غادر الفوج الأخير من الغزيين المحتجزين في مجمع الشفاء الطبي صباح السبت، بعد أن تلقوا أوامر من جيش الاحتلال بإخلاء كامل المجمع، مع بقاء عدد محدود من المصابين أصحاب الحالات الخطرة، وبعض الطواقم الطبية التي تشرف عليهم.
كانت مديحة الخطاب (46 سنة) وزوجها المصاب وأسرتها المكونة من أربعة أفراد تقبع مع مئات من النازحين داخل أحد الأقسام السفلية في مجمع الشفاء، حتى يحتموا من القذائف والشظايا المتطايرة نتيجة قصف المحيط، ثم قصف ساحات المجمع، إذ إن زوجها أصيب بكسر في ساقه، وحروق في عدد من مناطق جسده خلال قصف سابق على حي تل الهوا.
حين بدأ الاقتحام الإسرائيلي، في صباح يوم الأربعاء، كان ابنها الأكبر سليم (18 سنة) بالقرب من والده، وعندما توجه ناحية الباب لإحضار الماء من الممر، أوقفه أحد جنود الاحتلال، وقام بتفتيشه بقوة، فأخبرته أنه ابنها، وأنه يرافق والده المريض، فدخل الجندي إلى الغرفة التي كان فيها العديد من المصابين، والتي كانت غرفة استقبال للحالات الطارئة، وتحولت إلى مأوى للنازحين والمصابين.
تقول الخطاب لـ"العربي الجديد": "اقترب الجندي الذي كان يتحدث العربية قليلاً، وسألني من أين أنتم؟ وماذا يعمل زوجك المصاب؟ فأخبرته أنه كان يعمل في أحد المتاجر، وهناك أصيب، فنظر إليّ وقال: لم يكن مع المخربين؟ فقلت: هل هذا وقت تحقيق وزوجي مصاب؟ ليس لنا علاقة بالسياسة. اتركونا في حالنا". وتضيف: "بعدها بدأ التحقيق مع المصابين والمرضى، وطلبوا من المرافقين الوقوف، وقاموا بتفتيشهم، وكانوا لا يهتمون بآلام المصابين وصراخ الأطفال المرعوبين، وفجأة اقترب جندي من طفل محاولاً ملاطفته، فنهرته أم الطفل التي كانت بالقرب مني قائلة: كيف تريده أن ينظر إلى وجهك وأنت داخل بكلّ هذه الأسلحة. أنتم سببتم الرعب للأطفال".
استطاع نجل الخطاب الحصول على كرسي متحرك بعد أن طلب منهم الاحتلال المغادرة عبر مكبرات الصوت، وتشير إلى أن "غالبية الكراسي التي كانت في المستشفى كانت محطمة، وكنا نفكر في إمكانية إصلاح أحدها حتى يتمكن زوجي من استخدامه للمغادرة، لكننا وجدنا كرسياً سليماً لاحقاً. استغرقنا نحو ثلاث ساعات في المسافة من مجمع الشفاء حتى شارع عشرة في حي الزيتون، ومررنا بحاجز للاحتلال يضع أجهزة تفتيش، وصولاً إلى شارع صلاح الدين، وقد وصلنا أخيراً إلى مدينة خانيونس".
كان الطبيب رامز رضوان من بين الأطباء الذين طلب منهم الاحتلال مغادرة مجمع الشفاء إلى جنوبي قطاع غزة، وكانت معه أسرته التي نزحت سابقاً من منزلها إلى المجمع ليكونوا رفقته بالقرب من عمله، ويضمنوا بقاء التواصل معه، على الرغم من نزوح غالبية العائلات إلى الجنوب في بداية دخول الدبابات الإسرائيلية إلى محيط مدينة غزة.
يقول رضوان لـ"العربي الجديد": "هددنا جيش الاحتلال مراراً، وقال بشكل مباشر إنه يجب علينا المغادرة باستثناء المصابين وطبيب وبعض الطواقم الطبية وبعض من طاقم التمريض لرعاية المصابين. عشت فظائع لم أرها طوال حياتي العملية التي تمتد لأكثر من 35 عاماً في مستشفيات وزارة الصحة، فعشرات الجثث كانت متحللة في الساحات، وكان الجنود يعبرون أمامها ولا يبالون، فهم مهتمون بأهدافهم العسكرية المزعومة. خلال الأيام الأخيرة، كانت أوضاع المرضى داخل مجمع الشفاء الطبي تزداد سوءاً مع نفاد الأدوية، وبات المستشفى أشبه بقطعة من الجحيم، حتى إن الطواقم الطبية أصبحت مجرد طواقم دعم نفسي للمرضى نتيجة العجز عن تأمين العلاج".
ويتابع: "أثناء اقتحام جيش الاحتلال، كان عدد من المصابين في أقدامهم، وخصوصاً المصابين بكسور، مطالبين بالمغادرة رغم أنهم لا يقدرون على الحراك، ورغم ذلك دخل عليهم الجنود، وكانوا يصرخون عليهم إمعانا في التنكيل، وحققوا مع العديد من الممرضين والأطباء، وشخصياً سألوني عن اسمي وإقامتي، ومن معي من عائلتي، وعن تفاصيل حياتي، وحدث هذا مع كثير من المصابين والطواقم الطبية".
ويضيف: "كنا نواجه نقصاً في الأدوية والمسكنات، وتظهر بكتيريا خطيرة على أقدام المصابين، حتى إنني رأيت ديدانا تخرج من الجروح، بينما لا نملك مضادات حيوية، ولا يوجد معمقات لتنظيف الجروح، ولا مياه نظيفة حتى يمكن أن نستخدمها في تطهير الجروح. دخل جنود الاحتلال مدججين بالأسلحة، واقتحموا ثلاجات الموتى، ونقلوا مئات من الجثث إلى مركباتهم، ولا أعرف إلى أين أخذوها".
حصار واقتحام الاحتلال لمجمع الشفاء الطبي أوقعا مئات الشهداء
نزح شادي عيد (42 سنة)، رفقة والدته المصابة فايزة عيد (67 سنة) من حي الرمال إلى مجمع الشفاء، ويؤكد أن العديد من المرضى توفوا أمام ناظريه في المستشفى عندما اقتحمه الجيش الإسرائيلي، وأخبرته إحدى السيدات عندما نزلوا إلى ساحة المجمع للمغادرة، أن المصاب أبو خليل الذي كان ينازع الموت، كان لا يتحرك وأنه توفي.
يقول عيد لـ"العربي الجديد": "نزحت أسرتي قبل أكثر من 10 أيام، وبقيت مع والدتي التي أصيبت في الرأس نتيجة قصف منزلنا، فهي لا تستطيع الحركة، وعندما دخل جيش الاحتلال طلب من الرجال الوقوف في صف داخل أحد الأقسام، ثم مرروا على أجسادنا جهازاً يدوياً للفحص. كان منهم من يتحدث اللغة العربية بطلاقة، وآخرون بتكسير، وكانوا يكررون السؤال إن كان هناك أحد تحت الأرض، وأحد الجنود الذي لا يفهم العربية سألني إن كنت أتحدث الإنكليزية، فأخبرته بإجادتي لها لأنني درست في الولايات المتحدة، وأعتقد أنه جندي من أصل أميركي لأنه يعرف الجامعة التي تخرجت منها في ولاية فيرجينيا".
يقيم عيد حالياً داخل خيمة في إحدى مدارس وكالة "أونروا" مع والدته المسنة المريضة، ومعهما السيدة أم ريان العطار التي غادرت رفقتهم، وكانت ترعى والدته عندما يذهب لإحضار الطعام أو الماء.
تقول العطار لـ"العربي الجديد": "كان الجنود لا يبالون بآلامنا أو رعبنا حين يدخلون الأقسام، لكنهم يواصلون التفتيش، وأحياناً التنكيل حتى بالمرضى الذين لا يستطيعون الحركة. ابنتي لمى (4 سنوات) كانت تبكي رعباً، ودخل علينا الجنود المدججون بالسلاح للتفتيش، فقلت لهم: نحن مجرد نساء وأطفال، فاقترب أحد الجنود وبدأ التحقيق معي، وكان يبدو عليه الخوف، فقلت له: لا تقلق فأنا لا أحمل سلاحاً، لو أني أحمل السلاح لما بقيت هنا".
حاولت طواقم مجمع الشفاء الطبية دعم المرضى نفسياً لعجزهم عن تأمين العلاج
والأحد، أعلنت وزارة الصحة في قطاع غزة، إجلاء الأطفال الـ31 الخدج من مجمع الشفاء الطبي، تمهيداً لنقلهم إلى مستشفيات في مصر، بينما ظل عشرات من المرضى المصابين بجروح خطيرة عالقين في المستشفى بعد أيام من اقتحامه من جيش الاحتلال. واستحوذ مصير الأطفال الخدج في مستشفى الشفاء على اهتمام عالمي بعد نشر صور تظهر الأطباء وهم يحاولون إبقاءهم دافئين، وأدى انقطاع التيار الكهربائي إلى إغلاق الحضانات، وتوقف المعدات، كما نفد الغذاء والمياه والإمدادات الطبية.
وزار فريق تابع لمنظمة الصحة العالمية مجمع الشفاء يوم السبت، وقال إنّ عشرات المصابين بأمراض خطيرة عالقون داخله، بينما تتمركز فيه القوات الإسرائيلية منذ الأسبوع الماضي، مع إجبار الموجودين فيه على المغادرة إلى جنوب القطاع، وقالت المنظمة إنه لا يزال 25 عاملاً صحياً مع 291 مريضاً في مجمع الشفاء.
وفي وقت سابق، قال المدير العام للمستشفيات في قطاع غزة، محمد زقوت، إن ما حصل في مجمع الشفاء الطبي ومحيطه أوقع مئات الشهداء، لكن منع وصول سيارات الإسعاف وطواقم الدفاع المدني أدى إلى عدم معرفة الأرقام، أو ما حصل للجثث، كما نفد الوقود اللازم لعمل الأجهزة، ونتيجة ذلك فارق معظم مرضى العناية المركزة الحياة.
ويقول زقوت لـ"العربي الجديد": "حالياً لا خدمات طبية في شمال القطاع ومدينة غزة، ولم نتمكن من إخراج أي جريح حالته حرجة من المجمع، فالاحتلال يماطل ويمنع خروجهم، وهناك عشرات الجرحى في المجمع الذين لا يستطيعون المغادرة، وقبل مغادرتنا المجمع كان هناك العديد من مرضى الكلى، وقد سمح الاحتلال ببقاء بعض من الطاقم الطبي، وحتى صباح الأحد، تلقينا أخباراً حول استشهاد 6 من مرضى الكلى، و23 من مرضى العناية المركزة، وطفل خامس من الخدج، وذلك قبل إجلاء بقية الأطفال الخدج من المستشفى، وعددهم 31 طفلاً، من قبل منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة، في تدخل متأخر للغاية".