لا يزال، مُختار قرية الجورة الفلسطينية المحتلة غسان غراب، محتفظًا بذكريات وتفاصيل بلدته المُحتلة على أيدي العصابات الصهيونية عام 1948، التي ورثها عن والده، فيما لا تزال قوانين "المخترة"، سارية المفعول على الفلسطينيين، حتى اللحظة.
ومن بين الأختام التي وضعت على طاولة خشبية، وإلى جانبها أوراق تنتظر التوقيع، يمارس المختار الستيني مهامه اليومية، في مطالعة ومتابعة المُعاملات، إلى جانب المشاركة في الصلح وحل النزاعات المجتمعية.
وعلى الرغم من مرور الزمن، ومضي أكثر من سبعة عقود على النكبة الفلسطينية، وتهجير المواطنين الفلسطينيين قسرًا من مدنهم وقراهم القديمة، إلا أن وظيفة مختار البلدة، ما زالت متوارثة، وتحظى بمكانة إضافية، إلى جانب كونه مختارًا للعائلة، أو العشيرة.
وتتسم مهنة مختار البلدة (والتي يعمل بها أصحابها بشكل تطوعي، ولا يحصلون على أي عائد مادي)، بميزة إضافية، وهي ترسيخ مبدأ حب الأرض، والبلدة التي هُجر منها الآباء والأجداد للأجيال الحالية والقادمة، تأكيدًا على قدسية الحق الفلسطيني، وتكذيبًا لمقولة "الكبار يموتون، والصغار ينسون".
ويقول مُختار أهالي الجورة، أبو بهاء غراب لـ "العربي الجديد" إن قرية الجورة الفلسطينية، والتي تعتبر من قرى عسقلان، تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وقد احتلتها العصابات الصهيونية في تاريخ الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني، عام 1948م، وهي الآن ضمن الأراضي الفلسطينية التي استولت عليها، وقد امتاز أهلها بزراعة التين والعنب والقمح، والعديد من المحاصيل الزراعية الأخرى.
ويبين أن مهمة المخاتير لم تتغير عن السابق، إذ لا تزال تنحصر في إصلاح ذات البين، ومساعدة أهل البلدة بكل الطرق المتاحة، إلا أن الاختلاف الوحيد ينحصر في عدد المخاتير، إذ كان لكل بلدة مختار أو مختاران، فيما زادت أعداد المخاتير أخيرًا بفعل الزيادة السكانية، بغرض القدرة على السيطرة، وتقديم أكبر قدر من الخدمة لكل العائلات والعشائر.
ويقدم مخاتير البلدات العديد من الخدمات المجتمعية، وفي مقدمتها العمل على حل النزاعات بين الناس، إلى جانب الختم على العديد من الأوراق الهامة لإتمام بعض المعاملات، وأوراق التعريف و "لِمن يهمه الأمر"، والتي تتم فيها مخاطبة المؤسسات والجهات الرسمية، إلى جانب تواجدهم الدائم في المناسبات والفعاليات المجتمعية والوطنية والتراثية.
ويشدد المختار غراب، على أهمية توريث الأجيال حب الأرض، وحتمية العودة إلى المدن الفلسطينية، والتي طُرد منها أصحابها عنوة، ويقول: "هذه ليست مهمة مختار الجورة فحسب، وإنما كل مخاتير البلدات الفلسطينية المحتلة، والذين لا يتوقفون عن توعية أجيالهم بماضيهم، وبخطورة المؤامرات التي باتت تحاك أخيرًا في العلن، والتي تهدف إلى التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وتصفية القضية الفلسطينية العادلة".
فيما يوضح المُختار، محمد زقوت، وهو مختار العائلة ومدينة أسدود المُحتلة، أن نظام (المخترة) لم يعد مقتصرًا على التوريث، وإنما أصبح وفق نظام الانتخابات، بهدف إيجاد شخص يلتفت حوله الجميع، فيما يسعى إلى حل مشاكلهم، والقيام بشؤونهم، إلى جانب أن يكون واجهتهم أمام العائلات والبلدات الأخرى.
وتقع مدينة أسدود الساحلية، والتي بناها الكنعانيون على البحر الأبيض المتوسط، جنوب فلسطين التاريخية، وتضم من الناحية الغربية ميناء أسدود، ويحدها من الشمال بلدة تل الربيع المُحتلة، فيما تحدها من الشرق مدينة القدس، وتحدها من الجنوب مدينة عسقلان.
ووفق المُختار زقوت، فإنه وعلى الرغم من التغييرات الكبيرة التي حدثت ما بعد النكبة الفلسطينية، إلا أن عمل المخاتير لا يزال ساريًا، دون الانفكاك عن المهام الرئيسية الموكلة إلى مخاتير العائلات، والبلدات الفلسطينية المُحتلة في لمّ الشمل والتوعية بالقيم والمبادئ الوطنية، ولا يزالون يمثلون واجهة العائلات والبلدات في أي مناسبة مجتمعية أو وطنية.
من ناحيته؛ يوضح الشيخ أبو رائد درويش، وهو أحد مخاتير مدينة بئر السبع المُحتلة، أنه ورث (المخترة) عن والده، وكان أبرز قضاة المدينة، وقد عُين أكثر من مختار للبلدة التي تعتبر من أكبر وأقدم مدن فلسطين المُحتلة، كذلك من أكبر مدن منطقة النقب الصحراوية، وتسمى أحيانا "عاصمة النقب"، وتقع اليوم في جنوب فلسطين التاريخية، وعلى بعد 71 كيلومترًا جنوب غربي القدس.
ويبيّن درويش لـ"العربي الجديد" أن مهنة مختار البلدة لا تزال قائمة، على الرغم من تهجير سكان بئر السبع الأصليين، وهم من القبائل البدوية، في عدد من المدن الفلسطينية والدول العربية، ويضيف: "مهمتنا توحيد الصف الفلسطيني، وحل المشاكل، وتوعية أبنائنا وأجيالنا الجديدة بحقهم في بلدتهم المسلوبة، وتراثهم الفلسطيني".
ويوضح المختار درويش، أن مدينة بئر السبع المُحتلة، كانت تخصص شيخًا للقبيلة، ومختارًا للبلدة، بهدف تكامل الأدوار، ولا يزال من مهام مختار البلدة التواصل مع الجهات الحكومية، والقضاء، بهدف إصلاح المشاكل وحل النزاعات.
ويشير إلى أنه يستخدم الختم الخاص به في إتمام العديد من المعاملات المجتمعية، ويوضح أن تعدد القبائل والعشائر، وامتداد العائلات الفلسطينية، دفعا إلى زيادة أعداد المخاتير في القبيلة أو العشيرة الواحدة، بهدف إحداث أكبر قدر من النفع.