من تاريخ المنتخبات (4)... كأنها بداية انتصار المخيلة اليابانية

26 نوفمبر 2022
جماهير يابانية تستعيد شخصية تسوباسا خلال مباراة من كأس العالم الماضية في روسيا (Getty)
+ الخط -

مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، ستضيئه هذه السلسلة التي ينشرها موقع "العربي الجديد" بمناسبة كأس العالم قطر 2022.

ليس لليابانيين نصيب كبير في تاريخ كرة القدم، فهم من "الأمم الطارئة" على الرياضة الأكثر شعبية في العالم، ولم تطلع شمسُ كُرتهم إلا استحياءً في أواخر القرن العشرين. غير أنّ اليابانيين كتبوا لأنفسهم - منذ عقود - تاريخاً متخيّلاً، وقد ذهبوا بعيداً في الحلم حين جعلوا أنفسهم أبطال العالم بعد الانتصار على كل "القوى الكروية". فعلوا ذلك من خلال صناعة متطوّرة للرسوم المتحركة ولربما بدأوا في تحقيق بعض مما حلموا به.

كان من الصعب غرس "كرة القدم" في تربةِ جزيرةٍ معزولةٍ في أقصى الشرق، وفي نفوس شعب يحبّ أن يختلف في كل شيء. يهتمّ اليابانيون أكثر بالرياضات القتالية الضاربة في تراثهم، وعلى رأسها صراعات السومو والجودو، ولهم باع في رياضة البيسبول. وقد كانوا يراقبون من بعيد شغف العالم بكرة القدم وهي تتحوّل إلى ظاهرة كونية وفضاء للتنافس الأممي، ومن ثمّ بدأوا التفكير في دخول السباق.

كانت الفكرة الأولى لـ"استيراد كرة القدم" اقتصادية بامتياز من خلال مبادرة إشهارية من شركة تويوتا لصناعة السيارات عام 1980 بتنظيم "كأس ما بين القارات" على أرض اليابان. تجمع المسابقة التي انطلقت في 1960 بين بطلي أوروبا وأميركا الجنوبية، وكانت تُلعب بنظام الذهاب والإياب بين القارتين، وبما أن اليابان أرض محايدة راقت الفكرة لجميع الأطراف، وأُلحقت اليابان أخيراً بروزنامة الكرة العالمية.

تعرّف اليابانيون على أعظم لاعبي الثمانينيات من خلال تلك المباراة السنوية؛ شاهدوا رؤيا العين البرازيلي زيكو والفرنسي ميشال بلاتيني والهولندي ماركو فان باستن، ومن ثمّ بدأوا يهتمون بما يدور في عالم الكرة ويفكّون شيفرة أسرارها، فيعرفون ما يفعله لاعب مثل الأرجنتيني دييغو مارادونا بقلوب الناس، وكيف يتوقّف العالم خلال شهر كأس العالم، ويقفون مذهولين أمام السخاء المالي الذي يضخّ في مسابقات مثل الدوري الإيطالي.

ليس صُدفة أن تُنتج اليابان في عقد الثمانينيات هذا أشهر سلاسل الرسوم المتحركة حول كرة القدم. تخيّل المؤلف يوتشي تاكاهاشي شخصية تسوباسا (كابتن ماجد في الصيغة العربية) ووضع فيه مواهب مارادونا وبيليه وألفريدو دي ستيفانو وفيرينتس بوشكاش مجتمعين. وإلى جانبه وضع كوكبة من الرفاق تابعهم من المدرسة (القاعدة الأولى لكل إنجاز ياباني) وصولاً إلى بناء فريق وطني يحرز كأس العالم. يمكن فعل ذلك في بضع سنوات ضمن مسلسل كرتونيّ، لكن تحقيقه على أرض الواقع يحتاج إلى عقود.

وعلى أرض الواقع، بدأ البناء في نهاية الثمانينيات مع العمل على وضع معايير انتقاء للاعبين المؤهلين ليكونوا عناصر منتخب وطني يقارع بنديّة الأمم السابقة في الانتصارات الكُروية، وقد استقطبت اليابان في هذه المرحلة من أوروبا وأميركا اللاتينية لاعبين ومدرّبين من ذوي الخبرة كي يخلقوا فضاء تنافس للاعبين المحليين.

في تاريخ الكرة اليابانية توجد ضربة حظ كبرى، وهي التتويج بكأس آسيا 1992 في وقت لم يكن لليابان دوري محترف (تأسّس في 1993). لقد استفاد اليابانيون من تنظيم البطولة على أرضهم، وخصوصاً من عدم جدية بقية المنتخبات، ومنذ ذلك التتويج يتصرّف اليابانيون بمنطق شبه إمبراطوري تجاه المسابقة الآسيوية حين سيسيطرون عليها لقرابة عقدين (فازوا بأربع دورات منها).

وكما في مسلسل "تسوباسا"، كانت الخطوة الموالية في تأهيل اللاعب الياباني هي القذف به في معارك الدوريات الأوروبية الكبرى، لتظهر بالتدريج منذ منتصف التسعينيات أسماء شهيرة على مستوى عالمي أبرزها هيديتوشي ناكاتا وشونسوكي ناكامورا وهيروشي نانامي، وبفضل هذا الجيل وصل اليابان إلى كأس العالم 1998 ومن ثمّ شارك في جميع الدورات اللاحقة.

وكانت ثاني مشاركاتهم ضمن استضافتهم لكأس العالم 2002 مع كوريا الجنوبية، وقد سجّلوا مشاركة محترمة جلبت لهم التقدير والثناء من كل بقاع الأرض كتحية على المجهود الخرافي الذي بُذل لـ"تصنيع" فريق جاهز للتنافس، حيث تعادلوا مع بلجيكا وانتصروا على روسيا وتونس خلال الدور الأول، ما أهّلهم لتحقيق إنجاز العبور للدور الثاني ومن ثمّ انهزموا أمام تركيا، وهو إنجاز أفرح اليابانيين لكن خفّف من لمعانه ما حقّقه الجار الكوري الذي وصل منتخبُه إلى النصف النهائي في تلك الدورة.

وفي جميع مشاركاتهم في كأس العالم، ورغم العبور أكثر من مرة للدور الثاني، قلما انتبه العالم لمواصلة اليابان خطّها التصاعدي لبلوغ هدفها البعيد بأخذ موقع أمامي بين عمالقة كرة القدم.

لقد أتى التغلّبُ على ألمانيا في مونديال قطر 2022 مثل جرس تنبيه يلفت أنظار العالم لليابان في نهضتها الكُروية. وربما تلعب هذه المباراة نفس الدور الذي لعبته الحرب مع روسيا في بداية القرن العشرين، حين لم يجد العالم مفراً من الاعتراف باليابان كقوة صاعدة بعد الانتصار العسكري على إمبراطورية كبرى.

أفلتْ القوة العسكرية لليابان منذ هزيمة الحرب العالمية الثانية، واختارت منذ ذلك الوقت أن تتخذ من عناصر القوة الناعمة جسوراً نحو تحقيق الذات. ومع هذا الانتصار على ألمانيا، والفوائد المعنوية منه، لعلّ بعضاً من التاريخ الكروي الذي اخترعه اليابان لنفسه بدأ يحدث.

المساهمون