مدينة ليستر البريطانية تشتعل.. والتوتّر أبعد من مباراة كريكت

20 سبتمبر 2022
التوتر الذي يلي مباريات الكريكت ليس جديداً (مارك ماكيلا/Getty)
+ الخط -

على مدى أسبوعين متتاليين، أوقفت وفاة الملكة إليزابيث الثانية الزمن في بريطانيا وأخبار الجنازة احتلّت الصحف وكل وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بحيث غابت أحداث مدينة ليستر عن النقاش. وقد يخيّل للمرء أنها من جهة غابت ومن جهة أخرى غُيّبت وسط أزمات كثيرة تغرق الحكومة البريطانية وتعرقل سير رئيسة الوزراء الجديدة ليز تراس.

وكانت أحداث شغب قد عمّت بعض الشوارع الأساسية في المدينة عقب مباراة كريكت جمعت الهند وباكستان في 28 أغسطس/آب الماضي، أي قبل أيام قليلة على إعلان نتيجة السباق إلى زعامة حزب المحافظين وإلى "داونينغ ستريت".

وأن تكون مباراة الكريكت هي الشرارة التي أطلقت الشغب والتخريب، فهذا يعني أن العنف لم يقع على أسس دينية، وهو ما تروّج له السلطات البريطانية وما تفضّله في الواقع وسط أزماتها وانشغالها بقضايا معيشية وأمنية ولوجستية.

ومع أن مدينة ليستر اشتهرت عبر التاريخ بتنوّعها وبطبيعتها متعدّدة الثقافات، فإن الواقع المأزوم لمجتمعات الأقليات في بريطانيا بات يشكّك في عبارات نمطية وفي "تعايش" بمجتمع يعاني من العزلة والتهميش والفقر وتراجع فرص العمل والمشاركة. والقضايا الدفينة التي تقف وراء توتّرات حصلت في السابق وتحصل اليوم بين الهندوس والمسلمين في تلك المدينة المتنوّعة، هي أعقد من مباراة كريكت أو من غضب مجموعة من المراهقين المتحمّسين لهويّاتهم.

يقول سليمان نجدي الناطق باسم رابطة المنظمّات الإسلامية في ليستر لـ"العربي الجديد"، إن "التوتر الذي يلي مباريات الكريكت بين فريقي الهند والباكستان، ليس جديداً"، وإن "جمهور الفريق الفائز دائماً ما يستفزّ الجمهور المنافس والعكس صحيح، ولم تكن تلك التوترات تتطوّر سابقاً إلى أعمال عنف".

وانتشرت يوم الخميس الماضي مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي لشابّ قيل إنه مسلم، يقوم بإنزال علم خارج معبد هندوسي في ليستر، بينما يظهر في مقاطع أخرى رجل يُحرق علماً هندوسياً أيضاً ما دفع المفوضية العليا للهند لإدانة "أعمال العنف التي ارتكبت ضد الجالية الهندية وتخريب مبانٍ ورموز الديانة الهندوسية". فأشعلت تلك المشاهد بركاناً خامداً، ونزل إلى الشارع مئات الملثّمين يهتفون "جاي شري رام" أي "يحيا الإله رام" أو "النصر للإله رام" وهي عبارة دينية هندوسية جرى العبث باستخداماتها من قبل متطرّفين، فباتت رمزاً جديداً لإعلان العنف ضد المسلمين في الهند أو على ما يبدو في أي مكان آخر، حتى وإن كان رمزاً للتعددية الثقافية والدينية والتعايش.

وكانت أجهزة الشرطة مشغولة في نهاية الأسبوع الماضي بالتحضير لجنازة الملكة وقد شارك في التدريبات عليها وفي الإعداد لها 6000 عنصر من الجيش والشرطة. هذا عدا عن أن جهاز الشرطة يعاني أصلاً من نقص هائل في عدد موظّفيه بسبب الأزمة الاقتصادية من جهة وبسبب استعانة قطاعات حيوية أخرى به لتغطّي هي أيضاً النقص الذي يشلّها كالقطاع الصحي. فكانت أعداد مثيري الشغب أكبر بكثير من أعداد أفراد الشرطة الذين جُرح منهم 16 ضابطاً ليلة السبت الماضي على خلفية تلك التوتّرات العنيفة. ومع ذلك، لم تعتقل الشرطة إلا 20 شخصاً إضافة إلى 28 اعتقلتهم خلال الأسبوعين التاليين لأحداث مباراة الكريكت يوم 28 أغسطس/آب.

ويقول نجدي إن رابطة المنظمات الإسلامية "ناشدت جيل الشباب المسلمين بعدم مغادرة المنازل وعدم النزول إلى الشوارع" خوفاً من اشتعال المزيد من الاحتقان والعنف، مضيفاً أن هذه التوتّرات وإن لم تكن جديدة إلا أن حدّتها كانت مفاجئة وأن "المشكلة لا تكمن عند كبار السن أو عند جيل رجال الدين من الطرفين، بل عند الجيل الجديد الذي "يعيش حالة من العزلة" حيث إن المشكلة الأساسية بحسب نجدي تكمن في "عدم الاستماع إلى الشباب، وفي الابتعاد عن همومه ومشاكله إن كان من قبل الحكومات المتعاقبة أو من قبل السلطات المحلية، أو حتى من المؤسسات الدينية مسجداً كانت أم معبداً".

ويصف نجدي الشباب وهي الشريحة الأكبر في ليستر بـ"المجتمع المنسي"، ويقول إن الحكومة تتذرّع دائماً بصعوبة الوصول إليها، لكن الحقيقة أن التواصل معها هو المطلوب وليس الوصول إليها فقط. كما جدّد نجدي دعوته السلطات لإجراء "تحقيق فوري ومستقلّ في الأحداث الأخيرة" لاسيما أن عدد أفراد الشرطة لم يكن متناسباً مع أعداد مرتكبي العنف.

من جهته ألقى عمدة المدينة بيتر سولسبي باللوم على "المعلومات المضللة" على وسائل التواصل الاجتماعي، وكذا انتشار مشاهد غير حقيقية ومشوّهة عن الواقع، ما أجّج غضب الكثيرين. إلا أن نجدي يرى أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت جزءاً أساسياً من الحياة اليومية لشريحة الشباب وبات واضحاً أنهم إلى جانب استخدامهم المفرط للتكنولوجيا، يمتلكون أفكاراً مختلفة عن الأجيال السابقة، وبالتالي يجب على السلطات خوض حوار جدّي معهم والاطّلاع على أنماط تفكيرهم وعلى همومهم.

وأشارت صحيفة "ذا غارديان" في عددها الصادر، اليوم، إلى أن نصف الذين اعتقلتهم الشرطة على خلفية أحداث ليستر، جاؤوا من برمنغهام وسوليهول ولوتون وهاونسلو ما عزّز المخاوف من قيام غرباء بإثارة الاضطرابات وتأجيج الخلافات في المدينة "المسالمة".

وترجّح مصادر مطّلعة لـ"العربي الجديد" أن التوتّرات الأخيرة جاءت نتيجة حتمية لعوامل عديدة، أبرزها التغيير الاجتماعي الذي طرأ على ملامح المدينة كونها معروفة بتعدّديتها، ما جذب في الآونة الأخيرة عدداً من المهاجرين الجدد ومعظمهم كان يمتلك للأسف آراء قومية هندوسية يمينية ومتطرّفة. تضاف إلى ذلك الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة في مواجهة جائحة كورونا، ما فاقم عزلة مجتمع الأقليات وانفصاله عن محيطه. كما أن الضائقة الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد لا تساعد في احتواء غضب شرائح كثيرة تجد نفسها معزولة ومظلومة ومحرومة من "رفاهية" الحياة الموعودة في بلد كبريطانيا. يبقى أن كل الخطط التي تتعهّد بها الحكومة الحالية لا تفعل سوى تأجيج شرارة العنف، إن كان فيما يتعلق بفواتير الطاقة أو أزمة المعيشة أو خطط الترحيل التي تواجه بها طالبي اللجوء والهاربين من الموت في بلدانهم الأصلية.

المساهمون