ظهر أول من أمس، كان مخيم جباليا يشهد قصفاً في أماكن متفرقة عند أطرافه وعلى حدود المناطق الشمالية منه، وسط حركة ناس قليلة. كان هؤلاء يحاولون تأمين احتياجات أسرهم من الطعام والماء. عصراً، أغارت الطائرات الإسرائيلية على مربع كامل بست قذائف ثقيلة، حيث عشرات المنازل في شرق منطقة الترنس، وهي منطقة مكتظة بالسكان وتتلاصق فيها المنازل.
لم يغادر عدد كبير من سكان المخيم، في وقت سابق، لعدم وجود أماكن يمكن أن ينزحوا إليها جنوبيّ قطاع غزة. واعتقد البعض أن الابتعاد عن الشوارع والساحات العامة والتواجد في قلب المخيم أكثر أماناً، كما يقول محمد الأسود (28 عاماً)، القاطن في بلوك الـ6 المحاذي للمنطقة التي ارتكبت فيها المجزرة.
يقول لـ"العربي الجديد": "دوت ستة انفجارات ضخمة. كنت في السوق، وقد وصلت الشظايا إلى حدّ السوق. هذه منطقة مكتظة جداً بالسكان. حتى إخوتي وأعمامي كانوا موجودين في المنطقة. صدمت بحجم الدمار. أول ما رأيته مشهد أطفال يحملون أطفالاً من أقاربهم الشهداء والجرحى". يضيف: "أسقف البنايات المحيطة كانت مدمرة. أغلب الذين تحت الأنقاض استشهدوا ومعظمهم من الأطفال والنساء. عدد قليل ممن كانوا تحت الركام نجوا من المجزرة، وكانوا على بعد مئات الأمتار من المكان. بعض الأشخاص الذين كانوا خارج المنازل أصيبوا وكانوا مُلقَين على الأرض. رأينا جثثاً متفحمة".
ويقول الأسود إن "بعض الناس الذين وصلوا لم يتعرفوا إلى المكان، لأن معالم المربع السكني اختفت بالكامل على مساحة كبيرة. حتى إن الركام غطى شارعاً فرعياً يفصل المنطقة عن الشارع المؤدي إلى السوق. أمر عرقل حركة طواقم الإسعاف والدفاع المدني من الوصول إلى المصابين. كان الناس هم من يوصلون المصابين إلى سيارات الإسعاف".
أصيب الأسود بحروق في جميع أنحاء جسده. ويقول إنه عندما شارك الناس في إنقاذ المصابين، رأى مشاهد مؤلمة. "أحد الشهداء كان يمسك فنجان قهوة، وامرأة كانت تمسك مقلاة، وتبدو وكأنها كانت تحضر الطعام، فيما كان طفل يمسك بقطعة من الخبز".
أما فارس الشريف، وهو من سكان المخيم، فكان موجوداً على مقربة من المجزرة. لم يتمكن من النزوح مع أسرته الموجودة في مخيم جباليا، مشيراً إلى أنه قُصفت أكثر منطقة مكتظة بالسكان. وكان قد نزح عدد من الأسر إلى المخيم من بلدة بيت حانون وبيت لاهيا وشمال القطاع، وأغلبهم من الأطفال والنساء. وفي لحظة القصف، كان الآباء يحاولون تأمين المياه والطعام لأبنائهم، لكنهم عادوا ليجدوهم شهداء.
رافق الشريف العربات لإيصال المُصابين من أصدقائه إلى المستشفى الإندونيسي على مقربة من مدينة الشيخ زايد. كان الوصول صعباً في ظل حجم الدمار. استوعب المستشفى مئات المصابين خلال وقت قليل، واضطرت الطواقم الطبية إلى معالجة المئات منهم على الأرض من دون أسرّة أو أية أدوات طبية. استخدم بعضهم الماء لمسح الدماء من أجل معرفة حجم الإصابات. يقول لـ "العربي الجديد": "القصف كان من دون أي سابق إنذار. ستة انفجارات هزت المنطقة. جميع الضحايا مدنيون. لا نعلم مبرر قتل أطفال ونساء ومسنين. حتى أرضية الشارع دُمّرَت بالكامل، وبات هناك حفرة كبيرة. هناك جثث لا تزال تحت الأنقاض، ويصعب الوصول إليها. رأيت رجلاً يبكي. كان قد غادر المنزل لإحضار الطعام لأفراد أسرته، لكنه عاد ليجدهم شهداء".
ويسمى المربع الذي قصفه الاحتلال مربع السنادية، نسبة إلى قرية دير سنيد المحتلة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وتقع على بعد 12 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من غزة. وهُجر معظم سكانها إلى مخيمي جباليا والشاطئ غرب مدينة غزة. وتعادل مساحة المربع المستهدف ملعب كرة قدم، كما يقول عبد المنعم أبو سلطان، الذي استشهد عدد من أفراد عائلته. ويوضح أبو سلطان أن المربع يضم حوالى 50 منزلاً، ومئات الأهالي والنازحين من أقارب العائلات، من بينها عائلات أبو نصر ومسعود وأبو سلطان وأبو القمصان وحجازي والتلمس وعكاشة.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الاعتداء ليس الأول في المخيم خلال هذه الحرب، ففي التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أغار الاحتلال الإسرائيلي على منطقة الترنس وسط المخيم، واستُشهد 50 مواطناً من المخيم وأصيب العشرات.
لا مكان للفرار
يقول أبو سلطان لـ "العربي الجديد" إن "العائلات الضحايا كانت قد عجزت عن النزوح لأسباب عدة. من بينها خوفها من مخططات التهجير الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية. هؤلاء رفضوا تكرار نكبة 1948، فيما لم يجد آخرون أماكن للنزوح إليها، فضلاً عن عدم القدرة على التنقل بسبب الفقر". ويقول أبو سلطان لـ "العربي الجديد": "تعرض المخيم طوال سنوات العدوان لعدد من المجازر الإسرائيلية واستهداف المدنيين وقتلهم من دون سابق إنذار. كنت شاهداً على مجزرة مدرسة الفالوجا في العدوان الأول عام 2009، ثم مجزرة مدرسة أبو حسين عام 2014، والمجزرة التي حدثت في بداية العدوان. في هذه المجزرة جميع الضحايا كانوا مدنيين نازحين وسكان المخيم، وهؤلاء فقراء يعيشون مع انعدام كل مقومات الحياة".
مخيم جباليا الأكثر اكتظاظاً
يُعَدّ مخيم جباليا منطقة صراع رسمية مع الاحتلال الإسرائيلي. كان نقطة شرارة الانتفاضة الأولى عام 1987، كما تقول المسنة فايزة عايش (75 عاماً)، التي واكبت تفاصيل كثيرة في حياة المخيم. ولدت في قرية يبنا المحتلة عام 1948، وتبعد 15 كيلومتراً عن شمال قطاع غزة. ثم انتقلت لتعيش مع أسرتها في خيمة من أوائل الخيام التي أُنشئت في المخيم.
وأُسس مخيم جباليا عقب التهجير الفلسطيني خلال النكبة الفلسطينية عام 1948، واستقبلت المنطقة السكان من القرى الحدودية لمدينة غزة التاريخية التي كانت تمتد حتى حدود مدينة المجدل المحتلة. وهاجر معظم سكان مدينة المجدل إلى مخيم جباليا، ثم توزع بعضهم في مناطق متفرقة، بالإضافة إلى مهجرين من مدينة يافا وقرى وبلدات محيطة بمدينة غزة.
يضم المخيم قرابة 120 ألف لاجئ فلسطيني، وفيه 26 مدرسة تتبع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
انتشرت في المرحلة الأولى خيام كبيرة استمرت لسنوات، وقد أتلف بعضها من جراء الأمطار والحرارة. ثم جاءت مرحلة تشييد بيوت صغيرة مكونة من أسقف اسبستية، على أن تكون مؤقتة للمقيمين فيها. لكن تلك المنازل تحولت إلى مبانٍ مليئة بالسكان ومتلاصقة. وأصبح مخيم جباليا الأكثر اكتظاظاً بين المخيمات الثمانية في قطاع غزة، بحسب الأونروا. وتشير إلى أنه دائماً ما كان ضمن أهداف الاحتلال الإسرائيلي خلال كل عدوان، وقد ارتكب الاحتلال الإسرائيلي مجازر عديدة في حق المدنيين فيه، وحتى في زمن الانتفاضة الأولى.
استقبل مخيم جباليا في أول أيام العدوان آلاف النازحين من بلدة بيت حانون وبلدة بيت لاهيا ومنطقة العطاطرة والسلاطين شماليّ القطاع. وامتلأت مدارس الأونروا بالنازحين. لكن التهديد الإسرائيلي المتواصل أجبر بعض سكان المخيم والنازحين على ترك المخيم إلى وسط قطاع غزة وجنوبه، لكن بقي عدد منهم.
تقول عايش لـ "العربي الجديد": "رصاصة واحدة قد تقتل من هم داخل المنزل، لأن أسقف البيوت اسبستية في ظل الفقر. طوال حياتي لم أترك المخيم. تركنا أرضنا التي هجرنا منها من دون أن أعي. لكن هذا اليوم، بسبب المجزرة الكبيرة، تركت المخيم لأول مرة في حياتي... وكأني تركت قلبي هناك".
وقالت وزارة الصحة في غزة، إن جيش الاحتلال اقترف "مجزرة مروعة" جديدة الثلاثاء، بعد أن قصف حيّاً سكنياً محاذياً للمستشفى الإندونيسي في جباليا شماليّ غزة، مخلّفاً مئات الشهداء والجرحى. وأشارت إلى أن المجزرة أدت إلى سقوط 400 بين شهيد وجريح، وفق حصيلة أولية، مؤكدة أن العدد قد يكون أكبر، وقد يناهز عدد ضحايا مذبحة المستشفى المعمداني؛ لأن المنطقة التي قصفت كانت "مكتظة بالسكان".
وقالت وزارة الداخلية في غزة، إن مخيم جباليا تعرّض لقصف بـ6 قنابل تزن كل واحدة منها طناً من المتفجرات، وإن الاحتلال دمّر حيّاً سكنياً وسط المخيم بشكل كامل.
وقتل عشرات الفلسطينيين وأصيب آخرون، اليوم الأربعاء، في قصف إسرائيلي جديد على مخيم جباليا، شمالي قطاع غزة.