مجمع الشفاء... شهادات الحصار والنزوح تحت نيران الاحتلال

13 نوفمبر 2023
أطباء مجمع الشفاء عاجزون عن علاج المرضى (أشرف أبو عمرة/الأناضول)
+ الخط -

يؤكد المتبقون داخل مجمع الشفاء الطبي، وعدد من الطواقم الطبية، أن جثامين الشهداء لا يمكن الوصول إليها بسبب تركيز الاحتلال الإسرائيلي استهداف محيط المجمع الطبي، خصوصاً البوابات المطلة على الشارع الرئيسي التي باتت دبابات الاحتلال على بعد أمتار منها.
تمكن النازح عبد الرحمن شهاب (32 سنة) من مغادرة مجمع الشفاء الطبي صباح الأحد، والوصول إلى مدينة خانيونس برفقة أسرته، إذ كان ابنه سهم (ثلاث سنوات) يعاني من الجفاف، بينما لا توجد أية مقومات للعلاج في المجمع رغم وجود الطواقم الطبية. قطع شهاب وزوجته وأطفاله الثلاثة مع أسرة أخرى مكونة من خمسة أفراد المسافة بين مدينتي غزة وخانيونس سيراً على الأقدام رغم المخاطر التي كانت تحيط بهم.
يقول  لـ"العربي الجديد": "اتخذت قرار النزوح بعد استهداف خيمة الصحافيين واستهداف الطواقم الطبية مساء يوم الخميس، لكن شقيقي أيمن كان عاجزاً عن اتخاذ القرار، ولذا لم نشارك في الفوج الذي خرج صباح الجمعة، وعندما زادت الانتهاكات وأصوات طلقات النار صباح يوم السبت، قررت مع شقيقي المغادرة، ثم تراجعنا مجدداً، لكن مساء السبت، قررنا مغادرة مجمع الشفاء الطبي مع مجموعة من قرابة ست عائلات من النازحين إلى المجمع. وصباح الأحد، قمنا برفع فانلات بيضاء، والسير إلى الخارج، لكن مع اشتداد القصف، قررت أربعة عائلات عدم المشاركة في الرحلة خشية الموت، وفضلت البقاء في المجمع على الخروج".
يعتبر شهاب أن الرحلة التي خاضها مع عائلته "كانت كابوساً. خرجنا من بوابة خلفية لمجمع الشفاء الطبي رافعين الفانلة البيضاء. وصلنا إلى شارع عمر المختار، ثم مشينا باتجاه الجنوب للوصول إلى شارع الثلاثيني، ثم سلكنا طريقاً إلى مفترق (شارع عشرة) الفاصل بين حي الزيتون وتل الهوا غرباً وشارع صلاح الدين شرقاً. عندما وصلنا إلى مفترق شارع عشرة مع شارع صلاح الدين، وجدنا نقطة لجيش الاحتلال، وكانوا يقومون بتفتيش المارة، وبدأت زوجتي وأطفالي بالبكاء. أشار الجندي لنا بالاقتراب، ورفعت هويتي حسب تعليماتهم. نظر إلي الجندي وسألني: حماس ولا (أو) جهاد، فقلت: أنا مع الله. نظر إلى الأغراض التي نحملها، وطلب فتحها لرؤية ما فيها، ثم طلب منا السير، وألا نفكر بالعودة إلى مدينة غزة مجدداً. لم أعرف ما الذي يقصده، هل سنحرم من العودة إلى المدينة للأبد؟ أم حتى انتهاء الحرب".
يضيف: "في كثير من الأوقات، كنا أثناء السير نسمع أصوات طلقات الرصاص، فكنت أرفع الفانلة البيضاء بينما أحمل طفلي آدم الذي لم يتجاوز عمره 5 أشهر، وشاهدت الكثير من الجثث الملقاة في الشارع، والكثير منها كان متحللاً، أو على وشك التحلل، وبعض الشوارع كانت تنبعث منها روائح كريهة أعتقد أنها لجثث متحللة، حتى إن زوجتي أغمي عليها في الطريق، وقمت بتوقيف إحدى العائلات النازحة مثلنا للحصول على بعض الماء منهم، وساعدوني على إفاقة زوجتي، ثم مساعدتها على النهوض مجدداً لمتابعة السير، حتى وصلت عربة يجرها حمار، فكانت وسيلتنا للوصول برفقة الأسرة التي كانت تصاحبنا إلى المنطقة الفاصلة بين دير البلح ومدينة خانيونس".

النازحون إلى مجمع الشفاء الطبي لا يستطيعون تأمين حاجياتهم المعيشية

كان أيمن شهاب (40 سنة)، شقيق عبد الرحمن، يريد مرافقة شقيقه في رحلة النزوح من مجمع الشفاء، لكنه تراجع، فزوجته حامل في الشهر السادس، ولديه طفلان، ما جعله يقرر البقاء لأنه يخشى عليهم من تلك الرحلة. ودع أيمن شقيقه وكأنه ذاهب إلى الموت. يقول لـ"العربي الجديد": "يُعتبر البقاء في مجمع الشفاء الطبي نوعاً من الموت، لكن المغادرة أيضاً ليست آمنة، قررت البقاء، وكنت أتلمس خبر وصول شقيقي إلى مدينة خانيونس، وكانت تصل إلينا أخبار حول استهداف الاحتلال مجموعات من النازحين".
يضيف أيمن: "غالبية النازحين لا يغادرون مجمع الشفاء، وبعض من قرروا الخروج لتنفس الهواء شموا روائح كريهة تنبعث من الشوارع المحيطة، وعندما خرجت لمرة، وجدت الطواقم الطبية تغطي جثث الشهداء في الساحة المقابلة للباب الشرقي حتى لا تفوح الرائحة، وكان بعضهم يحاول منع الكلاب من الاقتراب من جثث الشهداء، وقد عدت بصدمة كبيرة، وندمت على البقاء وعدم المغادرة مع شقيقي".

قرر مصطفى أبو عيادة البقاء داخل المجمع برفقة أسرته التي تضم والدته المسنة، وأبلغ "العربي الجديد"، عبر تسجيل صوتي، أن "الأوضاع تتجه إلى الأسوأ، وأنا عاجز عن تأمين طعام أو ماء منذ يومين، وفي آخر مرة ذهبت إلى أحد صنابير الحمامات لشرب الماء، لكني لم أجد فيها ماء، والعديد من النازحين إلى المجمع تعرضوا للإصابة نتيجة إطلاق الاحتلال قذائف متكررة، وحاول الناس إسعافهم مع الطواقم الطبية، فالأمر يتجاوز قدرات الجميع".

توقف مجمع الشفاء الطبي عن العمل (أشرف أبو عمرة/الأناضول)
توقف مجمع الشفاء الطبي عن العمل (أشرف أبو عمرة/الأناضول)

يضيف أبو عيادة: "طلبت من شخص لديه إنترنت إرسال رسالة إلى حساب شقيقي في موقع فيسبوك، والذي نزح إلى الجنوب حتى يوفر النجدة لوالدتي، فهي تشعر باختناق، لكن شقيقي لم يرد حتى هذه اللحظة، وربما لا يوجد عنده إنترنت، أو لا ينظر إلى الرسائل. والناس تموت، لكن لا يسعهم سوى الانتظار".
بالقرب من أبو عيادة، كانت تقف السيدة الخمسينية أم أشرف، وتقول إن معها اثنين من أبنائها، وإن زوجها الستيني مصاب، ويخضع للعلاج في مجمع الشفاء. تضيف: "نشم روائح الجثث في كل مكان، والوضع لا يطاق، ونبحث عن أي شخص لديه إنترنت، أو وسيلة اتصال في المجمع، حتى نبعث رسائل إلى أقاربنا، ونخبرهم أن يحاولوا نجدتنا عبر التواصل مع أي منظمة دولية. الناس في مجمع الشفاء تموت، والمرضى مكتظون في الغرف".

وحسب وزارة الصحة في غزة، فإن قرابة 15 ألف نازح موجودون داخل مجمع الشفاء الطبي، وهؤلاء غير قادرين على التنقل، أو تأمين حاجياتهم من خارج المجمع، واستطاع عدد منهم النزوح باتجاه جنوبي القطاع، لكن أعداداً أكبر ما زالت داخل المجمع، وهم موجودون في الأقسام الخلفية، وغالبيتهم يبتعدون عن الممرات والساحات المكشوفة، التي تعرضهم لخطر الاستهداف.
وتشير تقديرات وزارة الصحة إلى أن غالبية النازحين الذين بقوا في مجمع الشفاء هم من العائلات التي تضم أشخاصاً مسنين، أو الأشخاص ذوي الإعاقة الحركية، وهؤلاء يشكلون نحو 30 في المائة من النازحين، فضلاً عن أسر المصابين وأصحاب الأمراض المزمنة أو الأمراض الخطيرة مثل السرطان، ومن يحتاجون إلى غسيل الكلى وغيرها من الأمراض التي تحتاج إلى متابعة طبية مستمرة.
وحسب تصريحات وكيل وزارة الصحة في غزة يوسف أبو الريش، فلن يكون المجمع قادراً على تشغيل العيادات الخارجية لرعاية أصحاب الأمراض المزمنة، وإن الطواقم الإدارية لوزارة الصحة في المجمع أصبحت غير قادرة على إحصاء أعداد الشهداء بعد فقدان طواقم الإسعاف القدرة على الوصول إلى أماكن القصف، ومواصلة استقبال المصابين في الممرات.

وتحللت نحو 100 جثة لشهداء في ساحة مجمع الشفاء، ولا يمكن دفن تلك الجثامين بسبب استهداف الاحتلال كل من يتحرك، ومنذ يوم الجمعة، يشتد اقتحام مناطق محيط المجمع، خصوصاً حي النصر، ووصل عدد من جثامين الضحايا إلى مجمع الشفاء الطبي، وكان مخططاً دفنهم في منطقة قريبة قامت وزارة الصحة بإقامة مدافن مؤقتة فيها، لكن مع اشتداد القصف على محيط المجمع الطبي، تقرر ترك الجثامين في مكانها.
ويؤكد مدير مجمع الشفاء الطبي محمد أبو سلمية أن المجمع بحاجة إلى 8 آلاف ليتر من الوقود على الأقل يومياً لأغراض التشغيل، بينما يحاول الاحتلال تجميل صورته عبر عرض 300 ليتر فقط، وذلك عبر وساطة مؤسسات دولية مثل الصليب الأحمر، لكن تلك الكمية لا تكفي سوى لتشغيل جهاز واحد في المجمع الطبي، في حين أن المطلوب هو ممر آمن لتزويد المجمع وغيره من المستشفيات بالوقود اللازم للتشغيل، وإنقاذ أرواح المرضى.
وأكدت وزارة الصحة ارتفاع أعداد الوفيات من جراء انقطاع الخدمات في مجمع الشفاء إلى 32 مريضاً وطفلاً، فيما يحاصر الاحتلال الإسرائيلي قرابة 15 ألف نازح يقبعون داخل المجمع في انتظار تدخل عاجل من أي جهة لإنقاذهم.

المساهمون