لم يكن حسن عبد الرؤوف (28 عاماً)، يهتم بالمشاركة في الأعمال التطوعية، واعتاد أن يقضي وقته في تجارته ومتابعة دوري كرة القدم الأوروبية. لكن بعد وقت قليل من اندلاع المعارك في 15 إبريل/ نيسان الماضي، ظهر ببث مباشر على صفحته الشخصية على موقع التواصل الإجتماعي "فيسبوك" في مناطق الاشتباكات بالسودان، وهو ينقل الجرحى إلى أماكن أقلّ خطراً عليهم، ويعرض صور القتلى من المدنيين حتى يتعرف ذووهم إليهم.
وفي أوّل فيديو مباشر على صفحته بعد ساعات من اندلاع المعارك، ظهر حسن بمساعدة آخرين وهو يغطي ثلاث جثث مجهولة الهوية لمدنيين على مقربة من محال تجارية. ويقول في الفيديو: "هذا ما نستطيع فعله وربنا يقدرنا على فعل الخير".
خلال الأيام التالية وأثناء استمرار القتال، كان يحدد أماكن الجثث ويصورها وينشر الصور على صفحته على "فيسبوك"، مناشداً أصدقائه بمزيد من النشر لإبلاغ عائلته. ولأن الكثير من الجثث تحلّلت في مكانها أو نهشتها الكلاب الضالة، كان الأهل يصلون إلى قتلاهم بمساعدة حسن.
ولم تسمح قوات الطرفين المتقاتلين بدخول سيارات الإسعاف أو اقتراب المسعفين من مناطق الاشتباكات. وحتى خلال توقف القتال أيام الهُدن، كان القناصة يطلقون النار على المارة من المدنيين وسط الخرطوم. لذلك، صارت الصفحة الشخصية لحسن المكان الوحيد الذي يبحث فيه المواطنون عن ذويهم المفقودين. وزاد عدد متابعيه من 6 آلاف إلى أكثر من 22 ألفاً خلال أسبوع واحد.
يقول: "درج الجنود في الأيام الأولى للقتال على إطلاق النار على المارة من المدنيين. لذلك، مات عدد كبير من الأبرياء أثناء محاولاتهم الخروج خفية من منازلهم لدى اقتراب المعارك". عمل عبد الرؤوف على تحديد الممرات الآمنة وسط القتال، واهتم بقضية العالقين في منازلهم الذين لم يتمكنوا من الفرار بعيداً عن صوت الرصاص ودوي المدافع والمصابين الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى المستشفيات. نجح في مساعدة 17 مصاباً في الوصول إلى المستشفيات في الوقت المناسب.
أحد الذين ساعدهم هو الشاعر ميرغني ديشاب (74 عاماً)، الذي بقي في غرفته داخل أحد النُزل الشعبية بالخرطوم لمدة ستة أيام من دون طعام ولا ماء ولا كهرباء، وقد عجز أهله عن الوصول إليه في تلك المنطقة الواقعة بالقرب من القيادة العامة للجيش.
ويوضح ميرغني أن حسن دخل إلى غرفته وأخرجه منها، ويقول لـ"العربي الجديد" إنه قضى حوالي أسبوع من دون طعام أو شراب وسط المعارك، وكاد أن يفارق الحياة من شدة الجوع والعطش، ولم يكن في استطاعته الخروج من مكانه لولا حسن الذي خاطر بحياته ليصل إليه. ويستغرب المواطنون عدم إخلاء الجرحى ورفع الجثث من قبل المتقاتلين، وعدم السماح بدخول سيارات الإسعاف إلى المواقع التي سقط فيها مصابون وقتلى. لهذا، كان الناس أكثر حاجة للمسعفين المتطوعين. بالتالي، ساهمت المبادرات الشخصية في إنقاذ المصابين.
من جهتها، تقول الطبيبة في مستشفى البان جديد (شرق الخرطوم)، هبة عمر، إن "الكثير من الجرحى هم من المدنيين". تضيف أن المستشفى الذي تعمل فيه ظل يستقبل الحالات المختلفة من خلال المتطوعين، مشيرة إلى أن ما يقوم به هؤلاء "عمل جبار". تتابع: "في ظل انعدام وسائل النقل وسيارات الإسعاف، يضطر المتطوعون لحمل المصابين على مركباتهم الخاصة وأحياناً على وسائل النقل التقليدية التي تجرها الأحصنة والحمير".
حسن، الذي نجا أكثر من مرة من موت محقق خلال تقديم خدماته في مختلف مواقع الاشتباكات، حاول حماية المحال التجارية والشركات من السرقة، وقد ظهر في أكثر من فيديو وهو يصد اللصوص. وساهم في إنقاذ السوق المركزي للذهب في الخرطوم من السرقة، إذ تفقده في إحدى جولاته وناشد أصحاب المحال من خلال صفحته الشخصية الحضور واسترجاع أموالهم، ونقل الذهب إلى أماكن آمنة.
لكن في 30 إبريل الماضي، وبعد ساعات قليلة من تواصل "العربي الجديد" معه، اعتقل حسن. يقول شهود عيان لـ"العربي الجديد"، إن قوات عسكرية يعتقد أنها تتبع للدعم السريع اعتقلته أثناء ذهابه مع عدد من المواطنين استعانوا به لمعرفة مكان جثة أحد أقربائهم الذي لقي حتفه برصاص طائش.
وقبل اعتقاله، قال حسن لـ"العربي الجديد"، إنه شعر بالمسؤولية حين رأى الجثث في العراء، بالإضافة إلى عدم إسعاف المصابين. لذلك، قرر العمل وحده وخصوصاً أن البعض عجز عن مغادرة منطقة وسط الخرطوم حيث مكان عمله، كما بقيت جثث على الأرض، فيما لم يجد مصابون من يسعفهم. هذه المشاهد دفعت حسن إلى عدم الذهاب إلى منزل أسرته الكائن بالقرب من المدينة الرياضية التي شهدت أولى المعارك في 15 إبريل.
جهد حسن 14 يوماً لحماية ممتلكات المواطنين وإنقاذ العالقين ونقل الجرحى إلى المستشفيات القريبة من وسط الخرطوم، وعرض صور الموتى من أجل وصول ذويهم إلى رفاتهم، إلا أنه اعتقل واقتيد إلى جهة لم تحدد بعد، الأمر الذي أثار موجة غضب لدى الشارع السوداني.
أما في منطقة بحري، التي لا تزال تشهد معاركة ضارية بين المتقاتلين، ينشط عادل إبراهيم عبد الله مع عدد من المتطوعين في توفير الطعام والشراب للأسر. ويصف الوضع بالكارثي قائلاً لـ "العربي الجديد" إن المعارك التي تدور وسط الأحياء السكنية في منطقة بحري خلّفت معاناة غير مسبوقة، وأدت إلى انقطاع التواصل بين بعض أفراد الأسر، وتسببت في إنقطاع الكهرباء والمياه.
ويُحاول عادل برفقة عدد من المتطوعين توفير احتياجات الأسر وتوزيعها عليهم في منازلهم. كذلك، عمد إلى توفير وحدات دم من خلال التبرع للمستشفيات ليتمكن من سد النقص الكبير في ظل توافد المصابين، علماً أن معمل الدم المركزي في البلاد بات تحت سيطرة أحد طرفي القتال، ويقول لـ"العربي الجديد" إنهم يعملون نهاراً في تقديم الخدمات للمواطنين. وحين يأتي الليل، يذهبون لحماية وتأمين الأحياء السكنية. وكثيراً ما تعرضوا للخطر".
من جهتها، تعزو واصلة عباس، وهي متطوعة في الهلال الأحمر السوداني، عدم نزول المتطوعين المحترفين إلى مناطق الاشتباكات لعدم تقيّد الجهات المتقاتلة بالضوابط المُلزمة لحماية المتطوعين في مثل هذه الحالات. وتصف الحرب الدائرة حالياً بالهمجية لأن أي من الطرفين لم يسمح للآخر بنقل جثث القتلى وإسعاف الجرحى. لذلك، تضج وسائل التواصل الاجتماعي بفيديوهات لكلاب وقطط تأكل جثث الموتي وسط الخرطوم.
تضيف أن العاملين في الهلال الأحمر لا يستطيعون الذهاب إلى مناطق الحرب كما يفعل حسن عبدالرؤوف وعادل إبراهيم. لكنهم في المقابل، يعملون في مناطق سكنهم والمناطق الأقل خطورة على عكس المتطوعين. ولا يلتزم طرفا القتال بالضوابط والأسس القانونية الدولية لحماية المدنيين، والمنشآت الطبية والكوادر العاملة في الحقل الصحي. وأكدت نقابة الأطباء أن عدداً من الأطباء لقوا حتفهم، كما تعرض أكثر من 15 مستشفى للقصف المباشر.
وأسفرت المعارك في الخرطوم ومناطق أخرى، خصوصاً في دارفور في الغرب، عن سقوط أكثر من 500 قتيل و5000 جريح، بحسب البيانات الرسمية التي يُعتقد أنّها أقلّ بكثير من الواقع.
من جهة أخرى، دعت منظمة "أطباء بلا حدود" في السودان جميع أطراف النزاع إلى "ضمان احترام المرافق الصحية وحمايتها"، واصفة الوضع بأنه "حرج" في البلاد. وعلى موقع "تويتر"، أكدت أن فرق الطوارئ التابعة لها "بدأت بالوصول إلى السودان لإطلاق أنشطة استجابة طارئة وإدارة الأنشطة القائمة أساساً في عدة مواقع". كما حذرت الأمم المتحدة من حدوث أزمة إنسانية في البلاد بعدما أجبرتِ المعارك نحوَ مائة ألف مواطن على الفرار إلى دول مجاورة. وتتوقع الأمم المتحدة فرار 800 ألف شخص إلى الدول المجاورة، مثل مصر وتشاد وأثيوبيا وأفريقيا الوسطى.