مكبات المنسوجات... تكديس الملابس المستعملة في البلدان الفقيرة

29 يوليو 2023
أطنان من الملابس المستعملة المكدسة (أنابيل تشيه/ Getty)
+ الخط -

حين تتجول في أسواق الدنمارك وبريطانيا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا ستشاهد لافتات تضعها كبريات متاجر الألبسة حول إمكانية تسليم الألبسة المستعملة إلى المتجر من أجل إعادة تدويرها. يسلم كثيرون الألبسة المستخدمة بدلاً من رميها في النفايات، لكن الحقيقة التي تخفيها تلك المتاجر عن المتبرعين، أن أغلبيتها تتحول إلى نفايات، والأخطر أن تلك النفايات تتراكم في دول أفريقية غير قادرة على التعامل معها.
خلال الفترة الماضية، كشفت تحقيقات صحافية عن تكرار تصدير الألبسة المستعملة إلى أفريقيا، ثم جرى التثبت من تلك الكارثة عبر دراسة موثقة لمؤسسة "تشينجينغ ماركتس فاوندايشن" الهولندية غير الحكومية، نشرت نتائجها الأحد الماضي،  وكشفت أن المتاجر التي ترحب بما يقدمه الزبائن من ألبسة مستعملة تحت شعار إعادة التدوير، تقوم في الواقع بتحويلها إلى نفايات.
وتتبع الباحثون خلال عام 2022، ملابس سلمت إلى متاجر كبرى من خلال نظام "إيرتاغس"، لتجد أن 16 قطعة ملابس من أصل 21 جرى تسليمها، انتهى بها الحال إما في مستودعات حتى تتلف، أو جرى تصديرها إلى دول أفريقيا. وفي الحالة الأخيرة بات الوضع مثار جدل بعد أن تراكمت الملابس الغربية المستعملة حتى لم تعد لدى سلطات تلك البلدان إمكانية التعامل معها.
ودس باحثو المؤسسة الهولندية نظام تتبع في تنورة جرى تسليمها في متجر شركة الملابس السويدية "أتش أند أم" خلال العام الماضي، واكتشفوا أن التنورة سافرت 24 ألفاً و800 كيلومتر، من لندن عبر الإمارات العربية المتحدة وصولاً إلى منطقة صحراوية في مالي، ويؤكد الباحثون في "تشينجينغ ماركتس" أن القطعة كانت ضمن نفايات ملابس لم يتم إعادة تدوير سوى كميات ضئيلة منها في أوروبا.
وعبر الباحثون عن "القلق البالغ" من مساهمة شركات الملابس الغربية في زيادة تحديات هدر الملابس من خلال خدعة استلام المستعمل منها، مشيرين في بيان صحافي، إلى أن "وعود المتاجر هي مجرد خدعة للعملاء. يشير بحثنا إلى أن الملابس المتبرع بها، وبعضها في حالة ممتازة، يتم تدميرها في الغالب، أو تظل عالقة في المخازن، أو يتم إرسالها إلى بلدان لا تملك القدرة على التعامل مع التدفق الهائل للملابس المستعملة من أوروبا".
وكشفت تحقيقات صحافية في السويد والنرويج خلال العام الحالي، من خلال تتبع ألبسة مستعملة تم تسليمها إلى متاجر كبرى، أن بعضها انتهى به الحال في بنين أو في الهند، في حين يواجه البلدان تحديات كبيرة في التعامل مع نفايات المنسوجات.
وفي السنوات الأخيرة شهدت صناعة الأزياء السريعة تضخماً غير مسبوق للكميات التي تضخ في الأسواق، وفي الغالب، ينتهي قسم كبير منها إلى النفايات بعد نهاية موسم الموضة أو ظهور موضة جديدة، ويعيد بعض الناس تلك الملابس إلى المتاجر على أمل إعادة تدويرها كما وعدتهم، لتقوم متاجر الجزء الشمالي من الأرض بتكديسها في الجزء الجنوبي، ويتحمل الفقراء في أفريقيا وآسيا التكلفة البيئية.
وفي ضوء التقارير حول تكديس الملابس والمنسوجات المستعملة في القارة الأفريقية، يؤكد الناشط البيئي الغاني، جو آيسو، لصحيفة "إنفورماسيون" الدنماركية، التحديات التي يواجهها بلده مع النفايات التي تتراكم على شواطئ العاصمة أكرا، مشيراً إلى أن "الناس في شمال الكرة الأرضية لا يفكرون بنفس الطريقة حيال الإفراط في استهلاك الملابس. هؤلاء يقررون عدم التفكير بالمشكلة عبر تسليم ملابسهم المستعملة إلى المتاجر، بينما لا نريد أن نكون مكب نفايات لإراحة ضمير سكان الدول الثرية".

تصدر الملابس المستعملة إلى بلدان لا يمكنها التخلص منها (أنور هازاريكا/Getty)
تصدر الملابس المستعملة إلى بلدان فقيرة (أنور هازاريكا/Getty)

وتفيد أرقام مؤسسة "أور فاوندايشن" التي تعمل على خلق وعي بالأزمة البيئية العالمية، بأنه "في كل أسبوع، تتلقى غانا وحدها نحو 15 مليون قطعة من الملابس المستعملة، ونحو 40 في المائة منها يجري التخلص منه بسبب عدم صلاحيته لإعادة الاستخدام".
ووفقا لتقرير سابق لمنظمة السلام الأخضر (غرين بيس) بعنوان "هدايا سامة"، فإن صناعة الأزياء تساهم في زيادة النفايات في أغلب الدول الفقيرة، وأظهر تقرير حديث لوكالة البيئة الأوروبية، أن "كمية المنسوجات المستعملة المصدرة من الاتحاد الأوروبي تضاعفت ثلاث مرات خلال العقدين الماضيين، من 550 ألف طن في عام 2000، إلى ما يقارب 1.7 مليون طن في عام 2019".
ورغم الدعوات المتكررة لإصدار الاتحاد الأوروبي تشريعات واضحة بحق الشركات والمنظمات التي تقبل الملابس التي يعاد تدويرها، كي تكون شفافة، وتقدم تقارير واضحة عن آليات التعامل معها، إلا أن الأمور ما تزال تسير ببطء في هذا الصدد. وعلى الطاولة الأوروبية منذ العام الماضي مقترحات قوانين تقضي بتقليل تصدير المنسوجات المستعملة إلى البلدان التي ليس لديها نظام يمكنه التعامل معها بطريقة مقبولة، وأن يتم إدارة المزيد من نفايات النسيج داخل حدود الاتحاد الأوروبي.

وتتفاقم المشكلة في المجتمعات الفقيرة التي يجري رمي الملابس المستعملة إليها بالمجان تقريباً، لتباع في متاجر الألبسة المستعملة بأسعار متفاوتة بعد فرز عالي الجودة منها، ثم رمي الأخرى غير الصالحة للاستخدام، وللأمر علاقة مباشرة بزيادة شركات الألبسة الغربية إنتاجها خلال العقدين الأخيرين بطريقة تنافسية تجعل من الصعب إعادة تدوير الملابس المصنوعة من أنسجة متعددة، فبعض شركات الملابس عالية الجودة تجد نفسها في داخل منافسة شديدة للبقاء في ظل قيام الشركات العملاقة بطرح كميات ضخمة من الملابس بأسعار منخفضة.

تذهب غالبية الملابس المستعملة إلى النفايات (كريس غورمان/Getty)
تذهب غالبية الملابس المستعملة إلى النفايات (كريس غورمان/Getty)

وتشدد منظمات بيئية، من بينها غرين بيس، على وجود اختلال كبير في سوق الملابس، والذي يساهم أيضا في زيادة التلوث، مع استخدامه كميات هائلة من المياه الجوفية، إلى جانب مشكلة تفاقم مكبات نفايات المنسوجات في دول أفريقيا والهند وباكستان وغيرها. 
ويشير هؤلاء إلى أن توجه الشركات الكبرى نحو إنتاج الألبسة في الدول الفقيرة بسبب رخص اليد العاملة، لا يعني أنه إنتاج غير ملوث، إذ يستهلك الكثير من المياه، وكميات كبيرة من المواد الكيميائية في الصباغة، فضلاَ عن التلوث الناتج من وسائل النقل، إلى جانب استغلال آلاف البشر، وفي نهاية المطاف، يحدث كل ذلك من أجل أن تصل قطعة ملابس زهيدة الكلفة إلى المستهلك.
والمستهلك الذي يبتاع ملابس رخيصة السعر سرعان ما يتخلص منها بسبب قلة الجودة، أو شرائه منتجا جديدا، ويوسع ذلك حجم الدائرة المفرغة الخاصة بوجود أكوام من الملابس المستعملة، والتي لا يعاد تدويرها، بل ترسل إلى دول فقيرة بحجة بيعها كملابس مستعملة رخيصة الثمن، بينما تتحول في غالبيتها إلى أكوام نفايات ضخمة لا تعرف تلك البلدان كيفية التصرف بها.

وبحسب منظمة الأمم المتحدة للتجارة (كومتريد) والوكالة الأوروبية للبيئة، فإن المنسوجات تعد رابع أعلى مصدر للضغط على البيئة، وتؤكد الوكالة الأوروبية أن "التصور العام الشائع حول التبرعات بالملابس المستعملة على أنها هدايا سخية للأشخاص المحتاجين لا يتطابق تماماً مع الواقع".
وتواجه أوروبا تحديات كبيرة في إدارة المنسوجات المستعملة نظراً لأن قدرات إعادة الاستخدام أو إعادة التدوير محدودة ، ما يجعل نسبة كبيرة من المنسوجات المستعملة التي يتم جمعها في الاتحاد الأوروبي يتم تصديرها إلى أفريقيا وآسيا. 
وخلال العام الماضي، استقبلت باكستان أكثر من 179 ألف طن ملابس مستعملة، وصدرت أوروبا إلى تونس في نفس العام أكثر من 102 ألف طن، بينما استقبلت الكاميرون نحو 73 ألف طن. وينتهي الحال ببعض تلك الملابس في الأسواق، في حين ينتهي الحال بغالبيتها في المكبات أو على شواطئ الدول الفقيرة غير القادرة على إعادة تدويرها، مثل توغو وغانا.
وتواجه تلك الدول الأفريقية أزمات أعمق في حال رفض استقبال نفايات أثرياء الغرب، ففي 2017، حاولت رواندا وأوغندا وكينيا وتنزانيا القيام بعمل مشترك من أجل حظر استيراد الملابس المستعملة، فجوبهت بتهديد أميركي، بحسب تقرير نشرته بي بي سي في 2018، وشمل التهديد إنهاء اتفاقيات تجارية مع تلك الدول إذا ما أقدمت على حظر تحويلها إلى مكب نفايات للشركات الغربية.

المساهمون