أطربَ محمد الهادي بالأصفر التونسيين بنغمات العود على مدى ستين عاماً. ليس عازفاً ولا ملحناً، لكنّه يصنع الأعواد منذ كان في الرابعة عشرة من عمره. يقضي معظم وقته في ورشته الصغيرة للعمل في حرفة كادت تندثر بعد ركود صناعتها في فترة ما. بدأت مسيرته منذ عام 1958 في تلك الصناعة التي كانت حكراً على بعض من ورثوها عن الآباء أو تعلّموها عن بعض حرفيّيها.
أساس العمل هو رسم شكل آلة العود والنقوش، لينطلق في ما بعد في تشكيله وتكوين هيكله النهائي. وتكون البداية من خلال تصميم القالب الذي يُسمى في تونس الصندوق الصوتي أو القصعة، وفي الشرق يُسمى ظهر العود. ويجري حفها (قشرها) لتصبح ملساء لينتقل في مرحلة أخرى إلى تركيب وجه العود الذي توجد فيه ثلاث فتحات ذات نقوش عربية، تُسمى بالشماسي أو القمرات، لتزيد تلك الفتحات في صوت النغمات، لتتم في ما بعد مرحلة تركيب زند العود أو كما يسميها بعض الحرفيين الرقبة. وتتلوها مرحلة طلاء كامل للآلة الموسيقية بواسطة ملمع زيتي. وتبدأ عمليّة تثبيت الأوتار والمفاتيح التي تُسمى "الملاوي" التي تشد تلك الأوتار على العود.
يتقن الحرفي محمد الهادي صناعة بعض الآلات الموسيقية، لكنّه امتهن أكثر صناعة العود التي طور فيها مهاراته منذ كان طفلاً، حتّى بات مدرسة في كيفية صناعة العود ومُعتمداً من قبل وزارة الثقافة منذ عام 1964. ويشير إلى أنّ "العديد من الشباب يُقبل على تعلّم صناعة العود في جهات عدة. ولم يجد عزوفاً أو نفوراً من تعلّم تلك الحرفة لا سيما أنّ العود التونسي بات مطلوباً حتى في الخارج في فرنسا أو إيطاليا وإسبانيا. وفي أحد متاحف كندا عود من صنعي".
في تلك الورشة يعمل ابنه معه في بعض الأوقات ليتعلّم تلك الحرفة أيضاً التي باتت صنعة عائلية لديهم. تعلّم كلّ ما يتعلّق بصناعة العود التونسي بكلّ تفاصيله.
وتضمّ ورشته البسيطة على العديد من آلات العود القدمية المعلّقة على كامل جدران المحلّ. كما توجد بعض الآلات الموسيقية القديمة التي جعلت المكان يبدو كأنّه متحف لآلات العزف النادرة.
والعود التونسي من الآلات الأساسية التي يعتمد عليها الفنّ التقليدي التونسي المعروف بالمالوف التونسي. وقد تمّ الاعتماد عليه في تلحين التراث الموسيقي التونسي سواء الآلي أو الغنائي الطربي. ويُشير بعض المؤرخين إلى أنّ آلة العود ترجع في الأصل إلى فترة الأندلسيين، خصوصاً أنّ العديد من النقوش التي توجد في العود التونسي شبيهة بنقوش الأندلسيين. كما أنّ الألحان شبيهة لأغاني بلاد الأندلس سابقاً، فيما يجزم مؤرخون آخرون أنّ العود التونسي يعود إلى ما قبل دخول الأندلسيين إلى شمال أفريقيا.
ويقول محمد الهادي إنّه "على الرغم من تشابه آلة العود بين بلد إلى آخر، يختلف العود التونسي كثيراً عن العود الشرقي لناحية الحجم والشكل والزينة وعدد الأوتار. ويتميزّ العود التونسي بصغر صندوقه الصوتي بالمقارنة بصندوق العود الشرقي. كما يحتوي على ثلاث قمرات ذات نقوش وزخارف مختلفة عن تلك التي في العود الشرقي، في ما يحتوي العود التونسي على أربعة أوتار في مقابل خمسة أو ستة أوتار في العود الشرقي".
كما يُشير الحرفي إلى أنّ "جلّ المواد المستعملة في ذلك العود تُستورد من الخارج، لأنّ تلك الآلة الموسيقية تحتاج إلى نوع خاص من الخشب الذي يتطلب بدوره خبرة حول كيفية قصه وتشكيل هيكل العود من دون أن ينكسر، فيما يحتاج الحرفيون أساساً إلى نوع من الخشب يصمد لأطول فترة ممكنة. لذلك، يجد الحرفيون صعوبة في توفير تلك المواد، مضيفاً أنّ "سعر العود التونسي يتراوح ما بين 300 دولار و100 دولار للعود الواحد، وهو سعر لا يقدر عليه جميع طلاب معهد الموسيقى أو هواة العزف على العود. لكنّه استطاع بيع عوده إلى غالبية الفنانين وأشهر عازفي العود في تونس".
ويستغرق محمد الهادي من شهر إلى ثلاثة أشهر لصنع العود، وأحياناً فترة أطول بحسب توفر المواد التي يحتاجها. وفي الغالب، ليس هناك تشجيع كبير على صناعة العود أو تسهيلات في توفير مواده الأولية. لذلك، فإنّ سعر العود التونسي مرتفع بالمقارنة مع الأنواع الأخرى. ويشير إلى أنّه بات يُصدّر العود التونسي إلى فرنسا، كما يُطلب من دول أوروبية أخرى عدة. لذلك، يُقبل العديد على تعلّم الحرفة لكن يجد محبي تلك الحرفة بعض الصعوبة في توفير المواد الأولية.
وقد احتفى النادي الثقافي "الطاهر الحداد" في المدينة العتيقة بالعاصمة التونسية، بآلة العود، من خلال تنظيم المهرجان الوطني للآلة خلال يونيو/ حزيران الماضي. كما بات ينظم سنوياً مهرجان للعود يشارك فيه أشهر صانعي العود في تونس إلى جانب عدد من الضيوف الأجانب، كما يشارك العشرات من أشهر عازفي آلة العود في تونس.