في شوارع عديدة بالجزائر وعند مداخل أسواق وأمام محلات وبالقرب من مساجد، من غير المستبعد مصادفة أشخاص يُعانون من اضطرابات نفسية وعقلية، بعضهم يفترش الأرض، وبعضهم يجوب الأماكن، ولكلّ واحد قصتّه. ومن بين هؤلاء من هو هادئ ومسالم وغير مؤذٍ، ومن بينهم من يُعَدّ خطراً على غيره وعلى السلامة العامة، الأمر الذي يستوجب نقله إلى مركز طبي متخصّص بالأمراض النفسية والعقلية.
وتختلف حالات هؤلاء الأشخاص المضطربين نفسياً وعقلياً الذين تُطلَق عليهم شعبياً تسمية "مجنون" أو "مختلّ عقلياً". وما يثير القلق في هذا الإطار، أنّ ثمّة حالات من هؤلاء "مصدر خطر" على من حولهم وعلى أنفسهم كذلك، بسبب سلوكياتهم العنيفة وغير المتوقّعة. وفي الغالب، من غير الممكن محاسبتهم أو فرض عقوبات عليهم أو محاكمتهم، بسبب فقدانهم الأهلية على خلفيّة أمراضهم النفسية والعقلية.
تخبر فريدة، وهي شابة من مدينة العفرون بولاية البليدة القريبة من العاصمة الجزائرية، أنّها تعرّضت لاعتداء عنيف من قبل شخص يعاني من اضطراب في أحد الشوارع عند عودتها إلى منزلها. وتفصّل فريدة لـ"العربي الجديد"، قائلة: "كنت عائدة من مقرّ عملي كما العادة، وفي أثناء سيري في شارع فرعي غير بعيد عن السوق الشعبي الذي كنت قد قصدته لشراء بعض الحاجيات، تفاجأت بشخص يرتدي ثياباً رثّة ومتّسخة يهاجمني ويوجّه صوبي آلة حادة". تضيف فريدة: "صحيح أنّني تمكّنت من النجاة بعد تدخّل شخصَين كانا في الجوار، لكنّني أُصبت بكسر في يدي وبجروح على مستوى الوجه والرأس".
وفي مدينة تيبازة غرب العاصمة الجزائرية، تعرّضت سامية، وهي طالبة تتابع دراستها في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية التابعة لجامعة تيبازة لاعتداء من أحد الأشخاص الذين يعانون من اضطراب. وهو كان قد اعتاد الجلوس بالقرب من مدخل الجامعة، فيما كانت الطالبات يوفّرن له الطعام. لكنّه في بعض الأحيان، تنتابه نوبات عنف، فيرشق المارة بالحجارة. وفي يوم رشق سامية وزميلتَين لها، فأصيبت هي برجلها وظهرها، الأمر الذي دفع هيئات طالبية إلى إثارة القضية أمام إدارة الجامعة والسلطات المحلية ودعتهما إلى التدخّل ونقل هذا المريض إلى مصحّة متخصصة ضماناً لسلامة الطلاب والأساتذة.
وقد يعمد هؤلاء الأشخاص المضطربون في بعض الأحيان إلى تخريب أملاك عامة وخاصة. ويشكو شريف بن عبدي، الموظف في إحدى المؤسسات الاقتصادية بالعاصمة الجزائرية من إقدام أحد هؤلاء على كسر زجاج سيارته وإلحاق الضرر بالأبواب، الأمر الذي كلّفه خسائر بقيمة ألف دولار أميركي. كذلك قد يظهر بعض هؤلاء في الشوارع عراة أو بملابس لا تغطّي إلا قليلاً من أجسامهم، الأمر الذي يسبّب إحراجاً كبيراً للناس، وخصوصاً في محطات الحافلات أو الأسواق أو على الشواطئ. ويلجأ كثر من هؤلاء إلى طلب المال أو السجائر أو الطعام من الناس، أو يدخلون إلى المطاعم والمقاهي فيشكّل الأمر إحراجاً كبيراً لصاحب المطعم نفسه، ولا سيّما عندما يرفض هؤلاء المغادرة.
وبسبب قلة الوعي المجتمعي، وخصوصاً بين المراهقين، ثمّة من يقدم على استفزاز هؤلاء الأشخاص المضطربين والتلاعب بهم، فيلاحقونهم مثلاً ويرمونهم ببعض الأشياء ويدفعونهم إلى الشتم والتفوّه بألفاظ بذيئة. كذلك ينعتونهم بألقاب تثير مشاعرهم، فيصيرون في حالة هيجان، الأمر الذي يسبّب زيادة عدوانيّتهم.
وفي هذا السياق، تقول الطبيبة فتيحة حرفوف، رئيسة مصلحة الصحة النفسية والعقلية في مستشفى الناظور بمحافظة تيبازة، لـ"العربي الجديد" إنّ الشخص المصاب باضطراب نفسي وعقلي "لا يثق بالآخرين وبالمحيطين به، إذ يغيب لديه الشعور بالأمان، وتتضاعف لديه مشاعر الخوف والقلق، ويسيطر الارتباك على كلّ تصرفاته". تضيف حرفوف أنّ "الهلوسات أو التخيّلات من قبيل نيّة الآخرين إلحاق الأذى به، بما في ذلك الاعتداء عليه وقتله، هي التي تجعل الشخص المضطرب عدوانياً عنيفاً"، مشدّدة على ضرورة نقله في مثل هذه الحالات إلى المستشفى. وتشير حرفوف إلى أنّ "عزوف الجزائريين عن التوجّه إلى الطبيب المتخصص بالأمراض النفسية والعقلية يفاقم الأمور"، مؤكدة أنّ ذلك "ما زال يُعَدّ من التابوهات (المحرّمات)، على الرغم من أنّ الطبيب المتخصص قادر على توفير العلاج للمريض، الأمر الذي من شأنه الحؤول دون تفاقم حالته".
تجدر الإشارة إلى أنّ السلطات المعنية تعمد بين فترة وأخرى إلى حملات لإبعاد هؤلاء الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية وعقلية من الشارع، خصوصاً في العاصمة والمدن الكبرى. لكنّها تبقى حملات ظرفية، وسط ضعف في التكفّل بمثل هؤلاء الأشخاص ونقص في المراكز المخصصة لإيوائهم. وفي هذا الإطار، لم يُصَر إلى تقييم فعلي لمخطط الصحة النفسية والعقلية الذي نفّذته الحكومة بين عامَي 2017 و2020. فيؤكد هنا الباحث المتخصص في علم الاجتماع والأستاذ في جامعة خميس ـ مليانة، زهير بن سالم لـ"العربي الجديد"، أنّ "سياسة التكفّل بهذه الفئة تبقى ضعيفة في الوقت الحالي، والدليل على ذلك وجود عدد كبير من هؤلاء الأشخاص في الشارع".
ويشير إلى أنّه يتعيّن على السلطات "إنشاء مصحّات إضافية للتكفّل بهؤلاء الأشخاص ومتابعة حالاتهم، بالإضافة إلى تنظيم حملات توعية للمجتمع حول كيفية التعامل معهم أوّلاً. كذلك لا بدّ من تنظيم حملات لتشجيع الجزائريين الذين يعانون من اضطرابات وعائلاتهم على ضرورة التوجّه إلى طبيب متخصص بالأمراض النفسية والعقلية".