يطالب الرأي العام الروسي بعد كل حادثة تسفر عن مقتل عمال في مناجم الفحم بتشديد رقابة الدولة على الشركات المشغّلة لها، وإخضاعها لمساءلة عن الاستهتار في تدابير الأمان التي تتخذها من أجل تحقيق أعلى هامش من الربح بأقل تكاليف. ويدعو أيضاً إلى رفع قيمة التعويضات لذوي الضحايا بهدف إرغام أصحاب الشركات على التزام قواعد الأمان. واحتضن الكارثة الأخيرة منجم "ليستفياجنايا" في مقاطعة كيميروفو بمنطقة كوزباس في سيبيريا، والذي أسفر انفجار داخله في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي عن مقتل 51 شخصاً، بينهم 5 عمال إنقاذ، ما شكل الحصيلة الأكبر لضحايا كارثة منجم في روسيا منذ عام 2010، والثالثة الأكبر في البلاد خلال 20 عاماً. وفيما تثير هذه الحوادث نقاشات ساخنة على أعلى مستوى، اعتبر الرئيس فلاديمير بوتين أن حادثة كوزباس نتجت عن ضعف مراقبة إدارة المنجم ظروف العمل المناسبة التي تتطلب إزالة غاز الميثان لتنفيذ عمليات استخراج مواد التعدين. وبادر مدير شركة "إس دي إس أوغول" المشغلة للمنجم غينادي أليكسييف إلى الاعتذار من بوتين عن الحادث بدلاً من ذوي الضحايا، ما أطلق موجات من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن من مؤشرات عزم السلطات الروسية التعامل بحزم مع المتسببين في واقعة "ليستفياجنايا"، توقيف مالك المنجم، رئيس مجلس إدارة "إس دي إس أوغول"، ميخائيل فيديايف، وبضعة مسؤولين، بمن فيهم أليكسييف وغيره، في منتصف الأسبوع الجاري. كما تم اتهامهم بمخالفة لمتطلبات الأمان الصناعي بالمنشآت الصناعية الخطرة تسببت في مقتل شخصين فأكثر نتيجة للإهمال (الجزء 3 من المادة 217 من القانون الجنائي الروسي) وتجاوز للصلاحيات في مؤسسة تجارية أسفر عن عواقب وخيمة (الجزء 2 من المادة 201).
من جهته، يرى المهندس الاختصاصي في التعدين الخبير الصناعي ليونيد خازانوف، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "حوادث مناجم الفحم ترتبط بالدرجة الأولى بمحاولة القائمين عليها ترشيد النفقات على حساب أمان العمال، لذا ندعو إلى رفع سقف المسؤولية الإدارية والجنائية للمتسببين في الحوادث".
يضيف: "يطبق أصحاب المناجم وكبار مدراء الشركات المشغلة استراتيجية تقليص نفقات أمان العمال من خلال عدم سحب غاز الميثان من طبقات الفحم بما يتناسب مع متطلبات سلامة العمل، رغم أن هذه العملية مهمة للغاية في إنجاز مهمات التنقيب عن فحم الكوك والفحم الحراري اللذين يتركز غاز الميثان بكميات عالية فيهما، كما تفتقر المناجم إلى تجهيزات توفير معايير التهوية المناسبة، ومعدات مكافحة الانفجارات".
ويعطي خازانوف أمثلة على الانتهاكات التي يرتكبها أرباب العمل في حق عمال المناجم، ويقول: "يضغط كبار المدراء على عمال المناجم للنزول إلى أعماق الأرض، ويضعونهم أمام خياري العمل وسط مخاطر خسارة حياتهم، أو الاستقالة. بالطبع، قد تحدث وقائع إهمال على صعيد مخالفة العمال أنفسهم قواعد الأمان، أو حصول تسرب غير متوقع لغاز الميثان، وتسبب نتوءات صخرية في حصول انهيارات، لكن تحليل الحوادث يظهر ارتباطها غالباً بالسعي إلى زيادة الإيرادات بأي ثمن من دون التفكير في التداعيات السلبية المحتملة، لذا يفقد الناس أرواحهم، بينما يزيد بارونات الفحم ثرواتهم، وينفقونها لشراء عقارات فاخرة ويخوت وقطع ثمينة". ويرى أن "سبل منع كوارث مناجم الفحم واضحة وتتمثل في فرض رقابة صارمة ودقيقة على معايير الأمان الصناعي وقوانين العمل، وعدم التردد في إخضاع المخالفين لغرامات كبيرة تراوح نسبها بين 10 و30 في المائة من عائداتهم، ومساءلة المدراء والتلويح بإحالتهم إلى المحاكم الجنائية في حال ثبت تجاهلهم المعايير المطلوبة للعمل، ومعاقبتهم بالسجن فترات طويلة ومصادرة أملاكهم وإجبارهم على دفع غرامات قد تصل إلى نسبة 50 في المائة من عائداتهم. ومن الضروري أيضاً إجبار المساهمين في حال حصول حوادث على صرف معاشات تعويض مناسبة لعائلات الضحايا والمصابين بإعاقات جسدية، ما يعني أن مبلغ الإعانة المحدد بـ25 ألف روبل (أقل من 350 دولاراً)، التي تحددت لأهالي ضحايا كارثة ليستفياجنايا لا يكفي، بل أرى أنه يمثل إهانة لهم تضاف إلى عدم تقديم اعتذارات".
وتعلّق صحيفة "نوفايا غازيتا" ذات التوجهات الليبرالية المعارضة في مقال بعنوان "مليون دولار مقابل حياة عامل منجم"، بأنه إذا فرضت مبالغ تعويضات أكبر من تكاليف تنفيذ إجراءات منع الكوارث، فسيحتم ذلك تطبيق هذه الإجراءات، ما يجعل التعويضات نفسها ليست سخاء من قبل المجتمع وقطاع الأعمال على المتضررين، بل آلية للحفاظ على الأرواح في المستقبل"، وتدعو إلى "خلق سابقة صرف مبلغ يقارب أرباح منشأة خطرة عن بضع سنوات لذوي الضحايا، فدفع ملايين الدولارات لتعويض عائلات الضحايا هو الوسيلة الوحيدة لإرغام أصحاب الأعمال الخطرة على الاستثمار في تدابير ضمان سلامة العمال".