يحكي الشاب المغربي عبد المنعم عن شقيقه بحسرة، بعدما يقارب الشهر على مغادرته بيت العائلة في مدينة العطاوية بإقليم قلعة السراغنة (وسط)، سعياً للوصول إلى "الفردوس الأوروبي"، وهو يشعر بالقلق بشأن مصير شقيقه المجهول منذ غادر سواحل مدينة أكادير، في 11 يونيو/ حزيران الماضي، على أمل الوصول إلى جزر الكناري، الأرخبيل الواقع في المحيط الأطلسي التابع للسيادة الإسبانية.
ولم تكشف السلطات المغربية أو الإسبانية عن مصير نحو 50 مهاجراً سرياً، من بينهم شقيق عبد المنعم، والذين ما زالوا في عداد المفقودين بعد محاولتهم الهجرة إلى أوروبا عبر مسار جزر الكناري. يقول لـ"العربي الجديد: "نعيش مأساة يومية منذ انقطاع أخباره، فلا تفاصيل متوفرة لدينا عن مصيره، وآخر اتصال أجريناه معه كان في ليلة السبت 10 يونيو الماضي، وحينها أخبرنا بشكل مفاجئ أنه متوجه عبر قارب للهجرة السرية إلى جزر الكناري".
ويلفت الشاب المغربي إلى أن العائلة علمت لاحقاً أن عصابة من مهربي البشر طلبوا من المهاجرين المفقودين الالتقاء في مدينة أكادير بقصد الهجرة عبر قارب خشبي إلى جزر الكناري، بعد أن دفع كل منهم مبلغاً يفوق 40 ألف درهم (نحو 4 آلاف دولار)، لكن فقد أثرهم جميعاً.
ليس الأمر مقصوراً على المغرب، إذ كشفت منظمة "ووكنغ بوردرز" لإغاثة المهاجرين، الأحد، أنّ 300 شخص على الأقل كانوا يبحرون من السنغال إلى جزر الكناري خلال الأسبوعين الأخيرين، على متن ثلاثة قوارب للهجرة، باتوا في عداد المفقودين، وأنّ عائلاتهم لم يسمعوا أخباراً عنهم منذ مغادرتهم.
سجل مسار جزر الكناري وفاة 1800 مهاجر سري خلال عام 2022
وتغيرت خلال السنوات الأخيرة، نقاط انطلاق قوارب المهاجرين السريين الحالمين ببلوغ القارة الأوروبية، فبات الكثير منها ينطلق باتجاه جزر الكناري التي تبعد نحو 60 كيلومتراً فقط عن السواحل المغربية، عوضاً عن سواحل البحر المتوسط، أو مدينتي سبتة ومليلية، كما حلت القوارب المطاطية السريعة محل المراكب الخشبية البالية.
على الرغم من تراجع أعداد المهاجرين السريين الذين تمكنوا من بلوغ الشواطئ الإسبانية في عام 2022، بنسبة تصل إلى 23 في المائة، فإن نسبة المهاجرين المنطلقين من المغرب بينهم ارتفعت إلى 85 في المائة، وبلغ عدد المهاجرين الواصلين إلى جزر الكناري من المغرب وبلدان شمال غربي أفريقيا خلال العام الماضي أكثر من 15 ألف مهاجر.
وبحسب تقرير صادر عن منظمة كاميناندو فرونتيراس الإسبانية (غير حكومية)، في ديسمبر/ كانون الأول 2022، فقد قضى أو فقد أكثر من 12 ألف مهاجر منذ عام 2018، أثناء محاولاتهم الوصول إلى إسبانيا انطلاقاً من سواحل المغرب، وشهد الطريق بين الساحل الشمالي الغربي لقارة أفريقيا وجزر الكناري وحده مصرع 7692 مهاجراً.
وغالباً ما تتسبب محاولات الهجرة السرية من سواحل المغرب الجنوبية نحو جزر الكناري، في مآس إنسانية، إذ يلقى واحد من أصل 24 مهاجراً حتفه على هذه الطريق، بحسب أرقام منظمة الهجرة الدولية، ما يجعل مسار الكناري أحد أخطر طرق الهجرة السرية.
وعلى امتداد السنوات الماضية، سجلت عشرات المآسي التي تسببت فيها "قوارب الموت" المنطلقة من سواحل المغرب الجنوبية باتجاه جزر الكناري، وأحدثها تلك التي قضى فيها 11 مهاجراً في إبريل/ نيسان الماضي، بعد غرق قاربهم المتهالك قبالة الشاطئ الأبيض بالقرب من مدينة كلميم (جنوب).
وفي السياق، يقول رئيس مرصد التواصل والهجرة بأمستردام، جمال الدين ريان، لـ"العربي الجديد "، إن "تحول مسار قوارب الموت إلى السواحل الجنوبية المغربية في اتجاه الجزر الإسبانية، يرجع إلى تشديد السلطات المراقبة على السواحل الشمالية، ودور (الدركي) الذي أصبحت تلعبه ليبيا في مواجهة تدفق المهاجرين الراغبين في الوصول إلى سواحل إيطاليا"، موضحاً أن "تجار البشر أصبحوا يختارون المحيط الأطلسي رغم كل مخاطره للوصول إلى جزر الكناري التابعة لإسبانيا، ومن هناك إلى القارة الأوربية، علماً أن تلك الجزر أصبحت وجهة مفضلة للمهاجرين من جنوب الصحراء الذين لا يكترثون لمخاطر عبور المحيط".
بدوره، يلفت رئيس جمعية الريف لحقوق الإنسان، شكيب الخياري، إلى أن هناك العديد من العوامل التي ساهمت في تغيير المسارات التي يسلكها المهاجرون السريون للوصول إلى أوروبا، من شمال المغرب إلى جنوبه، ومن أبرزها تعزيز الإجراءات الأمنية على طول مسارات الهجرة التقليدية في السواحل الشمالية، والتي أصبحت أكثر صعوبة بالنسبة للمهاجرين، ما دفعهم إلى البحث عن مسارات جديدة أقل مراقبة، ومن بينها مسار جزر الكناري الذي يجذب المهاجرين بشكل خاص بسبب قربه النسبي من سواحل القارة الأفريقية مقارنة مع مسارات البحر المتوسط.
يضيف الخياري في حديثه لـ"العربي الجديد": "طريق جزر الكناري يعتبر أقل خطورة مقارنة بعبور البحر المتوسط الذي بات مقبرة جماعية للمهاجرين، فعدد الوفيات في طريق الكناري منذ عام 2014 لا يتجاوز 18 في المائة من إجمالي عدد الوفيات في طرق غربي ووسط المتوسط، لكن طريق الكناري لا يمكن أيضاً الاستهانة بخطورته، ففي عام 2022، تم تسجيل حصيلة بلغت 1800 وفاة".
ويرى رئيس الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان، إدريس السدراوي، أن "شبكات الهجرة السرية والمافيات التي تقف وراءها باتت قادرة على تغيير طريقة عملها بالتفاعل مع طرق مواجهتها من قبل السلطات، وقد لاحظنا كيف أضحت السواحل الجنوبية للمغرب أكثر تخصصاً في الهجرة السرية بعد تشديد الإجراءات على السواحل الشمالية"، موضحاً في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "مسار الهجرة من سواحل جنوبي المغرب نحو جزر الكناري، يؤكد التنظيم المحكم لتلك الشبكات، وعلاقاتها بشبكات التهريب الدولي، والتنسيق المحكم بينهم".
أجهض المغرب خلال خمس سنوات 366 ألف محاولة هجرة
ويوضح السدراوي، أن "طرق الهجرة السرية من السواحل الجنوبية تنطوي على مخاطر بالنظر إلى طول المسافة، وطبيعة المحيط الأطلسي في تلك المناطق، وهو ما تؤكده الحوادث المؤسفة التي يروح ضحيتها آلاف من الشبان المغاربة والأفارقة، في حين يظل مصير العديد منهم مجهولاً".
ووفق ما أعلنته وزارة الداخلية المغربية في 25 يونيو الماضي، فقد جرت عمليات إنقاذ في عرض البحر لنحو 90 ألف مهاجر خلال السنوات الخمس الماضية، بينما بلغ العدد في عام 2022 وحده، ما مجموعه 12 ألفا و478 مهاجراً، ونحو 3150 مهاجراً منذ بداية العام حتى نهاية مايو/ أيار الماضي.
وتمكن المغرب من تفكيك 1500 شبكة تنشط في تهريب المهاجرين إلى أوروبا خلال السنوات الخمس الأخيرة، وفق المعطيات التي كشفت عنها وزارة الداخلية، كما تمكنت السلطات من تفكيك 290 شبكة تنشط في الاتجار بالمهاجرين خلال عام 2022 وحده، و117 شبكة منذ مطلع العام الحالي حتى نهاية شهر مايو.
ووفق ذات المعطيات، فإن السلطات المغربية تمكنت على مدى السنوات الخمس الماضية من إجهاض حوالي 366 ألف محاولة للهجرة السرية نحو أوروبا، من بينها أكثر من 70 ألف محاولة هجرة أحبطت خلال 2022، و25 ألفا و519 محاولة منذ مطلع العام حتى شهر مايو الماضي.
وبحسب رئيس "مرصد التواصل والهجرة" في أمستردام، فإن "ارتفاع عدد محاولات الهجرة نحو جزر الكناري القريبة من السواحل المغربية الجنوبية، مؤشر واضح على فشل تدبير قضايا الهجرة السرية، كما يبرز فشل السياسة الأوروبية القائمة على الجانب الأمني لكبح محاولات الهجرة، وتحميلها مسؤولية إدارة الحدود لدول من خارج الاتحاد الأوروبي".
من جانبه، يتهم رئيس "الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان"، دول الاتحاد الأوروبي بالتنصل من المسؤولية الأخلاقية والسياسية عن الهجرة السرية، والناتجة عن تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في أفريقيا، سواء عبر الاستعمار، أو عبر استمرار استغلال الثروات الأفريقية، ودعم الأنظمة الاستبدادية الحاكمة، مطالباً تلك الدول بتحمل مسؤوليتها في سبيل وضع حد لمآسي الشباب الأفريقي عبر استراتيجية إنسانية للهجرة والتشغيل، وبرامج للهجرة الشرعية، والتوقف عن دعم الحركات الانفصالية، ووقف إشعال بؤر التوتر في أفريقيا، وعدم مساندة الأنظمة القمعية، والاهتمام بالتنمية بدلاً من التسليح.