوغين، من غراينشا إلى فينيسيوس، مروراً ببيليه وزيكو وروماريو وبيبيتو ورونالدو وروبينهو ورونالدينهو ونيمار. المراوغة هي التي صنعت أسطورة هؤلاء، كما لم يفعل عدد الأهداف أو ما حصدوه من الألقاب الفردية والجماعية.
المراوغة هي في كلمة هوية البرازيل الكروية (ولعلّها هويتها بشكل مطلق). هي التي جعلت من البلاد قوة عظمى في أحد المجالات، وإن كان مجرّد لعبة، فلا ينكر عليها ذلك الامتياز مُنكِرٌ. وإذا كانت هيمنة البرازيل على كأس العالم من 1958 إلى 1970 قد أعيد إلى علوّ كعب مواهبها على حساب واقعية الأمم الأخرى (خصوصاً إيطاليا التي هيمنت على الكرة في الثلاثينيات بفضل رؤيتها الدفاعية)، فمن العجيب أن أتى حينٌ من الدهر اعتُبر فيه نفس هذا المنحى الإبداعي في لعب الكرة سببَ هزائم البرازيل في كأس العالم.
لقد صادف أن جاء نهائي مونديال 1970 بين البرازيل وإيطاليا. كانت مواجهة بين تصوّرين في كرة القدم، كأنها صدامٌ بين الفن والفكر، أفضت إلى انتصار برازيلي بقيادة بيليه، لكنه لم يكن سوى انتصار في جولة. ففي عقد السبعينيات، وجدت البرازيل نفسها خلف قوى كروية صاعدة مثل هولندا وألمانيا والأرجنتين. كانت مثل قوة عظمى أفاقت على نظام دوليّ جديد تكرّس دون علمها. لقد حدثت فجأة هوّة عميقة بين الفن والنجاعة.
في مواجهة أخرى مع إيطاليا في كأس العالم 1982، بدا أن مياه كثيرة قد جرت تحت جسر كرة القدم، فقد جاءت البرازيل حينها بكوكبة من المبدعين مثل سقراط، زيكو، فالكاو، إيدير، بقيادة المدرب تيلي سنتانا. بدا هذا الجيل أكثر براعة من الجيل الذي حقّق الكؤوس الثلاثة سابقاً، فأبهر رفاق زيكو العالم بكل فنون الكرة، لكنهم اصطدموا ذات أمسية في برشلونة بفريق إيطالي لا يبحث على شيء من كرة القدم غير تسجيل الأهداف والانتصار. عاشت البرازيل - ليلتها - نكسة مؤلمة، وبات البحث عن الإبداع وصناعة الفرجة في قفص الاتهام بوصفه إعاقة تقود إلى عدم بلوغ الأهداف، ومن ثمّ دخلت البرازيل مرحلة من المراجعات العميقة.
من المفارقات أن البرازيليين حين سيحاولون مغادرة فلسفتهم، سيصطدمون بخيبة أخرى. ففي كأس العالم 1990، أتى المدرّب البرازيلي سيباستياو لازاروني بخطط جديدة تلوّنت بالتقاليد البراغماتية الأوروبية، لكنها أفضت هي أيضاً إلى نكسة مع خروج من ثمن النهائي ضد الأرجنتين، وبهدف صنعه مارادونا بالمراوغة والابتكار والحيلة. كان هدفاً برازيليّ الروح لكن في شباك البرازيل.
انتهى الدرس الكرويّ بسياسات جديدة قوامها تنظيم هجرة اللاعبين البرازيليين إلى دوريات أوروبا، بحيث تكون النتيجة هي بناء فريق يجمع بين الموهبة والخبرة، وقد كانت ثمرة هذا التوجه نجاح البرازيل في تحقيق كأس العالم 1994، حين ظهرت الإبداعات البرازيلية بمقدار ما يحتاجه حسم المباريات، وصولاً إلى نهائي ضد إيطاليا - مرة أخرى - انتهى دون أهداف وحسمته ضربات الجزاء. لم تكن المباراة تشبه البرازيليين في شيء، ولكنهم قد أشاروا لخصومهم الطليان بأنهم أخذوا العبرة وسيعودون إلى الهيمنة على الكرة العالمية من جديد. وقد تحقّق من ذلك جزء غير يسير مع جيل كافو وروبيرتو كارلوس ودونغا وليوناردو وريفالدو ورونالدو.
البرازيل التي عادت للتتويجات في عقد التسعينيات كانت تعيش مرحلة انتقال ديمقراطي بعد سنوات طويلة من الحكم العسكري (1965 - 1988). دارت بعض فصول ذلك الصراع المدني ضد الطغمة العسكرية في ملاعب الكرة بالذات، وكيف يمكن تحقيق أي شيء في البرايل دون كرة القدم؟
حين وصل لولا دا سيلفا للحكم في 2002، قال إن الديمقراطية التي تعيشها البرازيل اليوم نواتُها "ديمقراطية كورنثيانس". كان يقصد فريق كرة قدم برازيلي رفع شعار الديمقراطية في عز حكم الجنرالات - الرؤساء، وجعل من نجاحاته الكروية والجماهيرية قناةً لتمرير خطاب سياسي يفكّك سطوة العسكر. قاد تلك التجربة اللاعب سقراط (وهو قائد المنتخب البرازيلي أيضاً في الثمانينيات)، وكان من متابعيه من سيؤثثون ديمقراطية البرازيل لاحقاً؛ عالم الاجتماع فرناندو كاردوزو للحكم (1995 -2002) والنقابي لولا داسيلفا (2002 - 2011، مع عودة للحكم مؤخراً).
بدا أن برازيل زمن الديمقراطية في الطريق الصحيح في كل شيء. ليس في كرة القدم وحدها، بل في الاقتصاد وفي الثقافة وفي الموقع الوازن جيوسياسياً بين الأمم. لكن، لم يتغيّر الكثير من واقع البرازيليين بين زمنين (أليس ذلك هو مبدأ المراوغة؟ السير في اتجاه غير ذلك المتوقع) فنزعة كاردوزو الليبرالية - وإن تقدّمت بالبرازيل خطوات - قد فاقمت الفروقات الاجتماعية، ولم يكن ممكنا بناء أي نهضة فوق أرضية مهتزة تحت وقع الجريمة والفساد والفجوة العميقة بين الأغنياء والفقراء. وحين أتى لولا للحكم، ظهرت عدوانية شرسة ضد سياساته الاجتماعية ستعصف بجزء غير هيّن مما أنجز منذ مغادرته للحكم بنهاية عهدته الرئاسية الثانية.
في سنوات لولا تلك، بدا أن انهماك البرازيل في بناء تحالفات دولية جديدة وإرساء مجتمع عادل قد أفقدها هيمنتها على كرة القدم (يتزامن وصول لولا للحكم مع آخر كأس عالم حققها البرازيل في 2002)، ولكن الشعب كان قد أخذ مسافة نقدية من كرة القدم ما جعل الهزائم غير قابلة للتوظيف السياسي ضدّه، فبدت البرازيل وكأنها تقول: "كفانا انتصارات وهمية".
وربما استفاد لولا من نجاحه عام 2007 في نيل شرف تنظيم كأس العالم 2014 في البرازيل، فبات كل أمل مؤجلا إلى يوم الاحتفال العظيم بفوز البرازيل بكأس العالم على أرضها، ويكون ذلك تتويجاً لنهضة البرازيل الجديدة مع خليفة لولا ديلما روسيف. غير أن ذلك المونديال كان مسرحاً للفضائح، فإضافة إلى الفضيحة الكروية (الهزيمة الثقيلة ضد ألمانيا)، وقف العالم على مظاهرات عنيفة تؤشّر على هشاشة السلم الاجتماعي وعلى الثمن البيئي الباهظ الذي تدفعه البرازيل (ومجمل الكوكب) وهي تحقّق نهضتها، ناهيك عن عدم التخلص من الفافيلات (مدن الصفيح).
سرّع ذلك المونديال من وتيرة تصفية الإيجابيات التي حققتها البرازيل تحت حكم اليسار الاجتماعي. وفي 2016، حين كانت البرازيل تنظّم حدثاً عالمياً آخر هو الألعاب الأولمبية، جرى اصطناع تحقيقات على شبهات فساد مدعومة بخطاب إعلامي مضاد للرئيسة روسيف التي وجدت نفسها، تحت ضغوط الشارع والمؤسسات الرسمية، مجبرة على الاستقالة، وبذلك وُضع حد لتجربة الحكم التي أطلقها لولا، في الوقت الذي يفترض أن تنضج ثمرتها وتضع البرازيل في المكانة التي تستحقها من العالم.
لا يقتصر فن المراوغة على لاعبي كرة القدم وحدهم. فالمراوغة هي صنعة السياسيين أيضاً، المراوغة بما هي فنّ العبور برشاقة من الأفخاخ المنصوبة، ولولا مراوغاتُه التي جعلته يتفادى ضربات الأعداء ومن ثمّ أعاده أوّل تصويت إلى الرئاسة، في انتخابات استقطبت لاعبين (أبرزهم نيمار الذي ناصر بولسونارو، خصم لولا، علنياً) سيشاركون بعد أيام في كأس العالم قطر 2018. سار كل شيء بادئ الأمر على أحسن ما يرام للمنتخب البرازيلي، قبل الاصطدام بواقعية بلد صغير مثل كرواتيا أعاد العملاق البرازيلي إلى هشاشته، في ذكريات حزينة لهزائم مشابهة في كأس العالم (بلجيكا 2018، هولندا 2010، فرنسا 2006). وكلها خسارات كان يمكن تفاديها، لكن تواتر حدوثها يشير إلى مفارقة البرازيل ومأساتها بين قدرتها على الانتصار ونكوصها عنه بشكل غريب.
هكذا، لا يزال منتخب البرازيل في كل مرة غارقاً في رقصاته حتى توقظه واقعية الخصوم، بتنظيمات أكثر تطوّراً وقدرة على الصبر والانضباط. كيف تفشل البرازيل في الملاءمة بين فنّها الكروي ومقتضيات اللعبة؟ قد لا يكفي النظر إلى المنتخب وحده لفهم ذلك، فالهوس الكرويّ - لدى شعب بأسره - يعبّر عن طريقة عاطفية في العيش، ومن ينظر إلى حال البرازيليين في كل مجالات الحياة سيكتشف هذا الطابع الفريد فيهم، سبب سعادتهم وألمهم. تلك الروح المرحة التي ترفض إكراهات النظام، لكنها تتخذ منه شعاراً. ألا نقرأ على العلم البرازيلي: "النظام والتقدّم".
فأما النظام فكيف بلوغه في ظل تناقضات جمة تسكن المجتمع البرازيلي وأفراده، وأما التقدّم فالبرازيل بلد يملك كل مقوماته منذ عقود طويلة لكن لا يحققه. وها إن أدبيات الجيوبولتيك يتردّد فيها سؤال إنكاري: "هل البرازيل دولة نامية إلى الأبد؟".
في كرة القدم، بالذات، وربما وحدها، ليست البرازيل دولة نامية. إنها قوة عظمى. بل إن البرازيل هي البلد الذي جعل من كرة القدم واجهة لقوّته. ربما يصنع ذلك شيئاً من الاكتفاء لدى البرازيليين لا توقظهم منه سوى خيبات تأتي متباعدة في الزمن، بما أن كأس العالم لا تقام إلا كل أربع سنوات. لكن لا يوجد منتخب يمكنه أن يعوّض شعبه عن غياب أساسيات كالحريات والتنمية والعدالة الاجتماعية. إذا كان المنتخب البرازيلي يفشل في ذلك، فماذا عن بقية الأمم؟