بعض الألوان وفرشاة للتزيين والعديد من القطع الخشبية القديمة كانت كفيلة بتحويل ورشة صغيرة في منزل محمد العبداوي إلى متحف في المدينة العتيقة في القيروان (تبعد نحو 160 كيلومتراً عن تونس العاصمة). منذ كان في السادسة عشرة من عمره، أحبّ تزيين الأخشاب، وهي حرفة تعلّمها من والده. اعتادَ أن يرافق والده إلى ورشة النجارة الصغيرة التي يملكها، حيث يعمل في تزيين الأثاث بالألوان والزخارف ذات الطابع العربي والأندلسي. كما كان ينتقل إلى البيوت القديمة لتزيينها بالزخارف القديمة، والتي باتت تغيب عن البيوت الحديثة وأثاثها العصري. تعلّم العبداوي كيفيّة رسم الخطوط والأشكال والزخارف المختلفة وتنسيق الألوان.
خلال تزيين الأخشاب، لا يعتمد على ألوان أو أشكال بعينها. يقول إنّ كلّ قطعة لها زينتها وألوانها. وفي بعض الأحيان، يلون الأثاث بحسب طلب الزبائن. خصّص الطابق العلوي من البيت لعرض ما ينتجه، ما جعله أشبه بمعرض صغير. فيما حول الجزء السفلي إلى مكان أشبه بورشة لتزيين الأثاث، وقد اعتاد البحث عن التفاصيل الفريدة من نوعها في الأسواق. يختار العبداوي ألواناً زاهية ويحولها إلى لوحات فنية. يزخرف الأطباق المصنوعة من الخشب أو الطاولات الصغيرة والكراسي وغيرها من قطع الأثاث التي تستخدم في كلّ البيوت.
وكانت غالبية البيوت القديمة في تونس، سواء في المدينة أو القرى والأرياف، تزين فيها العديد من الجدران بالخشب الملون والرسومات، لا سيما في غرف النوم أو قاعات الجلوس. وتجد أحياناً كامل أسقف تلك الغرف مزينة بالخشب. لذالك، كانت حرفة تزيين الخشب منتشرة في معظم الجهات التونسية وتمثل مورد رزق هاماً يتوارثه الأبناء غالباً عن آبائهم. تشترك جميعها في الزينة نفسها والأشكال وطريقة الرسومات. لكنّ الحرفة باتت شبه مندثرة اليوم، إثر تغير طريقة البناء وتزيين الأثاث، بعدما طغى الأثاث العصري على غالبية البيوت التونسية.
وكثيراً ما يضطر بعض أصحاب المنازل القديمة المتوارثة عن الأجداد إلى ترميمها وترميم أثاثها مع الحفاظ على شكلها وألوانها بهدف الحفاظ عليها كما كانت. وغالباً ما يجد أصحاب تلك البيوت صعوبة في العثور على حرفي قادر على ترميم الأثاث مع الحفاظ على طابعه القديم. يقول العبداوي: "هذه الحرفة باتت نادرة جداً اليوم، إذ إن معظم العائلات اليوم تُفضّل الأثاث العصري. إلا أن بعض البيوت التونسية تُخصّص غرفاً للجلوس تعتمد على الزينة والأثاث القديم".
وكثيراً ما يُطلب منه تزيين العديد من قطع الأثاث القديمة أو حتى الجديدة بالطابع التقليدي المتوارث. يضيف أنّ بعض المقاهي في المدن العتيقة تهوى الأثاث القديم الذي يُزيّن بالطريقة الأندلسية والعربية. برسوم تقليدية وألوان زاهية لإضفاء طابع خاص على المقهى.
وتنتشر تلك المقاهي في المدينة العتيقة في القيروان وسوسة والعاصمة وسيدي بوسعيد وبعض المناطق الأخرى. وغالباً ما يشترى أصحاب تلك المقاهي الأثاث القديم ويتم تزيينه بهذه الطريقة. لذلك، قد نجد بعض الأعمال التي من الممكن القيام بها".
يقول العبداوي إنّ "الوقت الذي تتطلبه كلّ رسمة يتعلق بحجم القطع الخشبية ونوع الرسمة والتفاصيل التي تحتويها. وغالبيتها تُرسم أولاً بقلم الرصاص قبل أن تلون". يضيف أنّه يستعمل مختلف ألوان طلاء الخشب لتلوينها، وهي ألوان تبقى لسنوات عدّة من دون أن يتغيّر شكلها أو رونقها.
من جهة أخرى، يوضح أنّ قطع الاثاث القديم أو ما يعرف بـ"الأنتيكا" المزخرف تُباع اليوم بأسعار باهظة كونها نادرة. سابقاً، كانت تلك الحرفة رائجة، خصوصاً أنّ غالبية الأثاث المستخدم، ولا سيما في سبعينيات القرن الماضي، يزين كما في الحقبتين الأندلسية والعثمانية. في تلك الفترة، كانت هذه المهنة تشغل العديد من الحرفيين في مختلف الجهات. لكن اليوم، قلة هم الأشخاص الذين يجيدون هذه الحرفة وفنّ الرسم على الخشب أو تزيين الأثاث القديم. وقلة هم الأشخاص الذين يقبلون على هذه الحرفة بسبب تغير طابع البيوت التونسية، بحسب ما يشرح.
ويُشير العبداوي إلى أنّه يعمل في تزيين بعض قطع الأثاث لبعض الحرفيين والزبائن وإثراء متحفه الصغير على الرغم من قلة الإقبال على مثل تلك المنتجات. إلّا أنّه مصرّ على مواصلة العمل في هذه الحرفة لأنه يعي تماماً أنّها قد تندثر نهائياً. ويتمنى تعليمها لعدد كبير ممن يرغب في تعلّم حرفة تزيين الأثاث القديم أو حتى الحديث لكن بطريقة تقليدية، "وخصوصاً أنّ البعض في تونس، بالإضافة إلى المقاهي والمحال التجارية يحافظ على هذا الطابع الفريد الذي يميز تونس عن بعض الدول، على الرغم من كون حرفة تزيين الأخشاب بالألوان ليست خاصة في تونس فقط. لكن، لكلّ بلد طابعه الخاص".