مشهد الانتحار... خطف الحياة للخلاص من بؤس لبنان

مشهد الانتحار... خطف الحياة للخلاص من بؤس لبنان

13 مارس 2023
ضغوط نفسية كبيرة بسبب الأزمة المعيشية في لبنان (فاسيليس بولاريكاس/Getty)
+ الخط -

تتكرر في لبنان، منذ نهاية فبراير/ شباط الماضي، أخبار شبه يومية عن انتحار شباب، وتركهم غصّات في قلوب عائلاتهم وأحبائهم، وسُجّلت خلال عشرة أيام 5 حالات انتحار، كما جرى التداول حول حالتين إضافيتين لم تذكر هويتهما، ما رفع العدد إلى 7.
كان لسان حال معظم المنتحرين في الرسائل الصوتيّة والمكتوبة التي تركوها أنّهم أُنهكوا وفقدوا القدرة على تحمّل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تشهدها البلاد، وأن أملهم تبدد بحلحلة قريبة. 
وفي نهاية فبراير/ شباط الماضي، أقدم الشاب الأربعيني علي مشهور أبو حمدان، المتحدر من بلدة تعلبايا (البقاع)، على الانتحار بطلقٍ ناريّ من مسدسه، لأسبابٍ رُبطت بظروف اقتصادية وأزمات مالية استدعت رفع دعاوى قضائية، بحسب ما جرى تداوله. 
وفي الأول من مارس/ آذار الجاري عُثر على جثة شاب ثلاثيني يدعى موسى الشامي أمام منزله في بلدة دير الزهراني (الجنوب) مصابة بطلق ناري مع وجود سلاح إلى جانبها، وجرى تداول معلومات عن انتحاره بسبب الأزمة الاقتصادية. ثم ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي برسالة صوتيّة حزينة وجهها إلى "علّوش" أحد أصدقائه، والتي طالبه فيها بالاعتناء بعائلته بعدما عجز عن تأمين قوتها اليومي، وقال: "دعاء وجواد وجوري (أسماء أفراد عائلة المنتحر) أمانة في رقبتك. الأهم جوري، هي الغصّة، لكنني لم أعد قادراً على التحمّل، تعبت".
وبعد ثلاثة أيام، انتشر خبر انتحار الشاب الأربعيني حسين مروة الذي أنهى حياته بعيار ناري في كرم زيتون ببلدته الزرارية (جنوب)، بعدما ودّع زوجته لدى مغادرته المنزل، قائلاً: "رايح كزدر (أتنزه) شوي"، ثم اتصل بها لاحقاً لإلقاء تحيّة الوداع. ووفق ما جرى تداوله عانى مروة من مشكلات اقتصادية ومالية. 
وفي 5 مارس/ آذار الجاري، أنهى الشاب الثلاثيني محمد ابراهيم حياته بالرصاص في خراج بلدته الوردانية (جبل لبنان)، حيث أفادت معلومات أولية بأنّه واجه ديوناً مالية بقيمة 150 ألف دولار. 
وبعد أربعة أيام ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي برسالة وداع نشرها بيار صقر (62 عاماً)، على حسابه في "فيسبوك"، قبل أن ينتحر ببندقية صيد في أحد جرود بلدته زحلة (البقاع). وعزا بيار في رسالته سبب اتّخاذه قرار الانتحار إلى الضائقة الاقتصادية الخانقة التي يمرّ بها والتي أجبرته على إنهاء العمل في معمله قبل ثلاث سنوات، ومعاناته أيضاً من مشكلات صحية، كما طلب السماح من أفراد عائلته وأرفق الرسالة ببعض الوصايا. 

لا يمكن توقع مسار أعداد حالات الانتحار في السنة الحالية

وفيما لا يمكن توقّع مدى ارتفاع أو انخفاض حالات الانتحار خلال العام الجاري، لا سيّما أنّ السنوات الأخيرة شهدت انخفاضاً تدريجياً وصل إلى 138 عام 2022 بعدما كان 172 عام 2019 (عام بداية الأزمة)، لكنّ حوادث الانتحار المتكرّرة أغضبت روّاد مواقع التواصل الاجتماعي وأقلقتهم، وطرح بعضهم أسئلة عدة، بينها "كم شخصاً يجب أن ينتحر لإنشاء دولة تليق بأبنائها، ومَن المسؤول عن هذه الحوادث الأليمة التي تخطف شباناً في عمر الربيع؟". 

الصورة
ارتفعت حالات الانتحار في لبنان مع بداية 2023 (فاسيليس بولاريكاس/ Getty)
ارتفعت حالات الانتحار في لبنان مطلع 2023 (فاسيليس بولاريكاس/Getty)

وتوضح المعالجة النفسية والمشرفة على الخط الوطني الساخن للدعم النفسي والوقاية من الانتحار (خط الحياة) في جمعية "Embrace Lebanon"، سيفانا توباليان، في حديثها لـ"العربي الجديد"، أنّ "عدد حالات الانتحار لا يزال ذاته، حتى إنه انخفض في شكل ملموس. وسُجّلت 157 حالة عام 2018 و172 عام 2019، وهي النسبة الأعلى خلال السنوات الأخيرة، ثم انخفض عدد الحالات إلى 150 عام 2020، و145 عام 2021، و138 عام 2022. وتستند هذه الأرقام إلى إحصاءات قوى الأمن الداخلي، علماً أنّ هناك حالات غير مسجلة رسمياً، ويجرى التعتيم عليها لأسباب مجتمعية ودينية وأخرى تتعلق بوصمة العار".

وعن حالات الانتحار المتتالية الأخيرة تقول سيفانا: "لا يمكن أن نتوقّع إمكان ارتفاع أو انخفاض عدد الحالات هذه السنة، وذلك في انتظار تقرير نهاية العام، لكنّ واضح أنّ الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تشهدها البلاد تشكّل ضغطاً نفسيّاً ينعكس بشكل غير مباشر على الأشخاص الذين يعانون من أمراضٍ ومشكلات نفسية وحالات اكتئاب، إذ يتنامى لديهم الإحساس باليأس والعجز، ما يدفع بعضهم إلى الاكتئاب الحاد أو التفكير بالانتحار أو الإقدام عليه كوسيلة للتخلّص من آلامهم".
وتكشفت سيفانا أنّ "دراسات استندت إلى معطيات توفرت خلال الفترة بين عامي 2008 و2018 أشارت إلى أن شخصاً واحداً في لبنان يُفكر كل ست ساعات بإنهاء حياته، وقد يحاول الانتحار، وأن شخصاً واحداً ينتحر كلّ يومين ونصف اليوم، وهذه النسبة باتت نحو 3 أيام حالياً". 

الصورة
يتبدّد أمل اللبنانيين بحلحلة قريبة (محمود زيات/ فرانس برس)
يتبدّد أمل اللبنانيين بحلحلة قريبة (محمود زيات/ فرانس برس)

وتنبّه إلى "أهميّة الإلمام بكيفيّة طرح قضايا الانتحار عبر وسائل الإعلام، إذ إنّ تداولها بطريقة خاطئة يثير الذعر، ما قد ينعكس على من يعانون من اضطرابات نفسية وحالات اكتئاب والذين قد يقدمون على الانتحار أو يصلون إلى مرحلة الاكتئاب الحاد".
وأشارت إلى أنّ "الرجال معرّضون أكثر من النساء لفكرة الانتحار، علماً أنّ النساء ينفذن محاولات أكثر، لكن الرجال ينفذون محاولة انتحار كاملة، بينما تلجأ المرأة إلى وسائل غير مؤذية، لذا ركّزنا هذه السنة على تعزيز الصحة النفسية للرجال لحثّهم على التواصل وطلب المساعدة والاستشارة في حال وجود أيّ أفكار انتحارية أو هواجس تستدعي الدعم النفسي". 

يتنامى لدى المنتحرين الإحساس بالعجز ويواجهون الاكتئاب

تتابع: "نسعى منذ عام 2017 إلى التوعية حول الصحة النفسية والوقاية من الانتحار. ويردنا شهرياً بين 1000 و1200 اتصال، لكن ليس كلّ متصل تراوده أفكار بالانتحار فبعضهم يرغبون في الحديث عن مشكلاتهم وتلقّي الاستشارة أو الحصول على أرقام معالجين واختصاصيّين نفسيّين. لكن معظم المتّصلين في صراع مع أفكار انتحار قد تكون ناشطة على صعيد التفكير بوسيلة تنفيذ، أو غير ناشطة، وبالتالي يحتاج معظمهم إلى دعم نفسي. وبعض الأشخاص لديهم أفكار انتحاريّة لكنّهم لا يتواصلون معنا".
وكشف مركز "Embrace" للصحة النفسية عبر موقعه الإلكتروني أنّه تلقّى 12481 اتصالاً على "خط الحياة" 1564 خلال عام 2022 الماضي، وأنه قدّم 380 استشارة نفسيّة مجانيّة لـ165 مستفيداً خلال يناير/ كانون الثاني 2023 فقط، وأن 61 في المائة من بين هؤلاء قالوا إنهم عاطلون عن العمل، و39 في المائة صرحوا بأنّهم لا يملكون أيّ مصدر دخل.

وفي سبتمبر/ أيلول 2022، أطلقت جمعية "Embrace Lebanon"، بدعم من منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" وبتمويل من حكومة هولندا، مشروعاً بعنوان "دعم وبناء قدرات المراهقين والشباب في الصحة النفسية"، استجابة "لما يشهده الشباب في لبنان من صراعات محلية مستمرة وحالات عدم اليقين، والأزمات الاجتماعية والاقتصادية الحادّة التي تؤثر في حياتهم ومستقبلهم، فمواجهة الضغوط اليومية تعرّضهم بشكل كبير لخطر الضيق العاطفي والأمراض النفسية".
إلى ذلك، خلصت شركة "الدولية للمعلومات" التي تجري دراسات وأبحاثاً وإحصاءات علمية مستقلة، في تقرير أصدرته في الثاني من مارس/ آذار الجاري، إلى أنّ "الأيام والأسابيع الأخيرة شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حوادث الانتحار المسجّلة رسمياً، ما أعطى انطباعاً بارتفاع عدد هذه الحوادث مقارنة بالفترة السابقة، في وقت تشير أرقام حوادث الانتحار في السنوات الأخيرة إلى عكس ذلك، إذ تراجعت عام 2022 مقارنة بعام 2021، ووصل متوسّط حوادث الانتحار سنوياً بين عامي 2013 و2022 إلى 143، وكان أكبرها 172 عام 2019، وأقلّها 111 عام 2013. ولو اعتمد عام 2011 كقاعدة انطلاق لتبيّن أن معدّل ارتفاع عدد حوادث الانتحار المسجّلة رسمياً ارتفع 32 في المائة خلال السنوات التسع الأخيرة (2014- 2022)". 
ويقول الباحث في "الدولية للمعلومات"، محمد شمس الدين، لـ"العربي الجديد": "ارتفعت أعداد حالات الانتحار مع بداية السنة الحالية، لكنّنا لا نعلم إلى أين ستتّجه الأمور".

المساهمون