مراكز إيواء غزة... إسرائيل تستبيح مستشفيات ومدارس مكتظة بالنازحين

15 أكتوبر 2024
مدرسة رفيدة بدير البلح بعد المجزرة وسط غزة، 10 أكتوبر 2024 (إياد البابا/ فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- استهداف مراكز الإيواء في غزة: تتعرض المدارس والمستشفيات في غزة، التي تحولت إلى مراكز إيواء، لهجمات إسرائيلية مستمرة، مثل قصف مدرسة رفيدة ومستشفى اليمن السعيد، مما يسفر عن سقوط ضحايا ويعكس غياب الأمان للنازحين.

- الجرائم الإسرائيلية ضد المدنيين: تستمر إسرائيل في انتهاك القانون الدولي الإنساني باستهدافها للمدنيين والبنية التحتية الصحية، مما يفاقم معاناة الفلسطينيين ويمنع وصول المساعدات الطبية.

- المجتمع الدولي وعجزه عن التدخل: يواجه المجتمع الدولي انتقادات لفشله في وقف العدوان الإسرائيلي، مع دعوات لمحاسبة إسرائيل وفرض عقوبات لحماية الفلسطينيين.

بعدما راحت آلة الحرب الإسرائيلية تهجّر الفلسطينيين في قطاع غزة، لجأ كثيرون إلى مدارس ومستشفيات، ظنّاً منهم أنّها آمنة. لكنّ هذه المنشآت التي تحوّلت إلى مراكز إيواء لم تسلم بدورها من عدوان الاحتلال

بعد ثوانٍ قليلة من ثلاثة انفجارات هزّت جدران مدرسة رفيدة التي كانت قد تحوّلت إلى مركز إيواء، في دير البلح وسط قطاع غزة، وكذلك قلوب الفلسطينيين النازحين فيها، راح الدخان يملأ غرف المدرسة ومساحتها الخارجية كذلك، فيما تعالى صراخ الأطفال والأمهات وسط سقوط شهداء وتناثر أشلاء آخرين في الأرجاء، في حين جُرح العشرات. في هذا المكان الذي يؤوي مئات النازحين، ارتكب الاحتلال الإسرائيلي مجزرة دموية يوم الخميس الماضي.
بأدوات بسيطة، راح شبّان يزيلون الركام، في محاولة لإخراج المصابين من بين الأنقاض، وذلك بعد الدمار الهائل الذي خلّفته ثلاثة صواريخ معادية اخترقت الطبقات العلوية من مبنى المدرسة وانفجرت في السلفية. وقد تشارك الشبّان النازحون وعناصر الدفاع المدني لملمة جثث وأشلاء 28 شهيداً، قبل نقلها في أكفان إلى مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح، الأمر الذي صعّب الأمور على الأهالي، للتأكد من مصير أبنائهم أو التعرّف على جثامينهم.
هناك، في المستشفى، راح رجل فلسطيني يبحث عن زوجته، استناداً إلى وحمة على إحدى قدمَيها. وصار يتنقّل بين الأشلاء التي تنقلها سيارات الإسعاف، والتي سقط عدد كبير منها من حمّالات المسعفين. ثمّ بدموع حارّة، ودّع الرجل ما تبقى من أشلاء زوجته، في حين كانت امرأة تبحث عن أبنائها على مقربة منه. لم تعثر على أيّ منهم ولا على أشلائهم، الأمر الذي زاد من حرقة قلبها وجعلها تلطم على وجهها وهي تصرخ "أولادي تمزّعوا!".
بالقرب من ثلاجة الموتى، أحاطت نساء بوالدة الطفل الشهيد عبد الله المصري، فيما تحاول اللحاق بجنازته التي انطلقت نحو المقبرة. لا تصدّق أنّ طفلها غادر حضنها إلى الأبد، فتخنقها الدموع وهي تقول "أخذوا قلبي مني. بنامش (لم يكن ينام) إلا بحضني".

لا مراكز إيواء آمنة في غزة

منذ الأيام الأولى من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة المتواصلة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ظنّ آلاف الفلسطينيين الذين نزحوا إلى مدارس تابعة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) أنّها سوف توفّر لهم الحماية، نظراً إلى أنّها تحظى بحصانة أممية، من بين هؤلاء النازحون إلى مدرسة رفيدة في دير البلح. لكنّ تلك المدارس، بحسب ما تبيّن، لا تختلف عن أيّ مكان آخر.

في تسجيل مصوّر جرى تداوله أخيراً، ظهر محمود طه، نازح من حيّ الشيخ رضوان في مدينة غزة (شمال) إلى مدرسة رفيدة (وسط)، وهو يحمل بقايا أحد الصواريخ الثلاثة المنفجرة. يقول "لم نرَ إلا المدرسة وهي تتفجّر، وكانت الانفجارات هائلة... أشلاء على الأرض وجثامين ممزّقة... المدارس لم تعد آمنة".
وكما أنّ المدارس لم تحمِ النازحين الذين لجأوا إليها، إذ تستهدفها قوات الاحتلال الإسرائيلي، كذلك الأمر بالنسبة إلى المستشفيات التي ما زال الاحتلال ينتهك حرمتها من دون أدنى احترام للقانون الدولي الإنساني. وعصر يوم الأربعاء الماضي، استُهدفت خيام النازحين في ساحة مستشفى اليمن السعيد في جباليا (شمال) واشتعلت النيران فيها وفي أجساد شاغليها. وغرقت ساحة المستشفى بدماء الشهداء والمصابين وبرماد النيران بعد إخماد الحريق الناجم عن الهجوم، الذي تسبّب في مجزرة استشهد فيها 16 فلسطينياً فيما جُرح العشرات.
من جهة أخرى، وقبل قليل من عملية استهداف مسشفى اليمن السعيد، وصل محمد (16 عاماً) إليه وقد نزح من منزله مع اقتراب آليات الاحتلال منه. هناك، التقط الفتى أنفاسه، بعد هروبه من نيران آليات الاحتلال وقذائف مدفعيته. كانت الساحة تمتلئ بالنازحين الذين ظنّوا أنّ المستشفى سوف يوفّر لهم الأمان، وقد نصبوا خيامهم. لكن سرعان ما راحت أجسادهم أو جثثهم تحترق، بعدما طاول قصف الاحتلال إحدى الخيام، ثمّ تمدّدت النيران. وقد وُصف ما حدث بأنّه مجزرة مصغّرة عن تلك التي وقعت في المستشفى المعمداني (الأهلي العربي) بمدينة غزة، عندما قصف الاحتلال ساحته في 17 أكتوبر الماضي، الأمر الذي أدّى إلى استشهاد نحو 500 نازح.

تعليم أطفال في مستشفى اليمن السعيد الذي تحوّل إلى مركز إيواء، جباليا، شمال قطاع غزة، 27 يوليو 2024 (عمر القطّاع/ فرانس برس)
تعليم أطفال نازحين في مستشفى اليمن السعيد الذي تحوّل إلى مركز إيواء، جباليا، شمال قطاع غزة، 27 يوليو 2024 (عمر القطّاع/فرانس برس)

في حادثة مشابهة، يوم الخميس الماضي، ارتكب الاحتلال مجزرة في عيادة الرمال وسط مدينة غزة، أودت بحياة ستة شهداء إلى جانب عدد من الجرحى، فيما خلّفت دماراً كبيراً في أحد مباني العيادة الذي اخترقت الصواريخ طبقات عدّة منه قبل أن تصل إلى الطبقة السفلية وتنفجر بعائلة نازحة. تخبر أم أحمد، التي كانت شاهدة على المجزرة، "العربي الجديد": "فوجئنا بانفجار كبير"، مضيفة أنّ "أمّاً وأبناءها وبناتها استشهدوا بعدما نزحوا إلى العيادة. تقطّعت جثثهم إلى أشلاء". وتسأل: "ماذا فعلوا حتى يُقصفوا ويُقتلوا ويُمّحوا من السجلّ المدني؟". تضيف بحرقة: "ليش (لماذا) كلّ هالموت (هذا الموت)؟ إيش (ماذا) بدّها (تريد إسرائيل) منّا؟ يكفي خوف ورعب وحرب". بدوره، راح شاب فلسطيني، نزح إلى عيادة الرمال وشهد المجزرة من دون أن يستوعب ما جرى، يصرخ "بحاربوش (لا يحاربون) المقاومة بس (فقط)، بل كلّ فلسطيني"، مشدّداً أنّ "هذه إبادة جماعية".
هذه ليست سوى عيّنات عن المجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال في مراكز الإيواء منذ أكثر من عام، الأمر الذي يتسبّب في حالة من القلق بالمراكز الأخرى.
إسراء عزام، نازحة في إحدى مدارس مدينة غزة، تقول لـ"العربي الجديد": "نتابع المجازر عن كثب، ونعيش في حالة من الخوف من أن يحين دورنا"، مشيرةً إلى أنّ "هذه المدرسة قُصفت مسبقاً ونحن فيها". تضيف عزام: "تركنا بيتنا في حيّ الزيتون (بمدينة غزة) في الأسبوع الثاني من الحرب، بسبب القصف المستمرّ والقذائف العشوائية، وقصدنا مدرسة الفلاح (في الحيّ نفسه) إذ إنّها أكثر أماناً من بيوتنا". يُذكر أنّ هذه المدرسة تابعة كذلك لوكالة أونروا، وبالتالي من المفترض أن تكون "محميّة"، غير أنّ الاحتلال لا يعير أيّ أهمية لأيّ جهة مهما علا شأنها. وتتابع عزام: "لكنّ مدرسة الفلاح كانت بخلاف ما ظننّا، إذ قصفها الاحتلال بالصواريخ مرّات عدّة".
وتلفت عزام، بقهر، إلى أنّ "في غزة، نعيش أسوأ مقتلة في تاريخ البشرية بأسرها، والوضع في شمال غزة سيّئ جداً، وجرائم الاحتلال تفوق التصوّر البشري، والإبادة الجماعية لا يتخيّلها عقل". وتكمل أنّ "عنجهية الاحتلال المجرم ما زالت تدفعه إلى قصف المدارس (التي تحوّلت إلى مراكز إيواء) وتكرار المجازر". وعلى الرغم من الخوف والقلق على خلفية المجازر التي تُرتكَب في مراكز الإيواء، لا تجد عزام أيّ خيار آخر غير البقاء فيها. وتبيّن أنّ "لا مكان آخر آمناً نذهب إليه. كلّ المناطق والبيوت غير آمنة، ومضطرون إلى البقاء في هذه المدرسة. لم يبقَ لنا في ظلّ هذه الإبادة سوى الإيمان بالله والفرج القريب".

مدرسة أونروا تحولت إلى مركز إيواء - دير البلح - وسط قطاع غزة - 12 أكتوبر 2024 (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)
مدرسة أونروا تحوّلت إلى مركز إيواء، دير البلح وسط قطاع غزة، 12 أكتوبر 2024 (أشرف أبو عمرة/الأناضول)

مجازر كثيرة بحقّ النازحين

تكثر الجرائم الإسرائيلية التي تستهدف المستشفيات وغيرها من المنشآت التي تحوّلت إلى مراكز الإيواء. ويستنكر مدير المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة إسماعيل الثوابتة، في حديث إلى "العربي الجديد"، "عجز المجتمع الدولي عن وقف حرب الإبادة الجماعية التي تستمرّ للعام الثاني، من دون أن يتدخّل أحد للجم الاحتلال. يضيف أنّ "المجتمع الدولي مطالب بوقف هذه الحرب".
وبمبرّرات ثبت زيفها وكذبها، يدّعي الاحتلال أنّه يستهدف مقاومين داخل تلك المدارس والمستشفيات التي تحوّلت إلى مراكز إيواء. ويؤكد مدير المستشفيات الميدانية لدى وزارة الصحة في قطاع غزة مروان الهمص، أنّ تلك "افتراءات وأكاذيب"، وأنّ "خير دليل على عدم صحّتها نفيها من الاحتلال نفسه". ومثالاً على ذلك، يقول الهمص إنّه "عندما لم يجد الاحتلال أيّ دليل على وجود المقاومة بمجمّع الشفاء الطبي (في مدينة غزة شمالي القطاع)، تعمّد تخريب الأجهزة الطبية" في أوقات سابقة. يضيف الهمص لـ"العربي الجديد" أنّ "نحو 500 شهيد في المستشفى المعمداني (شمال)، في مجزرة دموية لم يشهدها التاريخ، لم يجعلوا الاحتلال يتوقّف عن استهداف المستشفيات"، ويشير كذلك إلى "ارتكاب مجازر أخرى في المستشفى الإندونيسي (شمال) ومستشفى اليمن السعيد (شمال) قبل أيام، ومجمّع ناصر الطبي في خانيونس (جنوب) عندما توغّل في المدينة، وتُضاف إلى ذلك التهديدات باستهداف مستشفيات، من قبيل التهديد الأخير لمستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا (شمال).
يتابع مدير المستشفيات الميدانية لدى وزارة الصحة أنّ "الاحتلال يدمّر المنظومة الصحية وفقاً لخطة همجية، ويتمادى بتلك الجرائم ولا يعترف بأيّ من حقوق الحماية المضمونة دولياً للمنظومة الصحية". ويوضح الهمص أنّ "المنظومة الصحية تعمل تحت ضغط السلاح والاجتياح والحصار، وفي ظلّ الخوف والتهديد، الأمر الذي من شأنه أن يعيق عملها، فيقدّم الأطباء الخدمة غير مكتملة بسبب استمرار تعدّي الاحتلال على المستشفيات. وتكتمل المجازر بحق المنظومة الصحية بمنع إدخال المستلزمات الطبية والأدوية".

قضايا وناس
التحديثات الحية

نهج "إبادة جماعية"

تكرار المجازر في المستشفيات والمدارس ومخيمات النازحين أمر يعدّه رئيس الهيئة الفلسطينية للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني (حشد) صلاح عبد العاطي "استمراراً لنهج الإبادة الجماعية" الذي يهدف إلى ترويع الفلسطينيين وقتل أكبر عدد منهم وتهجيرهم، من ضمن استراتيجية الإنهاك والإهلاك وتطبيق "خطة الجنرالات" في شمال قطاع غزة لإنشاء منطقة عازلة. ويوضح عبد العاطي لـ"العربي الجديد" أنّ "استباحة الاحتلال مراكز الإيواء سببه استمرار العجز الدولي"، لافتاً إلى أنّ "هذه المجازر تتعارض مع القانون الدولي الإنساني، لا سيّما أحكام اتفاقيات جنيف ولاهاي التي تضمن حماية المدنيين والأماكن المدنية ومنع استهدافها (في الحرب والنزاعات المسلحة)، بالإضافة إلى حماية خاصة للنساء والأطفال والعاملين في المجال الإنساني، الأمر الذي لم تحترمه دولة الاحتلال".
يقول عبد العاطي إنّ "عجز المجتمع الدولي مثّل ضوءاً أخضر للاحتلال من أجل الاستمرار بجرائمه، بالإضافة إلى عدم قدرته على إنفاذ تدابير محكمة العدل الدولية وقرار مجلس الأمن القاضيَين بوقف العدوان (الإسرائيلي) وضمان تدفّق المساعدات الإنسانية (إلى الفلسطينيين في قطاع غزة)"، مشيراً إلى أنّ "هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، ولا بدّ من محاسبة إسرائيل عليها وتفعيل مسار مقاطعتها وفرض عقوبات على دولة الاحتلال، وجعل جرائم الإبادة وصمة عار عليها". ويكمل عبد العاطي أنّ "ميزان القوى المختلّ، بسبب دعم الولايات المتحدة الأميركية وعدد من الدول الأوروبية ذات الخلفية الاستعمارية، يجعل إسرائيل تمضي في مخططاتها بفرض وقائع جديدة داخل القطاع. وهذه تقوم على حساب الدم الفلسطيني بوحشية أكبر، لذلك لا بدّ من تشكيل تحالف دولي من أجل إنفاذ تدابير مجلس الأمن وضمان حماية الشعب الفلسطيني".

المساهمون