يتعرض مجمع ناصر الطبي في مدينة خانيونس لقصف إسرائيلي متواصل منذ عدة أيام، وبدأ القصف بمحيط المجمع، قبل أن يصل إلى أقسامه العلوية، مهدداً مئات المصابين وآلاف النازحين في داخله.
يستهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي إحكام سيطرته على مجمع ناصر الطبي ضمن مخطط أوسع لإحكام السيطرة على كامل مدينة خانيونس، وهو المخطط الذي بدأ قبل أكثر من شهر، وشهد تكثيف القصف والاجتياح البري لأنحاء المدينة، وإجبار سكانها والنازحين إليها على المغادرة جنوباً.
ومنذ منتصف شهر ديسمبر/كانون الثاني الماضي، غادر عدد كبير من النازحين الذين لجأوا في السابق إلى مجمع ناصر، والذين كانت أعدادهم تقدر بنحو 30 ألف شخص، كما غادر عدد من أفراد الطاقم الطبي بسبب تهديدات الاحتلال المتواصلة للمجمع، والذي بات حالياً يعمل بنحو 10 في المائة من طاقته البشرية في ظل ظروف شديدة القسوة.
يقول الناطق باسم وزارة الصحة في غزة أشرف القدرة إن "الوضع الصحي والإنساني في مجمع ناصر الطبي كارثي، ويسعى الكادر الطبي إلى محاولة علاج المصابين والجرحى، لكنهم في الكثير من الأوقات يعجزون عن فعل ذلك لعدم وجود المعدات والأدوات اللازمة وندرة الأدوية، فقد نفدت أدوية التخدير في غرف العمليات، ونفدت الأدوية المسكنة للآلام، حتى إن الطعام لم يعد متوفراً للطواقم الطبية أو المرضى والجرحى منذ أول من أمس الخميس".
يضيف القدرة لـ"العربي الجديد": "كمية الوقود المتبقية تكفي قرابة ثلاثة أيام، ويتواجد في مجمع ناصر الطبي نحو 150 من أفراد الكادر الصحي، وأكثر من 350 من المرضى والمصابين، ومئات الأسر النازحة، والاحتلال يمنع التحرك في مدينة خانيونس حالياً، وبالتالي، فإن الاستجابة للمتطلبات تكون صعبة، وقطاع غزة بالأساس يعاني من قلة المساعدات الغذائية والعلاجية، وما وصل لا يلبى حاجة المصابين والمرضى، والسيناريو نفسه تكرر مع مستشفيات أخرى. الاحتلال أضعف عمل مستشفيات خانيونس، وقطع الإمدادات عنها ومنع التواصل الجغرافي معها، ومستشفى الأمل التابع للهلال الأحمر قُصف بشكل مباشر، كذلك المستشفى الأوروبي، وبات يصعب على المصابين الوصول إليها، ولم يبق سوى مجمع ناصر الطبي الذي كان يغطي غالبية الإصابات، وهو حالياً يعمل بطاقة محدودة، ومحاصر من كل الجهات".
وخصص الاحتلال الإسرائيلي طريقاً لمغادرة النازحين في منطقة المواصي، لكنه أبقى على شارع صلاح الدين الرئيسي مغلقاً، رغم أنه الطريق الوحيد المخصص للشاحنات الكبيرة التي تنقل المساعدات في كافة محافظات قطاع غزة، وبالتالي منع وصول أية إمدادات إلى مجمع ناصر الطبي القريب من هذا الشارع في شرق مدينة خانيونس.
يمنع الاحتلال الإمدادات والتواصل الجغرافي مع مستشفيات خانيونس
وكشفت وزارة الصحة في غزة عن وفاة أعداد من المصابين نتيجة عجزها عن الوصول إلى مجمع ناصر، ومنع حركة طواقم الإسعاف والدفاع المدني في ظل استمرار حصار النازحين داخل مراكز الايواء، بينما يعجز الكثير من المصابين عن النزوح من مجمع ناصر الطبي بسبب القصف المستمر لمحيطه.
من بين هؤلاء المحاصرين، تقبع المصابة دعاء أبو عمر (24 سنة) داخل المجمع الطبي، ورغم أن إصابتها متوسطة، ويمكنها المغادرة، إلا أنها لا تتمكن من ذلك كونها ترافق ذويها المصابين. أطلق جيش الاحتلال، ظهر الخميس، النار عبر طائرات "كواد كابتر" تجاه الساحة الخلفية من المجمع، ما أربك الأوضاع في اقسام الطوارئ، وكادت دعاء أن تصاب برفقة مجموعة من النازحين، وغالبيتهم من المرضى وكبار السن، أو أفراد عائلات لا يستطيعون ترك ذويهم المصابين.
تقول لـ"العربي الجديد": "الأوضاع مخيفة وصادمة، والدماء على الأرض في كل مكان، والقمامة متناثرة في جميع الأقسام، والحركة مقيدة داخل المجمع، ما يجبر الطواقم الطبية على تنظيمها بمشاركة بعض المواطنين. لا أستطيع المغادرة لأني أرافق والدي ووالدتي وشقيقي، وثلاثتهم أصيبوا بإصابات بالغة، ونحن الباقون من أصل 15 فرداً من أسرتي التي نزحت في بداية القصف الإسرائيلي إلى مراكز الإيواء، ثم إلى مجمع ناصر الطبي، قبل أن يسيطر الاحتلال على المداخل المؤدية إلى المنطقة المحيطة بالمجمع، وبقية أفراد عائلتي وصلوا إلى مدينة رفح".
كانت أعداد النازحين إلى مجمع ناصر الطبي تقدر بـ30 ألف شخص
تضيف أبو عمر: "وضع والدي حرج، ووالدتي لديها إصابة بليغة، وينبغي أن يخضعا للعلاج، وفي بعض الأحيان نقوم بالتغيير على الجروح على إضاءة الهواتف. أشاهد الكثير من الفظائع في المستشفى يومياً، والموت يحيط بي من كل الاتجاهات، لكني لا أستطيع النزوح من دونهم".
ويكرر الاحتلال تهديد مجمع ناصر الطبي منذ شهر ديسمبر الماضي، وقام في السابق بقصف إحدى الغرف التي تضم مصابين، واستشهدت حينها طفلة كانت تنتظر العلاج. يقول الممرض في المجمع الطبي حسن زياد إنه أحد أفراد الطواقم الطبية الذين يرفضون ترك المصابين رغم إدراكه أن الاحتلال يتعمد إفراغ المجمع من النازحين، وتدمير محيط المستشفيات المركزية، كما فعل في مجمع الشفاء الطبي بمدينة غزة، والمستشفى الإندونيسي في شمال القطاع، كما يقوم بقصف المستشفيات المساندة التي تكون على تواصل مع المستشفى المركزي في كل محافظة، ويُجرى بينها نقل الجرحى وتبادل الحالات، وإجراء العمليات الجراحية.
يوضح زياد لـ"العربي الجديد" أنه "مساء الأربعاء الماضي، اضطرت طواقم المجمع الطبية إلى وقف العمل في بعض الأقسام لعدم مقدرتهم على تشغيلها، في حين تحول عدد من الأقسام العامة إلى العمل ضمن خطة الطوارئ من دون إضاءة، وبلا معدات طبية أو مستهلكات. قمنا بإجراء عمليات جراحية على أضواء الجوالات بعد انقطاع التيار الكهربائي بسبب محاصرة الاحتلال المستشفى، ونعيش أياماً غاية في الصعوبة، وأتمنى أن تتوقف الحرب فوراً، فهناك مرضى سيموتون لو استمر هذا الحال، والطواقم التي لم تغادر لا تملك فعل الكثير لهم، ونقدم العلاج والدعم النفسي في حين أننا نعاني من صراع نفسي وارهاق جسدي شديد".
صمم مجمع ناصر الطبي لاستيعاب 350 مريضاً، لكنه بات مكتظاً بشكل خطير، ووصل عدد المرضى إلى أكثر من ألف، ما اضطر إدارته إلى مضاعفة عدد الأسرة في غرف الطوارئ بمعدّل ثلاث مرات، وزيادة عدد غرف العمليات إلى 12 بعد أن كانت 4 غرف عمليات فقط قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ووُسّعت وحدة العناية المركزة من 12 إلى 40 سريراً.
ويعد مجمع ناصر الطبي المجمع الحكومي الأكبر في جنوب القطاع، وكان في السابق يحمل اسم "مستشفى ناصر" نسبة لاسم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وهو ثاني أكبر مستشفيات قطاع غزة بعد مجمع الشفاء الطبي، وانتقل تركيز وزارة الصحة إليه بعد سيطرة الاحتلال على مجمع الشفاء، وباتت تجرى داخله غالبية العمليات الجراحية الكبرى، لكنه يعاني من تقلص أعداد الطواقم الطبية.
بدأ إنشاء المستشفى في عام 1957، وافتُتح في عام 1960، وحينها، كان قطاع غزة يخضع للإدارة المصرية، وكان مكان البناء موقعاً لثكنات عسكرية بريطانية أقيمت في المنطقة عام 1940 لغايات الحجر الصحي وعلاج أمراض الحمى، وحُوّلت لاحقاً إلى نقطة طبية لعلاج المواطنين.
خلال حرب 1967 "النكسة"، تحول المستشفى إلى مركز مهم لعلاج الجنود المصابين في الحرب، قبل أن يسيطر الاحتلال الإسرائيلي على كامل قطاع غزة، ويعتقل بعض الجنود المصريين والفلسطينيين فيه، لكن بعدها بسنوات، عاد المستشفى إلى خدمة الغزيين، وكان يضم 160 سريراً. وفي عام 1974، تأسس فيه أول قسم للعظام في القطاع، والذي انتقل بعدها بسنوات إلى مستشفى الشفاء الطبي بعد أن أغلقه الاحتلال بحجة التلوث، وحينها كان قطاع غزة خاضع لإدارة الاحتلال العسكرية.
في عام 1985، وصل عدد الأسِرة في المستشفى إلى 243 سريراً، وأصبح مستشفى متكاملاً يضم أقسام الباطنة والجراحة والطوارئ والأطفال والنساء والولادة، ومختبراً وبنكاً للدم، وعندما بدأت السلطة الفلسطينية حكم قطاع غزة بعد اتفاقية أوسلو، تولت إدارة المستشفى، وافتتحت في عام 1994 مبنى مستشفى التحرير الذي يتبع مجمع ناصر الطبي، وخُصصت فيه ثلاثة طوابق للعلاج الطبيعي، والعيادات الخارجية والاستقبال، وأقسام الولادة والعمليات المتخصصة، والأطفال والحضانة.
اضطر الأطباء مؤخرا إلى وضع بعض الجرحى على الأرض وفي الممر في أوقات سابقة، لعدم وجود أسرة كافية في وحدة العناية المركزة التي فيها حالات خطيرة، ولا يزال الوضع قائماً في ظل امتلاء المستشفى بالمرضى والمصابين وتقييد حركة الوصول، في المقابل صمود الطواقم الطبية التي تُصر على استكمال المسيرة الطبية.