استمع إلى الملخص
- تجارب شخصية تحت الحصار: تعبر رانيا أبو حميدة عن خوفها من دبابات الاحتلال، واصفة الحياة بأنها تشبه الأسرى، حيث يفتقر السكان للماء والطعام، ويستخدمون وسائل بديلة كحرق الملابس للحصول على الحطب.
- التحديات والمخاطر المستمرة: يواجه السكان مخاطر كبيرة أثناء البحث عن الماء والطعام بسبب القصف المستمر. القطاع الصحي في وضع مأساوي مع إخلاء المستشفيات وتهديدها بالتدمير، مما يهدد بكارثة إنسانية.
يشعر المحاصرون في مخيم جباليا أن الاجتياح البري والحصار الجديد الذي يفرضه جيش الاحتلال يكاد يكون الأسوأ منذ بدء العدوان قبل أكثر من عام. لكن المأساة تتكرر من تجويع وقتل ومنع الإسعافات.
يدخل الاجتياح الإسرائيلي لمخيم جباليا ومحيطه يومه الثالث عشر على التوالي، حيث يفرض الاحتلال حصاراً خانقاً من كل الاتجاهات، ويواصل منع دخول المساعدات الإنسانية من مواد غذائية ومياه وأدوات طبية وأدوية علاجية أو تحويل المصابين إلى مستشفيات أخرى. يضاف إلى ما سبق انعدام الوقود الذي أدى إلى عدم قدرة البلديات على ضخ المياه، فضلاً عن خروج مستشفيات الشمال عن الخدمة، ونفاد مخزون المياه والطعام لدى الأهالي، وانتشار جثث الشهداء التي بلغ عددها نحو 300 في الشوارع، وسط صعوبات كبيرة في رعاية مئات المصابين داخل مستشفيات القطاع، بالتزامن مع استمرار قصف الاحتلال أية معالم للحياة بهدف دفع الأهالي للنزوح نحو جنوب القطاع.
تزداد مخاوف العشرينية رانيا أبو حميدة، وهي من سكان بلدة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة، مع اقتراب دبابات الاحتلال من منزلها، والتي أصبحت على بعد ثلاثة شوارع منها، وهو ما يظهر بوضوح من خلال سماعها أصوات محركات الآليات، الأمر الذي يشير لقربها، يرافقه قصف مدفعي لا يتوقف وتحليق مكثف للطائرات في السماء.
تشبه أبو حميدة روتين الحياة اليومي وسط الحصار والاجتياح، بحياة الأسرى في سجون الاحتلال. تقول لـ "العربي الجديد": "نحن في سجن من دون ماء أو وجبات طعام كاملة. لا نعلم أخبار أحد ولا أحد يعلم أخبارنا. ننام على ضوء الصواريخ. ووصلنا إلى مرحلة صرنا نطمئن فيها على جيراننا عندما نسمع صراخهم من جراء القصف". تضيف "الحركة مشلولة بالكامل. أي جسم متحرك يعني أن تطلق الطائرات الرصاص عليه مباشرة، فتبقى جثته مكانها إذ ليس باستطاعة أحد إسعافه". تصف الأيام السابقة بـ "القاسية جداً"، تشبه في قسوتها أيام الحرب الأولى، وكأن الحرب بدأت للتو "لكنني أخبركم أنها أشد وأصعب".
عن إعداد الطعام والخبز، توضح: "لا نستطيع تشغيل الفرن لإعداد الخبز، فنقوم بتقطيع أشجار أرضنا الزراعية للحصول على الحطب، ومنها نعد رقائق الخبز. لكن الأهالي والجيران ممن ليس لديهم أراض زراعية يشعلون النار بحرق ملابسهم القديمة أو البلاستيك أو النايلون".
في ظل عدم قدرة البلديات على توصيل المياه للمواطنين شمالي القطاع، يلجأ الأهالي لاستخدام الطاقة البديلة (ألواح شمسية) لتشغيل الآبار وسحب المياه وتوزيعها على الجيران. ومع حلول الظلام، تقضي أبو حميدة وعشرات الآلاف ممن بقوا في شمال القطاع الليل بخوف شديد. تقول: "كل شيء حولنا يوحي بعدم الأمان. صوت الدبابات ورصاص القناص والطائرات الذي لا يتوقف نهائياً، وأحياناً أصوات الجنود الإسرائيليين ونباح كلابهم التي نخشى أن تقتحم بيوتنا".
بالتزامن مع ذلك يقوم الاحتلال بنسف مربعات سكنية كاملة ويتردد صداه في شوارع الأحياء الفارغة، مبينةً "لحد الآن أهل البيوت تحت الركام ولا يستطيع أحد الاقتراب منهم لأنه سيتعرض للاستهداف المباشر، في بداية الأمر كنا نسمع صوت طلب المساعدة من بعض الأحياء تحت منازلهم، ولكن الآن انقطع الصوت وهي علامة على استشهادهم".
عن سبب اختيار البقاء وعدم النزوح، تجيب أبو حميدة بكلمات ملؤها الصبر قائلة "صبرنا على الجوع عاماً كاملاً، مرت أشهر وأيام طويلة لم نذق فيها إلا المعلبات وبعض الخبز إذا توفر بشكل نادر، نمنا في الطرقات، في ممرات المشافي وبجانب الأشلاء، وخسرنا بيتنا وكل ما نملك، ومع ذلك، مستعدون أن نستقبل أعواماً جديدة أصعب من هذا الحال الذي نحن به، لكن لن نترك شمال غزة".
ومع كل ما تعيشه أبو حميدة، استشهدت صديقتها أريج فلفل وزوجها وابنها وكل أفراد عائلتها، أثناء قصف الاحتلال لمنزلهم قبل أيام، الأمر الذي أدخلها في "حالة حزن شديدة".
تطهير عرقي
من خلال تطبيق الحصار من جميع الاتجاهات، يعزل الاحتلال المنطقة الشمالية لقطاع غزة بشكل كامل، علماً أنها تضم بلدات بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا، بهدف تنفيذ ما يسمى "خطة الجنرالات" في شمالي القطاع، لتطهير الشمال عرقياً من خلال إبادة وتجويع الأهالي الرافضين الخروج من منازلهم حتى الموت، ومنع وصول المساعدات بما فيها الاحتياجات الأساسية.
الشاب محمد وهو من سكان الشمال، يقضي جل يومه في البحث عن مياه صالحة للشرب حينما تسمح له الفرصة بالخروج من المنزل مع لحظات الهدوء، والتي يتوقف فيها صوت القصف المدفعي، ومياه الاستخدام المنزلي لأماكن بعيدة عن منزله مع عدم وجود آبار قريبة، وبصعوبة كبيرة يستطيع ملء بعض خزانات المياه الصغيرة في رحلة محفوفة بالمخاطر، مع خشيته من تكرار المجازر التي ارتكبها الاحتلال بمحافظة الشمال، واستهدف فيها تجمعات للمواطنين أثناء تعبئة المياه. وتعليقاً على خطة التهجير، يقول لـ "العربي الجديد": "لن نخرج من بيوتنا إلا على أجسادنا ودمائنا، لن نخرج من بيوتنا ولن ننزح إلى جنوب القطاع".
يوضح: "لا تبعد آليات وجيش الاحلال سوى 400 متر عن منزلي، وهي قريبة جداً منا، تزامناً مع قرب نفاد مخزون الطعام لدينا، وانقطاع مياه الشرب، ولا أبالغ لو قلت إنه تمر ساعات عدة ولا نجد مياهاً للشرب، وبالكاد نأكل وجبة يومياً مما تبقى من المعلبات". ويصف ما يعيشه خلال الاجتياح الثالث لمخيم جباليا، بأنه "أسوأ أيام تمر عليه منذ بداية الحرب"، لافتاً إلى أن حالة التجويع قاسية للضغط علينا لدفعنا للذهاب نحو الجنوب، وهذا مستحيل أن يحدث ولن ننزح إلا إلى الجنة أو نبقى في منازلنا".
ومن زاوية أخرى لما يحدث خارج منزله، يقول لـ "العربي الجديد": "صوت الانفجارات لا يتوقف، وأحياناً تقترب مسيرات الاحتلال من منازلنا (كواد كابتر) وتطلق الرصاص علينا، وتزداد أصوات الانفجارات ونسف البيوت، فيما يهلع الأطفابل والنساء".
واستهدفت قوات الاحتلال الصحافيين الذين يغطون اقتحام جيش الاحتلال جباليا. قبل أيام، استشهد المصور محمد الطناني، وأصيب زميله تامر لبد وهما يعملان بفضائية الأقصى المحلية. كما أصيب مصور الجزيرة فادي الوحيدي في رقبته وأصيب على أثرها بشلل كامل. يأتي ذلك بعد أيام من استشهاد الصحافي حسن حمد (19 عاماً) في غارة استهدفت منزله بمخيم جباليا.
ومع استمرار الاجتياح، ارتفعت حصيلة الشهداء بمخيم جباليا إلى نحو 300 شهيد ومئات المصابين، ولا تزال فرق الإسعافات والدفاع المعدني عاجزة عن انتشال جثث عشرات الشهداء من الشوارع والبيوت المستهدفة بسبب منع الاحتلال ممارسة عملها واستهداف تلك الطواقم.
ومنذ بدء الاجتياح الإسرائيلي للمخيم حتى اليوم، وتمركز الدبابات عند دوار التوام وأبو شرخ إلى الغرب، أصبح يعرف هذا التقاطع الذي كان يسلكه الناس للنزوح من المخيم نحو مدينة غزة بـ "تقاطع الموت"، إذ تطلق الدبابات النار والقذائف على أي جسم يتحرك.
ويواجه القطاع الصحي في شمال القطاع وضعاً مأساوياً، بعدما أمر جيش الاحتلال بإخلاء مستشفى كمال عدوان والمستشفى الإندونيسي ومستشفى العودة. وأخلى الطاقم الطبي بمستشفى كمال عدوان الأطفال الخدج، وغيرهم من المرضى وسط تحذيرات الطواقم من كارثة إنسانية في المستشفى بسبب نقص الطاقم الطبي والإمداد والوقود، مع اقتراب دبابات الاحتلال من المشفى وتهديدهم بتدميره، أو تكرار المجزرة التي ارتكبها قبل أيام بمستشفى اليمن السعيد بعد قصف ساحته، ما أسفر عن استشهاد 17 شخصاً على الأقل.
نسف مربعات سكنية
في منطقة الفالوجا إلى الغرب من مخيم جباليا، وقف عبد أبو صفية بنظرات ذهول فوق ركام منزله ومربع حارته السكني الذي تعرض للنسف من قبل جيش الاحتلال، بينما أخلى السكان منازلهم ونزحوا إلى مركز إيواء، وعاد بعضهم لتفقدها.
تحت مرأى من طائرات الاحتلال التي تملأ سماء المنطقة، سار أبو صفية وبعض الأهالي بين ممرات المخيم المهدمة، ووصلوا إلى منازلهم للاطمئنان عليها، وكان المشهد أشبه بزلزال ضرب المنطقة. بصوت مليء بالقهر والحسرة، يقول أبو صفية لـ "العربي الجديد": "لم يتبقَ بيت نسكن فيه، ها أنا أقف فوق الردم، جئت إلى هنا لتفقد المنزل الذي تحول إلى ركام، وللبحث بين الردم عن طعام، وبعد البحث وجدت علبة ذرة بوزن 50 غراماً. سيأكل منها أربعة أشخاص. ونبحث عن مياه في أي من الخزانات في المنطقة لتعبئة غالون مياه صغير للعودة به إلى مركز الإيواء".
ويلفت إلى أن جيش الاحتلال قصف آبار المياه في المنطقة، ما فاقم الوضع المأساوي وحرم الأهالي المياه، تزامناً مع تفجير الاحتلال مربعين سكنيين بالمنطقة. يشير أبو صفية إلى أنه كان آخر النازحين من الحي بعد وصول دبابات الاحتلال إليه وهي تعمل على محاصرة الناس من جنوب المخيم نحو شماله. نقل أطفاله إلى مركز إيواء تكدس بالنازحين بعد قدوم نازحين من ثلاث مدارس أخرى.
ويوضح: "الوضع في المدرسة أصبح مأساوياً، فستكون محظوظاً إن وجدت متراً واحداً تستطيع النوم فيه. النازحون والأطفال ينامون بين ممرات المدرسة وعلى الأدراج وفي كل مكان، مع القلق والخوف من استهدافها وارتكاب الاحتلال مجزرة جديدة كما يفعل بمراكز الإيواء".
عن مخاطرته بالخروج من مركز الإيواء، يسلم أمره للقدر قائلاً: "مؤخراً، رافقني جار لنا لتفقد المنزل ويدعى أمير مسلم، واليوم وأثناء قدومي للحي رأيته وقد استشهد"، لافتاً إلى إصابة ابن عمه محمد أبو صفية في قدمه في مجزرة الطحين التي استهدف فيها الاحتلال النازحين، بعدما كان ينتظر استلام السكر والطحين.
في نظرة سوداوية للأيام المقبلة، يخشى من كارثة إنسانية وموت محقق في حال لم تدخل المعونات الإنسانية إلى شمال القطاع، إذ بدأ مخزون المواد الغذائية ومعظمها من المعلبات ينفد. ويعلق: "كل عائلة لديها طرد غذائي أو طردان من المعلبات وكيس أو كيسان من الطحين. فبعد أسبوع سيصبح عمر الاجتياح نحو 20 يوماً، بالتالي سينفد كل شيء وينفد الطحين". ويفيد بأن الأهالي يشربون من مياه الآبار نفسها في ظل عدم قدرة الأهالي على الوصول إلى محطات تحلية المياه الواقعة في منطقة الجلاء.