انتقل مئات اللبنانيين خلال الأشهر الماضية إلى جزيرة قبرص ليستقروا فيها، ولو مؤقتًا، هربًا من جحيم الأزمة في بلادهم، حيث انقطاع الكهرباء، وشحّ الوقود والأدوية، وانسداد الأفق.
بعد رحلةٍ لا تتجاوز الـ25 دقيقة، خرجت اللبنانية نانور أباشيان (30 سنة) مع زوجها وطفليهما من مطار لارنكا، قادمين من بيروت، وهم يجرّون سبع حقائب معظمها كبيرة الحجم، وقالت: "وجعي كبير لأنني تركتُ بلدي وأهلي، لكنني مجبرة على ذلك. أريد أن أربي ولدي بعزّ وكرامة، وأضمن مستقبلهما".
ويشهد لبنان أزمة اقتصادية حادة منذ نحو عامين صنّفها البنك الدولي بين الأسوأ في العالم منذ عام 1850، ويعجز اللبنانيون عن سحب أموالهم من المصارف بسبب قيود ناتجة عن شحّ السيولة، فضلا عن تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية بنسبة تفوق التسعين في المائة، وفقد كثيرون وظائفهم. في حين ينقطع التيار الكهربائي معظم ساعات اليوم، ولا يوجد مازوت في السوق لتشغيل المولدات الكهربائية. وينعكس ذلك على كل جوانب الحياة.
وغادر آلاف اللبنانيين البلاد على وقع الأزمة، واختار كثيرون منهم قبرص، وقالت السفيرة اللبنانية في قبرص، كلود الحجل، إنه منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية في لبنان ضد الطبقة السياسية، لاحظنا زيادة كبيرة في عدد الملفات العائلية التي فُتحت في السفارة، وسجلنا الزيادة الأكبر بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020.
وليست هذه المرة الأولى التي يلجأ فيها اللبنانيون بكثافة إلى قبرص، فخلال الحرب الأهلية (1975- 1990)، انتقل عدد كبير منهم إلى الجزيرة، وعاد قسم كبير منهم إلى البلد بعد انتهاء الحرب. وقالت الحجل: "في الثمانينيات، كانت هناك مائة ألف ملف عائلي سُجِّلت في السفارة".
وخلال حرب يوليو/تموز 2006، مع إسرائيل، شكلت قبرص قاعدةً خلفية للبنان، ففي ظل إقفال مطار بيروت الذي تعرض لقصف إسرائيلي، انطلقت سفن إجلاء من بيروت، ونقلت الرعايا الأجانب إلى الجزيرة، ليغادروا بعدها إلى بلدانهم، كما نقلت لبنانيين عاشوا في قبرص لفترة مؤقتة حتى انتهاء الأعمال العسكرية.
وانتقلت عائلة نانور أباشيان للعيش مؤقتاً في منزل صديق في لارنكا، بانتظار استئجار شقة قريبة من المدرسة التي سجّلت فيها ولديها، وتسابقت عشرات العائلات اللبنانية خلال الأسابيع الماضية على تسجيل أولادها في المدارس.
واضطرّ اللبناني جورج عبيد لتسجيل أبنائه الثلاثة في مدرستين مختلفتين في لارنكا، بسبب عدم توفر أماكن لهم في مدرسة واحدة. وقال الرجل الأربعيني: "لا نرى أفقاً للعام الدراسي في لبنان. المازوت غير متوفر لتشغيل المولدات، والأساتذة لن يستطيعوا ملء سياراتهم بالبنزين ليذهبوا إلى المدارس". إلا أن معاناة العائلة لا تنتهي هنا. فجورج لن يستقرّ مع زوجته وولديهما في قبرص، بحكم عمله بين لبنان وأفريقيا، إنما سيزورهم في العطل الأسبوعية.
في العاصمة نيقوسيا، تلقت المدرسة الفرنسية خصوصاً، عشرات طلبات التسجيل بسبب قرب برنامجها الدراسي من برامج المدارس الفرنكوفونية العديدة في لبنان، ولم تتمكن من تلبيتها كلها، كما أفاد لبنانيون قادمون حديثًا. وتحدث لبنانيون ومسؤولون قبارصة عن أكثر من 250 طلب تسجيل للبنانيين في المدرسة.
ملاذ آمن
وإذا كانت بعض العائلات قصدت قبرص بحثًا عن الأمان والتعليم والاستقرار، ولو المؤقت، فإن لبنانيين آخرين وجدوا فيها أيضا مكانًا للعمل والاستثمار، وقال المسؤول عن قسم التجارة والصناعة في وزارة التجارة، كونستانتينوس كارايوريبس، إن السلطات القبرصية "أطلقت مساراً سريعاً لتسجيل الشركات الأجنبية في أكتوبر الماضي، وهذه الآلية لقيت اهتماماً كبيراً من جانب شركات لبنانية، إذ تسجّلت حتى الآن سبع شركات كبيرة ومتوسطة في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ونقلت معها مائتي موظف لبناني"، وتوقّع أن يرتفع العدد بحلول آخر العام بفعل أن عائلات موظفين كثيرين ستنتقل أيضا إلى الجزيرة.
ولفتت السفيرة اللبنانية إلى أن "قبرص تساعد اللبنانيين كثيراً"، مضيفةً أنه بموجب آلية المسار السريع لمعاملات تأسيس الشركات، "أصبح الأمر يستغرق من 10 إلى 15 يوماً بدلاً من شهرين أو ثلاثة كما كان الحال في الماضي".
وشهد قطاع العقارات في الجزيرة ارتفاعاً في الطلب على شراء الشقق من جانب لبنانيين. وقال رجل الأعمال اللبناني جورج شهوان، وهو صاحب عشرات المشاريع العقارية في قبرص: "شركتنا باعت 400 شقة لعائلات لبنانية بين 2016 و2021، مائة من بينها خلال الأشهر الستة الأخيرة".
وأشار إلى أن اللبنانيين يختارون الجزيرة العضو في الاتحاد الأوروبي للاستثمار والاستقرار فيها لأنها تقدّم لهم حوافز عدة، فهي "تمنح الإقامة مدى الحياة لكل شخص يمتلك فيها عقاراً جديداً، كما أن المصارف القبرصية تسهّل معاملات الحصول على قروض للبنانيين الذين لديهم مدخول بالدولار. منذ عام 1975، شكلت قبرص ملاذاً آمناً للبنانيين، إنها قريبة وتتمتع بالأمن والاستقرار. يشعرون فيها بأنهم في بلدهم الثاني".
(فرانس برس)