يتوجه محمد عواد وزوجته خيرة صباح كل يوم إلى أعالي جبال منطقة مراد جنوبي محافظة تيبازة بالجزائر، من أجل جمع كميات من الأعشاب البرية التي تستخدم كمواد أولية في صنع الزيوت العطرية والأساسية والطبية، مثل الخزامى والضرو والإكليل والسنارية. وهما ينقلان ما يجمعان إلى ورشة أسساها قبل ثلاث سنوات، وعرفت منتجاتها شهرة كبيرة في المنطقة، وبات يشتريها مرضى لاستخدامها أدوية طبيعية في علاجات عدة.
يقول عواد لـ"العربي الجديد": "جعلني تخصصي كمهندس زراعي أملك ميولاً كبيرة للطبيعة، فكنت أحضر وأشارك في معارض وملتقيات علمية زراعية عدة، حيث انجذبت إلى التطور في مجال استخراج الزيوت العطرية وصنع المواد الطبية في دول سبقت الجزائر بأشواط كثيرة، وجلبت أرباحاً كثيرة للناشطين في المجال. وهكذا قررت تأسيس مشروع، وهو ما عززه تعرّفي إلى مستثمر في الجزائر العاصمة نصحني بخوض التجربة، فوضعنا الفكرة قيد التنفيذ قبل أن تكبر يوماً بعد يوم، ما جعلنا نفكر بإنشاء مؤسسة صغيرة، ونقصد بالتالي الدولة للحصول على دعم توفر لزوجتي تحديداً المتخصصة في التقنيات الزراعية. وسمح ذلك بأن نجلب المعدات والمعادن اللازمة لتحضير الأعشاب وعصرها وتعبئتها في قوارير تمهيداً لتوزيعها عبر شبكة زبائن تشكلت من علاقات منذ مرحلة إنشاء الورشة".
يضيف: "يمنح الطابع الزراعي المتنوع للمنطقة الدافع المطلوب للبحث عن نباتات يكثر طلبها والإقبال على شرائها. وقد اجتهدنا في البحث عبر شبكة الإنترنت، وتبادل الخبرات مع متخصصين ومشاركين في نشاطات مختلفة، فاستطعنا توسيع معارفنا حول النباتات، وأساليب استخراج الزيوت، والأوقات المناسبة لجمعها من الغابات".
جذب الشباب
ولم تتوقف طموحات الزوجين عند إنشاء الورشة وجني الأموال، إذ حاولا تطوير المعرفة بالمنطقة والتعريف بها، وإقناع طلاب جامعيين كثيرين، خاصة أولئك المتخصصين في العلوم الطبيعية والكيمياء والبيولوجيا، بالالتحاق في المجال والاستثمار فيه للإفادة من فرص جلبه مستقبلاً مهنياً مزدهراً لهم على الصعيدين المحلي والدولي. و"فتحنا أبواب مؤسستنا لتعليم الشباب، وإطلاعهم على تخصص في مجال ما زال خاماً، ويوفر في الوقت ذاته أرباحاً جيدة تسمح لهم بالابتعاد عن الوظائف العادية التي لا تغني ولا تسمن من جوع".
وعملياً، يواجه الزوجان محمد وخيرة تحديات كبيرة، بدءاً بالانتقال إلى أعالي الجبال يومياً في ظل ظروف مناخية تكون قاسية أحياناً وسط الطرقات والأحراش الوعرة، للوصول إلى النباتات العطرية والطبية الأكثر ثمناً وإفادة. ويضاف إلى ذلك تحدي إقناع الجزائريين باستعمال الأدوية الطبيعية البديلة مرتفعة الثمن، ومواجهة كل مستثمر شاب البيروقراطية، كون هذه المشاريع لا تحظى بالتسهيلات الادارية والمتابعة اللازمة من الدولة، رغم أنها قد تقلل من البطالة.
ويقول عواد: "نعمل أيضاً لإرساء ثقافة المشاريع والمؤسسات التي لا تتطلب ميزانيات كبيرة، وتخصيص أماكن واسعة لاستضافة أعمالها. ونعتقد بأن مستقبل الزيوت الأساسية والنباتية في الجزائر واعد، وأنه ما زال في مراحله الأولى".
يضيف: "نسعى إلى توسيع المشروع، وخلق فرص عمل للشباب، علماً أن وحدة عمل صغيرة قد تشغّل 3 أشخاص بطريقة مباشرة، وأكثر من 15 شخصاً بطريقة غير مباشرة، والتنوع النباتي والغابي في الجزائر يعطي دفعاً كبيراً للاستثمار في المجال".
مصنع في غابة
وعلى غرار محمد وزوجته، ينطلق إسماعيل قاسم صباح كل يوم إلى أعالي محافظة البليدة جنوبي الجزائر العاصمة، ويسير وسط الأحراش والمسارات الجبلية للبحث عن نباتات الغابات وقطفها، مثل الخزامى والضرو، تمهيداً لاستخلاص الزيوت العطرية والمواد الطبية منها. ويشرح، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "هواية الزراعة التي عشقتها بفضل الطبيعة التي تحيط ببيتي تحوّلت إلى عمل ونشاط تجاري دفعني إلى البحث عن أهم الطرق والآلات المستعملة في استخراج الزيوت. واشتريت آلة صغيرة أنقلها يومياً إلى الغابة لتنفيذ مهمة العصر في المكان ذاته، بعد جمع النباتات مباشرة، كي تحافظ على تركيبتها الأساسية".
وجعلت 10 سنوات كاملة من العمل في المجال إسماعيل أحد المتخصصين البارزين في المهنة الذين يملكون خبرات كبيرة في تحويل النباتات الطبيعية إلى أدوية وزيوت تستعمل في علاج مختلف الأمراض. وهو يكثّف خلال فصل الربيع نشاطه مع تفتح أزهار نبات الخزامى وأخرى مختلفة، ما يتطلب تمضيته ساعات طويلة في القطف، علماً أنه يحتاج إلى 100 كيلوغرام من النباتات لاستخلاص كمية قليلة من الزيوت، في عملية مرهقة جداً. ويؤكد أنّ "المناخ الخاص والمتنوع في الجزائر يعزز تكوين النباتات العطرية تركيبات غنية تستفيد أيضاً من نقص التلوّث، خاصة في مناطق الغابات المرتفعة". وفي مرحلة التقطير، يستعمل إسماعيل آلة ينقلها إلى المكان ذاته لتنفيذ عملية الغلي بدرجة حرارة معينة، ثم يضع قارورة لتعبئة الزيت المقطّر".
ميزات المناطق
يقول الخبير الاقتصادي والمتخصص في مجال الزيوت الأساسية والعطرية فارس مسدور لـ"العربي الجديد" إنّ "الوقت حان لإنشاء ديوان وطني للنباتات الطبية والعطرية والزيوت الأساسية لتولي مهمة التعريف بكل الزيوت والنباتات وخصائصها ومكوناتها على المستويين الوطني والدولي، ويعمل لجلب امتيازات للمستثمرين والمزارعين في مجالات الجباية والجمارك، في سبيل تطوير المهنة، وتنظيمها، ومساعدتها في اقتحام الأسواق المحلية والدولية، علماً أن دول الاتحاد الأوروبي تعاني من عجز بنصف مليون ليتر في كميات الزيوت الأساسية. وسيوفر ذلك أيضاً فرص عمل كثيرة تشمل جمع النباتات وعصرها وصنعها وتوزيعها، علماً أن مناطق كثيرة في الجزائر تتميز بتنوعها النباتي قد تتخصص في المجال. وتشتهر مناطق بعشبتي العطرشة والخزامى اللتين تعتبران من الأغنى بالزيوت في العالم، ووردة المنيعة التي تقابلها وردة دمشق التي تستعمل في إنتاج أغلى العطور في العالم".
يضيف: "أهملت مهنة إنتاج الزيوت العطرية والمواد العشبية الطبية كثيراً، رغم أن الجزائر كانت رائدة في المجال خلا زمن الاستعمار الفرنسي، وكانت تصدّر الكثير من الزيوت والعطور إلى أوروبا خصوصاً. والتركيبات التي تتميز بها الأعشاب الموجودة في الجزائر تختلف كثيراً عن تلك في أوروبا، خصوصاً في مناطق المتيجة وشفة وبوفاريك والمنيعة بالصحراء الجزائرية.