يحاول الجنود والمستوطنون الإسرائيليون، إذ يطلقون النار على الفلسطينيين، التسبب بأكبر ضرر ممكن وصولاً إلى القتل، لكنّ بعض سكان قرى مسافر يطا صمدوا رغم تلك الإصابات التي يعانون من آثارها
ثمن البقاء في منطقة يسعى الاحتلال الإسرائيلي بقوة للاستيلاء عليها وطرد سكانها منها، مثل مسافر يطا، جنوبي الخليل، إلى الجنوب من الضفة الغربية، في فلسطين المحتلة، غالٍ وصعب، فإن لم يكن الموت، فهو إصابة مزمنة، يدفع الفلسطيني في مسافر يطا، فاتورتها من عمره وصحته، آلاماً وحسرةً، فوق تحمله آلاماً أخرى من هدم وترحيل وملاحقة يومية وتهميش وانفراد في التصدي.
"سكان مسافر يطا متروكون وحدهم ليواجهوا إصاباتهم الخطيرة"، كما يقول رئيس المجلس القروي للمنطقة التي تضمّ 35 قرية، نضال يونس، الذي رافق "العربي الجديد" إلى قرى المسافر. يتابع: "هناك ثلاثة أشكال من تلك الإصابات القاتلة، أولها إصابات مباشرة بالرصاص على يد جنود الاحتلال والمستوطنين، وثانيها الاعتداءات الجسدية المباشرة من المستوطنين، وثالثها مخلفات جيش الاحتلال".
أمعاء بلاستيكية
أخطر أشكال الإصابات والأكثر قُرباً للموت "إصابة مباشرة بالرصاص على يد جنود الاحتلال أو المستوطنين"، كما حصل مع الشاب هارون أبو عرام (23 عاماً) في أول أيام العام الجديد، حين حاول منع قوات الاحتلال من مصادرة مولد كهربائي، يضطر السكان لشرائه، بسبب رفض الاحتلال تمديد شبكة كهرباء لاثنتين وعشرين قرية وخربة من مسافر يطا، فأطلق أحد الجنود النار عليه من المسافة صفر (أقرب مسافة ممكنة)، ليتركه مع شلل رباعي. يوضح يونس وهو يقود بصعوبة مركبته في طريق ترابية وعرة إلى المسافر: "فقد هارون قدرته على الكلام، ويرجح الأطباء عدم قدرته على تناول الطعام أيضاً بصورة طبيعية، نظراً لتمزق أعصاب الجهاز الهضمي، وأغلب أعصاب الجسم، وضعه صعب، ولا يقدر على تحريك أيّ عضو في جسمه سوى عينيه، وما زال يرقد في أحد مستشفيات مدينة الخليل".
وما حصل مع هارون حصل مع خالد موسى النجار (67 عاماً)، من مسافر يطا، الذي يعيش من دون أمعاء منذ إصابته قبل نحو عشرين عاماً، إذ اضطر الأطباء لزرع أمعاء بلاستيكية له. لا يُعاني النجار من آلامٍ في الأمعاء أو مشاكل طبيعيةٍ في الهضم، لأنّه لا يملك أمعاءً في جسده أساساً، بسبب رصاصةٍ مُتفجرة "دُمدم" أطلقها عليه أحد مستوطني مستوطنة "متسافي يائير" فكادت تودي بحياته، وذلك في الثالث من سبتمبر/ أيلول عام 2001، أثناء رعيه الأغنام بالقرب من منزله الواقع في خربة قواويس، أولى قرى المسافر من جهة مدينة يطا.
يقول النجار لـ"العربي الجديد": "كدت أفقد حياتي بسبب الإصابة. حُملت على إحدى الدواب بعد الإصابة لمسافة ثلاثة كيلومترات حتى الوصول إلى شارعٍ معبّد - وهو شارع 60 للمستوطنين- ثم تولى الاحتلال مُجبراً نقلي إلى مستشفى سوروكا في مدينة بئر السبع القريبة". يتابع الرجل بمرارةٍ مكبوتة: "ربما أجريت ست أو سبع عمليات، وأمضيت سبعة أشهر وعشرة أيام في المستشفيات؛ منها في بئر السبع ومنها في الأردن، وأربعة أشهر في المستشفيات العراقية التي زرع لي أطباؤها أمعاءً بلاستيكية بدل ما فقدتها".
يقف المصاب خالد النجار ليكشف عن بطنه، ليكون المشهد قاسياً بشكلٍ غريب للبطن الذي يحمل أمعاءً بلاستيكية، وظهرت على نسيجه الخارجي علامات الترهل والخياطة الجراحية المتعددة، عدا عن انتفاخ البطن وربما تجمع الأمعاء الصناعية في مقدمها، وقبل أن يرخي ثيابه على بطنه من جديد يقول النجار: "والله، لا أتمكن من أكل بيضة واحدة خلال النهار".
تجلس زوجة النجار، وضحة، إلى جانبه لتخبر "العربي الجديد" عن قسوة حياة زوجها منذ الإصابة وألمها على حاله: "ماذا أخبرك؟! يتسابق المستوطنون للاعتداء علينا، بينما نسابق الحياة لنستمر، أما زوجي فيا ويلي عليه، أحياناً تتوقف أمعاؤه البلاستيكية عن العمل، وعندها نستعين بتناوله الحليب والمشروبات الغازية، وفي هذه الحالة لا يستطيع تناول الطعام ويبقى متألماً، وعندما تعود الأمعاء للعمل لا يأكل غير القليل من الطعام".
ثوانٍ تفصله عن الموت
ثوانٍ خطيرة كانت تفصل المُسنّ زياد مخامرة (63 عاماً) من خربة بير العيد، التي يصمد فيها وحيداً مع عائلته الصغيرة، بعدما كانت تضم اثنتي عشرة عائلة، عن الموت المُحتمل، عام 1986، خلال عملية الترحيل الجماعية والقسرية التي تعرض لها سكان المسافر منذ بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي. أطلق أحد جنود الاحتلال النار على مخامرة في الثالث عشر من فبراير/ شباط من ذلك العام، من مسافة قريبة، ليفقده القدرة على الحديث بصوت واضح أو مسموع، فقد نجا من الموت، لكنّ ثلاثة أعصاب تخصّ الصوت والبلع وقضم الطعام قُطعت، وعاش مخامرة أكثر من عام من دون التكلم أو القدرة على تناول الطعام. يقول مخامرة لـ"العربي الجديد": "حين أطلق أحد جنود الاحتلال الرصاص على وجهي، أصابت رصاصة أسفل عيني اليمنى، لتستقر في إحدى فقرات رقبتي، وتعرضت حينها لنزيف حاد في الرئة، كاد يُفقدني حياتي، لأنقل إلى مستشفى سوروكا الإسرائيلي في حالةٍ خطيرة على متن هليكوبتر، فأنعشني الفريق الطبي خلال نقلي. بسبب الإصابة تراجعت مناعتي كثيراً، وفقدت صوتي بنسبة كبيرة، ولم تعد حياتي كما كانت من قبل". بوهن، يتنقل مخامرة وحيداً، في منزل فقير البنية والحال، كما أراده الاحتلال، وذلك بعدما غادرت زوجته لجلب حاجيات المنزل من سوق مدينة يطا على بعد ساعة تقريباً، وغادر أبناؤه إلى العمل في مدينة يطا، وهم ثلاثة. أما البقية، وهم أربعة ما بين إناث وذكور، فقد تزوجوا واستقروا خارج المسافر، بسبب منع الاحتلال البناء. يقول مخامرة: "أراجع الطبيب كثيراً من دون أن يكون لديّ تأمين صحي، كما لم يسأل أحد عني وعن حالتي الصحية. لديّ مشاكل صحية كثيرة، وإذا أصبت بإنفلونزا أو زكام لا أتمكن من مغادرة الفراش".
الشكل الثاني للإصابات شبه القاتلة، أساسه اعتداء المستوطنين على سكان مسافر يطا، خصوصاً المزارعين والرعاة والانفراد بهم بعد ملاحقتهم ورصد تحركاتهم في بعض الأحيان، مثلما حصل مع الناشط والمزارع، جمعة ربعي، من قرية التوانة، حين لاحقه مستوطنو مستوطنتي "ماعون" و"هفات ماعون" المقامتين على أراضي المسافر، وحطموا عظام ساقه اليسرى بالحجارة، ثم أوقعوه من ارتفاع، وذلك في ربيع العام 2018، وكاد أحد المستوطنين يطلق رصاصة الموت على ربعي، لكنّه نجا من موتٍ مُحقق، ليكمل حياته بإعاقة حركية سفلية.
ويتفنّن المستوطنون في تسع مستوطنات تجثم على أراضي مسافر يطا، في عدائهم للفلسطينيين ومهاجمتهم يومياً، ولجعل إصابتهم قاتلة. من ذلك أنّهم يلاحقون الرُعاة بكلابٍ متوحشة، ويترصدون سكان المسافر في أماكن ينقطع عنها السكان، والمزارعين في المواسم الزراعية وحراثة الأرض، بحسب رئيس المجلس القروي للمنطقة، نضال يونس. يؤكد أنّ المستوطنين شكلوا في السنوات الأخيرة مجموعات أشبه بالعصابات لمهاجمة السكان، جنوبي الخليل، كما يستخدمون مركباتهم لدهس السكان ودهس الأغنام، وإن كانت بعض هذه الحوادث غير واضحة، إذ جرى تصنيفها حوادث سير غير متعمدة. كذلك، يُكرر المستوطنون، اعتداءاتهم حتى على الشخص الذي اعتدوا عليه سابقاً، إذ يؤكد زياد مخامرة وخالد النجار تعرضهما للاعتداء أكثر من مرة، حتى بعد إصابتهما، وعلى الرغم من ذلك يحاولان مواصلة حياتهما، بتربية المواشي ومواصلة الرعي بشكل محدود بسبب الإصابة.
مخلفات قاتلة
تُخبئ أرض مسافر يطا النوع الثالث من الإصابات المقصود بها القتل، وهي مخلفات الاحتلال وتدريباته العسكرية، التي تهدد حياة الرُعاة وأغلبهم فتية وشبان تتراوح أعمارهم بين 15 و20 عاماً، بحسب يونس. يقول لـ"العربي الجديد": "مخلفات جيش الاحتلال قتلت ما لا يقل عن عشرة رعاة، وأصابت ما لا يقل عن ثلاثين شخصاً، منهم قرابة 15 إصابة (تقريبية) أدت لبتر أطراف، وذلك من إجمالي عدد سكان يصل إلى ألفي نسمة، منذ احتلال المسافر عام 1967". وتنقسم مخلفات جيش الاحتلال التي يصاب بها أهالي المسافر بين قذائف الطائرات والمدفعية، لكنّ أخطرها قذائف الطائرات فهي شديدة الانفجار، ومن تكتب له النجاة من المخلفات قد يفقد طرفاً من جسده.
ويعيش سكان مسافر يطا حياةً صعبة، لا يقوى على احتمالها كُثر، منها منع الاحتلال تمديد شبكات الكهرباء والمياه لكثير من المناطق، وانقطاع خدمة الإنترنت، ومنع البناء، إذ يعيش أغلب السكان في منازل أو غرف قديمة جرى ترميمها وإلحاقها بسقف من الصفيح، أو خيمة تضاف إليها أغطية البلاستيك، وعلى الرغم من ذلك، فإنّ جميعها مهددة بالهدم والمصادرة في أيّ لحظة.
ويؤكد المصابون الذين تحدثت "العربي الجديد" إليهم، عدم تلقيهم الاهتمام الطبي من الجهات الرسمية الفلسطينية، كما أنّهم لا يملكون تأميناً صحياً من وزارة الصحة الفلسطينية، ولا يتفقدهم المسؤولون في زياراتهم الميدانية، ومن يحضر يلتقط صوراً مع سكان المسافر، ثم يغيب من دون تقديم الخدمات. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الأهالي يؤكدون أنّ الطرقات الواصلة بين قرى المسافر وعرة، ويستخدم بعض السكان المركبات غير الحديثة أو المؤهلة للتنقل، ما قد يعرضهم للخطر المضاعف، علماً أنّ بعض قرى المسافر بعيدة عن بعضها، فمن يتعرض لإصابة قد تستغرق عملية نقله إلى المستشفى ساعات.