مرضى لبنان... العلاج يذلّ الغالبية وأقلية "خمس نجوم"

28 يناير 2023
شبه إذلال على أبواب طوارئ المستشفيات (أنور عمرو/ فرانس برس)
+ الخط -

أصبح الموت يلاحق المواطنين في لبنان، لا سيما الأكثر فقراً، بفعل الانهيار النقدي والارتفاع الكبير في فاتورتي الاستشفاء والدواء، والغياب التام للخدمات الصحية التي يفترض أن تقدمها الدولة.
يكشف نقيب المستشفيات الخاصة في لبنان سليمان هارون، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن نسبة دخول المرضى إلى المستشفيات تقلّصت بشكل خطير، ففي حين بلغت نسبة الإشغال قبل عام 2019 حوالي 850 ألفاً سنوياً، باتت اليوم أقلّ بنسبة 50 في المائة، ولا تتعدّى 450 ألفاً.
يقول نزار، وهو رجل ستّيني يعمل في النجارة، لـ"العربي الجديد": "أصبح العلاج للأغنياء فقط، أما الفقراء وأولئك من الطبقة الوسطى التي تآكلت، فيتركون بلا أي أمل بالعيش، وينتظرون طرق الموت بابهم في وقت لا يملكون المال لشراء دواء في حال وُجِد في الصيدليات، أو العلاج في المستشفيات التي باتت تطلب مبالغ طائلة ونقداً بالدولار، أو بما يوازيه بسعر الصرف اليومي، من أجل فتح غرفة لاستقبال مريض، وكأننا نريد أن نحجز غرفة في فندق خمس نجوم".
يضيف: "في وقت تحتجز المصارف أموال الناس وجنى عمرها، وبينما يفترض أن نلقى، بعدما بلغنا عمراً متقدماً، راحة بعد سنين طويلة من العمل، يبقى تفكيرنا مركزاً على كيفية تأمين لقمة العيش والصمود، والبقاء على قيد الحياة في ظل غياب تام لأدنى الخدمات الصحية، علماً أن الدولة لا تنفك تزيد الضرائب على الناس وتفاقم معاناتهم، وترفع الأسعار، من دون أن تعطيهم أبسط التقديمات في المقابل. وأنا أحتاج إلى أدوية تتخطى قيمتها مليوني ليرة (34 دولاراً) شهرياً، بينما ما أكسبه من مهنتي لا يتجاوز أربعة ملايين (68 دولاراً) شهرياً، فكيف أوزع هذا المبلغ لتغطية تكاليف الصحة والمأكل والمشرب والكهرباء والمياه وغيرها من الاحتياجات الأساسية؟".

إشكالات
لا تختلف معاناة نزار عن تلك للبنانيين كثيرين، والتي يمكن استشعارها من نبرات أصواتهم. وتكفي زيارة أحد مستشفيات بيروت للمس ما يشبه الإذلال على أبواب الطوارئ، الذي يترجم في أحيان كثيرة بإشكالات بين أهالي المرضى وأطقم الأطباء أو الممرضين أو الإداريين، وهو ما حصل مع شاب أراد إدخال والده إلى القسم، فواجه طلب الإدارة بدفع مبلغ 10 آلاف دولار لاستقبال المريض.
وعرض الشاب دفع مبلغ 5 آلاف دولار لإدخال والده سريعاً إلى المستشفى بسبب تفاقم حالته بسبب معاناته من مرض السرطان، لكن الإدارة رفضت طلبه بحجة وجود مشكلة مع شركة التأمين المقفلة خلال ساعات المساء، فصرخ الشاب في وجه الموظفين معبّراً عن غضبه مما يحصل، في وقت كان يسمع صوت والده يئنّ من الوجع، وكرّر مطالبته بإدخاله على الفور تمهيداً للذهاب لإحضار بقية المبلغ من منزله في مدينة صور (جنوب) التي يبعد حوالى ساعة عن بيروت، لكن المستشفى واصل رفض طلب الشاب حتى بعدما عرض إبقاء هويته عند الإدارة ضماناً لعودته مع المبلغ المطلوب، ثم وافقوا على ذلك بسبب دقة الحالة الصحية للمريض.

الصورة
تكاليف أدوية المستشفيات على نقفة المرضى (أدري ساليدو/ Getty)
تكاليف أدوية المستشفيات على نفقة المرضى (أدري ساليدو/ Getty)

مستشفى "جهنّم"
وفي واقعة أخرى، تخبر سلوى "العربي الجديد" أن والدها عانى من مشكلة خطيرة في القلب، فقصدت في البداية مستشفى خاصاً في بيروت، لأن الطبيب الذي يعالج والدها يعمل فيه، فطُلِب منها دفع مبلغ مقداره 45 مليون ليرة (750 دولاراً) لفتح غرفة افتقدت التدفئة، وخلت من المحارم والصابون، وانقطعت عنها الكهرباء وقتاً طويلاً، فأحضرت سلوى اللوازم بنفسها، ووصفت الوقت الذي مرّ عليها وعلى والدها داخل المستشفى بأنه "جهنّم"، مشيرة إلى أن ممرضين حاولوا ابتزاز أموال منها لتأمين بعض الخدمات، في وقت أخبرتها الإدارة أن لا نواقص في المستشفى.
وأشارت سلوى إلى أنها اضطرت إلى نقل والدها إلى مستشفى خاص آخر في بيروت، في عملية احتاجت أولاً إلى أخذ موعد عند طبيب تقاضى تعرفة لتنفيذ هذا الأمر، ثم حوّل والدها إلى المستشفى الذي طلب بدوره 2500 دولار لفتح غرفة، من دون احتساب تكاليف الأدوية التي باتت على نفقة المريض.
تأسف سلوى لما وصل إليه الحال في لبنان، حيث ينحصر العلاج بمن يحملون عملة الدولار ومن يتمتعون بتأمين "عالي القيمة" ومدفوع أيضاً نقداً بالدولار، ما يترك الناس والفقراء لمواجهة مصيرهم. وتقول بغصة كبيرة: "لن أنسى قول أمي أنه لو لم نكن موجودين في البلد لمات والدي على باب الطوارئ. وبعدما مرّ والدي بمآسٍ كبيرة في هذا البلد، يعاني اليوم من رؤية جنى عمره محجوزاً في مصرف، وراتبه التقاعدي فقد كل قيمته في ظل انهيار قيمة الليرة، في وقت يفترض أن يرتاح ويعيش براحة بال. ويدمي القلب مجرد التفكير بما يعانيه مرضى الكلى والسرطان والأمراض المزمنة، سواء لإيجاد أدويتهم، أو لدفع تكاليف العلاج التي باتت بالملايين".

الصورة
يطالب موظفون في مستشفيات مرضى بأموال لتأمين خدمات (حسام شبارو/ الأناضول)
يطالب موظفون في مستشفيات مرضى بأموال لتأمين خدمات (حسام شبارو/ الأناضول)

تقديمات بتعريفات قديمة 
في السياق، يقول هارون إن "مسألة دفع المريض ثمن أدويته في المستشفى اتجهت إلى حلحلة مؤقتة بتدخل من وزير الصحة فراس أبيض ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي عند حاكم مصرف لبنان، عبر تخصيص مبلغ شهري يدفع نقداً للمستشفيات من حساباتها المصرفية، كي تستطيع تسديد ثمن الأدوية، لا سيما تلك الخاصة بالأمراض السرطانية والمستعصية للمستوردين، من دون تكبيد المريض تكاليف إضافية".
ويلفت إلى أن الجهات الضامنة الرسمية لم ترفع أسعارها بشكل يواكب ارتفاع سعر صرف الدولار، وما زال معظمها يسدد بدل التقديمات بناء على تعريفات قديمة، ما يجعل الفروقات التي يدفعها المريض من جيبه كبيرة.
ويشير إلى أن فاتورة الاستشفاء ارتفعت كثيراً، وأصبحت باهظة جداً، لا سيما بعد رفع الدعم عن الأدوية والمستلزمات الطبية، وفي ظل الانهيار المستمرّ لقيمة العملة الوطنية، وارتفاع سعر صرف الدولار، وغلاء المحروقات والمازوت الذي تشتريه المستشفيات للمولدات الخاصة لتأمين الكهرباء، كما ارتفعت تعرفة الأطباء.

وفيما يلفت هارون إلى أن المستشفيات تطالب المرضى بتأمين مبالغ مالية مسبقة لاستقبالهم في الحالات الصحية التي تحتمل تأجيل، يشير إلى أنه "في الحالات الطارئة التي تهدد حياتهم، هذا خطر أحمر، وعلى كل مستشفى أن يستقبل المريض من دون أي شرط مالي".

المساهمون