مسنو الصين.. البحث عن شريك حياة بعد الستين

17 ديسمبر 2022
البحث عن شريك حياة لا يرتبط بعمر (Getty)
+ الخط -

يصف سكان بكين حديقة "تشانغ بو خه" بأنها مقصد "الجيل الضائع" للعثور على الألفة والحب المفقود، إذ توفر منصة للتواصل والتعارف بين الجنسين، وسبل تتويج التفاهم بالزواج.

تقع الحديقة بمنطقة دونغ تشنغ في العاصمة الصينية، ويجتمع فيها عشرات المسنين صباح كل ثلاثاء، بحثاً عن شريك يؤنس الوحدة، ويتبادل الرعاية. تشتهر الحديقة بأنها ملتقى من فاتهم قطار الزواج، أو فشلوا في زيجاتهم الأولى، لإيجاد شريك حياة، وتتراوح الأعمار ما بين 40 إلى 80 سنة، وجل الباحثين من الأرامل والمطلقين.
يقول باحثون إن جيل المتقاعدين الذين ولدوا بين 1950إلى 1960، كان شاهداً على تحولات اجتماعية وسياسية كبيرة في البلاد، وكان جزءاً منها، لذلك لم يستمتع بشبابه، ومع مرور الوقت، وصعود الصين كقوة اقتصادية عظمى، وجد نفسه على الهامش، لذا فهم يستحقون فرصة ثانية للبحث عن شركاء جدد، وإن في سن متأخرة.
تشو مينغ، مسن صيني يقيم في منطقة دونغ تشنغ بالعاصمة بكين، يقول لـ"العربي الجديد": تقاعدت قبل 15 عاماً، وأقيم وحدي في بيت صغير (إيجار حكومي للمتقاعدين)، وقد زوّجت جميع أبنائي، وربّيت أحفادي، وبإمكانهم الآن الاعتماد على أنفسهم، لذا قررت قبل عامين أن ألتفت إلى نفسي قبل أن يفوتني قطار الحياة. زوجتي توفيت قبل ست سنوات، ومنذ ذلك الحين أشعر بوحدة قاتلة. منذ فترة، علمت عن طريق أحد الأصدقاء بأمر الحديقة، وأنها ركن للتعارف بين المسنين من الجنسين، فأردت أن أجرب حظي، فمن هم مثلي لا يمكنهم استعمال وسائل التواصل الاجتماعي للتعارف، كما أن ذلك يعتبر تجاوزاً أخلاقياً في أعمارنا، لذلك شعرت أن التعارف في مثل هذه الأماكن هو الخيار الأمثل، وبت أتردد على الحديقة كل يوم ثلاثاء، لأنها تبعد عن بيتي نحو ثلاثة كيلومترات فقط".
ويضيف: "لم أوفّق حتى الآن في العثور على زوجة، فالخيارات محدودة، وهناك اشتراطات لا تناسبني، مثل أن يكون لدي شقة أملكها، ورصيد محدد في البنك. لا أشعر أن الأمر مضيعة للوقت، فهناك أقابل الكثير من الأصدقاء، بعضهم وجد شريكة حياة، وآخرون مثلي يعيشون على الأمل".
وعن طبيعة النساء اللواتي يتواجدن في الحديقة، أوضح تشو مينغ، أن معظمهن من الأرامل أو المطلقات، وبعضهن يتمتعن بمظهر حسن بالرغم من تقدمهن في السن، "لكن شروطهن لا تبدو بسيطة، مما يشير إلى أنهن لسن على عجلة من أمرهن، على خلاف المسنين الذكور الذين تقتلهم الوحدة، والرغبة في معاشرة الجنس الآخر".
من جهته، قال يو جين، وهو موظف سابق في المجلس البلدي لمنطقة دونغ تشنغ، إن حديقة تشانغ بو خه، عُرفت منذ مطلع الألفية الثانية كمكان للتعارف بين المتقاعدين، وذلك بعد تنظيم فعالية اجتماعية للتوفيق بين الجنسين في ظل ارتفاع معدلات الطلاق آنذاك.

الصورة
فعاليات تعارف المسنين شائعة في الصين (Getty)
فعاليات تعارف المسنين شائعة في الصين (Getty)

ويضيف لـ "العربي الجديد": "دأب الرجال والنساء على تكرار هذه الأنشطة بطريقة عفوية، وفيما بعد تم تخصيص يوم الثلاثاء لهذه المهمة، إذ يتوافد مسنون من جميع ضواحي العاصمة لحضور اللقاءات التي تأخذ شكل المقابلات الشخصية، ففي كل ركن من الحديقة تجد امرأة يجتمع حولها عدة رجال يسألون عن عمرها، وتسألهم عن حالتهم الاجتماعية، ومقدرتهم المادية، وبين ركن وآخر تسمع صوت الضحكات وتبادل المزاح، وقد تنفض الجلسة بلعب الورق، أو الرقص الجماعي على أنغام الأغنيات التراثية".
وعن عدد الذين يترددون على الحديقة في كل أسبوع لهذا الغرض، يقول يو جين: "في فصلي الربيع والصيف يصل العدد إلى 500 شخص، بينما لا تتجاوز الأعداد العشرات في الشتاء نظراً لأجواء بكين الباردة".
وتقول الباحثة الاجتماعية لان جو يان، لـ"العربي الجديد": "لاشك أن هناك عوامل عدة تدفع في هذا الاتجاه، مثل ارتفاع معدلات الطلاق، وتقبل المجتمع لفكرة المواعدة التي كان ينظر إليها في السابق على أنها سلوك رأسمالي، بالإضافة إلى نمط الحياة الصناعي الذي أنهك المسنين في تربية الأحفاد، وجعلهم لا يلتقطون أنفاسهم إلا بعد الستين. لذا يبدو الأمر أشبه بهدنة مع النفس بعد سنوات من الكفاح من أجل تأمين مستقبل الأبناء والأحفاد".

وعن الظروف الاجتماعية والنفسية لهذه الفئة من المجتمع، لفتت الباحثة الصينية، إلى أن معظم جيل المسنين عاصروا أحداثاً تاريخية هامة، في مقدمتها القفزة الكبرى إلى الإمام، مثل تحول البلاد من الزراعة إلى الصناعة في خمسينيات القرن الماضي، وما ترتب على ذلك من آفات اجتماعية، وتلا ذلك أحداث الثورة الثقافية في منتصف الستينيات، وهي أحداث تسببت بصورة متلاحقة في أذى نفسي كبير لجيل كامل فقد حظوظه في التعليم وكرامة العيش، فأجهضت الأحلام، ووأدت الطموحات في ذروة الشباب والرشد.
وتضيف أن "معظم أفراد هذا الجيل أجبروا على الزواج في الريف حين كانوا مجرد فلاحين يعملون بالسخرة، وربما لم يلتقطوا أنفاسهم إلا في العقود التي تلت عصر الانفتاح، وإن كان نمط الحياة قد حمّلهم أعباء جديدة لها علاقة بتربية أبناء جيل الطفل الواحد. أما الآن وقد فرغت جعبتهم من الأحمال، فقد قرروا الإلتفات إلى أنفسهم عبر البحث عن النصف المفقود منذ أكثر من نصف قرن".

المساهمون