معاملات السوريين... سفارات النظام تبتز المغتربين

18 نوفمبر 2021
سوريون في استوكهولم يطالبون بوقف القتل في بلادهم (آتيال ألتونتاس/ الأناضول)
+ الخط -

رافقت "ثقافة الخوف" كل من اضطر إلى ترك سورية خلال الأعوام العشر الماضية إلى أوروبا. ولم يقتصر الخوف على مستقبل الإقامة في بلد معين مثل الدنمارك، بل بات أيضاً من إرهاق جيوب المضطرين إلى مراجعة سفارات وقنصليات النظام السوري، خصوصاً لدفع مئات الآلاف منهم "بدل الجيش" (مبلغ يسدد لنيل إعفاء من الخدمة العسكرية). وتحدث بعض السوريين لـ"العربي الجديد" عن أن السفارات تطلب منهم إحضار المبلغ نقداً بالعملة الصعبة.
في السنوات التي سبقت اندلاع الحرب السورية كانت المعاملات التي تنفذها السفارات السورية لتسجيل الأبناء وتجديد جوازات السفر وتلك الخاصة بالوكالات تنجز عبر طوابع يرسل صاحب المعاملة قيمتها. أما اليوم فيتعرض السوريون لـ "ابتزاز وضغوط" حقيقية في إنجاز المعاملات، والتي قد تطاول حتى أفراد أسرهم الباقين في سورية.  
أراد سليم الذي يقيم في مدينة هيلسنيور قرب العاصمة الدنماركية كوبنهاغن إصدار "وكالة عامة" لأسرته في دمشق، فصادق كاتب العدل في الدنمارك على توقيع سليم، وكذلك وزارة الخارجية في هذا البلد، ثم أرسلت الورقة إلى السفارة السورية في العاصمة السويدية استوكهولم فأبلغ أنه يجب أن يحضر شخصياً إلى دمشق، ما يعني خسارة لجوئه وسحبه إلى الجيش. 
لم يخطر في بال الرجل الثلاثيني، بعد 7 أعوام من لجوئه، أن رسوم الوكالة المقدرة بـ200 دولار ستتحول إلى "كابوس من الضغوط النفسية والاجتماعية". ففي دمشق اكتشف أهله أن حصر الإرث، بعد وفاة والده، سيكلف 8 آلاف دولار، إضافة إلى 1000 دولار رشاوى لتفادي حضوره إلى سورية". وهذه المبالغ هي "بدل الخدمة" في جيش الأسد، علماً أنه ترك جامعته وهرب من الحرب لتجنب أن يصبح جزءاً من هذا الجيش. 

"ثمن" المساومات
والحقيقة أن مساومات تأمين الأموال لسفارات النظام السوري المنتشرة في أوروبا، ومحاولة تجنيب من تبقى من الأهل في سورية الضغوط، دفعت لاجئين كُثرا إلى نشر مواقف مؤيدة للنظام على وسائل التواصل الاجتماعي، وآخرين خصوصاً من حاملي إقامات لمّ الشمل، إلى وضع صور على مواقع التواصل الاجتماعي لزيارات أجروها إلى سورية عبر مطار بيروت الدولي باستخدام أموال "حماية" تمنحها السلطات الدنماركية لهم، ما حتم إطلاق كوبنهاغن إجراءات لتجميد إقامات مئات منهم، وبينهم رافضو الخدمة العسكرية. 

وبررت الدنمارك قرارات تجميد الإقامات بزيارة آلاف السوريين بلدهم رغم ادعائهم بأنهم فارون من نظامها، في وقت تصنف سلطاتها منذ نحو عام دمشق وريفها مناطق آمنة لعودتهم. وقد أثارت لقطات المسافرين لـ "السياحة" أو لتمضية "إجازة" إلى سورية مشهداً شبه معادٍ لهم في الدنمارك، قبل أن يتعمم على جميع السوريين في البلاد. لكن مشرعين من اليسار كشفوا لـ"العربي الجديد" أخيراً أن "التدابير التي يخضع لها من هم في سن التجنيد ستخضع لمراجعة بعد التقارير عن تعرضهم لابتزاز من أجل دفع أموال". 

وتفيد أرقام في أوروبا بأن معظم السوريين الذين قدموا إلى القارة منذ عام 2013، خصوصاً في ذروة اللجوء عام 2015، هم دون سن الأربعين، ما يعني أن غالبية الذكور، وبينهم من بلغوا الـ18 من العمر في الأراضي الأوروبية، باتوا مطالبين بتنفيذ الخدمة العسكرية، بحسب عرف النظام السوري.  
وكانت مديرة "مجلس اللاجئين الدنماركي" إيفا سينغر أشارت أخيراً إلى أن "جباية أموال بدل الخدمة العسكرية باتت تشكل عقبة حتى في وجه الأسر التي أبدت رغبتها في قبول مبلغ تعويض للعودة إلى سورية، وإعادة تأسيس حياتها هناك". 

كنز "بدل الخدمة"
وليست قضية "بدل الخدمة" جديدة في سورية، فقبل الحرب كان المغتربون في الخليج العربي أو الغرب يدفعون آلاف الدولارات لقاء الإعفاء من شعبة التجنيد، وذلك بعد مرور 5 سنوات على الهجرة. ويجلب ذلك ملايين الدولارات للنظام الذي رفع عام 2014 قيمة البدل من 4 إلى 8 آلاف دولار.
ويكشف الباحث في مركز "كارنيغي للشرق الأوسط" في بيروت، أرميناك توكماجيان، أن "وزارة الداخلية السورية قدّرت قبل عام مبالغ إصدار جوازات السفر وحدها بنحو 21.5 مليون دولار، فيما مبالغ دفع بدل الجيش أكبر من ذلك بكثير، وما ينقل من سفارات النظام في الخارج ليست مبالغ ضئيلة".
وكان عضو البرلمان السوري مجيب عبد الرحمن الدندان قال عام 2015 إن "إيرادات مبالغ خدمة العلم تناهز 1.2 مليار دولار". أما زيادة المبلغ إلى 8 آلاف دولار، واستهداف السفارات لمئات آلاف الشبان السوريين، فقد يرفع هذا المبلغ إلى 3 مليارات دولار اليوم، علماً أن تقريرا خارجيا تحدث عن أن الميزانية السورية لعام 2021 تضمنت زيادة بنسبة 3.2 في المائة في رسوم الإعفاء من الخدمة العسكرية، في مقابل 1.75 في المائة عام 2020.

ورغم غياب الأرقام الصحيحة عن عدد الذين دفعوا هذه القيمة المالية، تشير مصادر سورية إلى أن "الظاهرة أكثر انتشاراً بين السوريين في دول الخليج".
وتتشدد السلطات السورية منذ العام الماضي مع اللاجئين وأهاليهم، إذ لا يمكن التهرب من نظام الجباية المطبق في السفارات والقنصليات، بينها تلك في تركيا ولبنان والأردن ودول ينتشر فيها أكثر من 6 ملايين مهجر، رغم كل الظروف الصعبة التي يعيشونها. وباتت تهدد بتنفيذ حجز على الممتلكات الشخصية أو تلك التي تخص الأقارب من أجل دفع المبالغ النقدية المطلوبة في السفارات. 

لا للابتزاز
في السياق، يؤكد السوري عثمان جمعة، الموجود في مدينة هامبورغ الألمانية، أنه يخشى أن يصادر النظام البيت الذي ورثه والده عن جده بسبب رفضه الضغوط التي مورست عليه لدفع البدل النقدي عن خدمة العلم.  ويقول لـ"العربي الجديد": "أعيش في ظروف نفسية صعبة، فالتشبيح لا يقتصر على السفارة السورية في برلين بل يشمل مؤيدين للنظام بينهم غير سوريين أيضاً، والذين يخونون السوري ويمارسون تهديدات وضغوطاً لقبول الابتزاز المالي للنظام الذي ينصاع كثيرون له في نهاية الأمر". يضيف: "حتى لو امتلكت مبلغ 8 آلاف دولار فلن أدفعه رغم علمي بأن حجز بيت الأسرة سيتسبب بشرخ في علاقتي مع باقي أفراد أسرتي في سورية، إذ أعرف أن النظام لا يأبه إلا بجباية ما في جيوبنا لتمويل آلته العسكرية". 
وفعلياً تؤثر تدابير مصادرة ممتلكات الأسر مباشرة على العلاقات الاجتماعية، وتطاول أيضاً الزوجات اللواتي قدمن إلى أوروبا بناءً على قوانين لمّ الشمل التي لا تمنعهن من زيارة بلدهن، إذ يخضعن بدورهن لسيف مصادرة الأموال والممتلكات، وكذلك على من تبقى من أفراد الأسرة في سورية، مثل الإخوة والأبوين. 

النظام يهدد سوريي الخارج بأهلهم في الوطن (عدنان فرزات/ Getty)
النظام يهدد سوريي الخارج بأهلهم في الوطن (عدنان فرزات/ Getty)

في استوكهولم، يخبر رب الأسرة محسن الجاعوني، وهو فلسطيني - سوري لديه 4 أبناء في سن التجنيد ويقيم منذ عام 2012 في السويد، عن معاناته مع باقي السوريين من "ملاحقات". ويقول لـ"العربي الجديد": "أنا تحت ضغوط دفع أكثر من 32 ألف دولار بدل خدمة العلم عن أبنائي الأربعة، في وقت يظن أقاربي في دمشق أنني مليونير بسبب وجودي في السويد. ونحن مهددون بحجز دارنا المؤلفة من 3 طبقات في شارع لوبية بمخيم اليرموك، ومحال تجارية نملكها، في حين يوهم النظام إخوتي بأنهم يستطيعون العودة إلى المخيم إذا دفعت المبالغ عن أبنائي".

ويكرر الجاعوني موقف آخرين بأنه لن يدفع قرشاً واحداً، "فأنا لن أشجع أبنائي على مد هذا النظام بمال يستخدمه لدعم ماكينة قتله إخوتنا في سورية. والمهزلة الأكبر بالنسبة لي أن يقال أن هناك جيش تحرير فلسطينيا، بينما يقتل منتسبوه في المدن بعدما تحولوا إلى جزء من مجموعات مليشيات كثيرة للنظام".  
أما باسل، فبات غير قادر على توكيل أهله التصرف بشيء، بعدما طلب منه الحضور شخصياً إلى دمشق، ما يشير إلى مزيد من الابتزاز والمشاكل، علماً أنه لا يستطيع أصلاً السفر إلى دمشق، لأن النظام يطلبه بسبب نشاطه السابق خلال الثورة، ومساعدته مهجرين في مدارس المخيم عام 2012. 
وفي فرنسا، يتمسك شبان فلسطينيون – سوريون بقرار عدم مراجعة ممثليات النظام السوري على الإطلاق، مهما كانت الأسباب، وبينهم مصطفى العاص الذي يقول لـ"العربي الجديد": "الأمر مثير للاشمئزاز والسخرية. يريدون أن ندفع 8 آلاف دولار بعدما دمروا المخيم وكل سورية، وبعد مهزلة وضع جنود جيش التحرير الفلسطيني في مواجهة السوريين كي يقتلوا ويقتلوا بعيداً عن هدف إنشاء هذا الجيش الذي جرى تحويله إلى مليشيا شبيهة ببقية المليشيات التي تدافع عن كرسي حكم الأسد". 
ويبدي العاص ورفاقه غضبهم من ابتزاز من تبقى من الأهل لجمع ملايين للنظام، ويسألون: "ماذا تبقى أصلاً من أملاكنا في مخيم اليرموك للتهديد بحجزها. مجرد ركام وكتل حديد ينهبها ضباط النظام ويبيعونها في السوق السوداء". 

السفارات ""فروع مخابرات"
ويجمع السوريون وفلسطينيو سورية معاً على وصف مراجعة سفارات وقنصليات سورية بأنها "فخ الوثائق". ويذكرون أن مراجعة الممثليات باتت كابوسا حقيقياً، وهو ما يؤكده في برلين رب أسرة سورية يدعى منصور س. الذي امتنع منذ العام الماضي عن مراجعة السفارة لتصديق بعض الوثائق، كون زوجته وأطفاله حضروا ضمن آلية لمّ الشمل وليس اللجوء. ويقول لـ "العربي الجديد": "وجدت نفسي أمام مساومات لدفع نحو 16 ألف دولار بدل خدمة الجيش عن ولدين تجاوزا سن الـ18 ويدرسان حالياً. وجرى تهديدي بأن المبلغ سيُضاف في حال التأخر عن الدفع، فبدا لي أنني في فرع للمخابرات في دمشق. من هنا اخترت مراجعة السلطات الألمانية لاستخراج وثائق محلية بينها وثيقة سفر لزوجتي.
ويؤكد محمد الحاج المقيم في مدينة مالمو السويدية أنه واجه لدى مراجعته السفارة السورية في استوكهولم، تهديدات مبطنة تتعلق بمن بقي من أهله في سورية، وقوانين الحجز على الممتلكات وحرمان الأهل من التصرف بشيء بعد إلغاء العمل بالوكالة القديمة، من أجل إجباره على السفر إلى سورية، أو قبول الابتزاز المالي. 

المساهمون