ما زالت المطالبات بفتح تحقيقات في الجرائم مجهولة الفاعل والقتل خارج القانون قائمة في أوساط ليبية عديدة، ويدفع إليها ناشطون وذوو ضحايا تلك الجرائم. لكنّ اتّساع ملفاتها وتشابكها يعرقلان ملاحقتها من قبل السلطات، بالإضافة إلى ارتباطها بأطراف ما زالت تتحكّم بالمشهد السياسي بطريقة أو بأخرى. ولعلّ أبرز جوانب هذا الملف قضية المغيّبين في السجون ومصيرهم المجهول التي فتحتها السلطات الحكومية الحالية، قبل أن تنتهي جهودها إلى الجمود أيضاً. لكنّ الناشط الحقوقي الليبي نعيم معيوش يعبّر عن أمله في أن "يكون فتح هذا الملف بادرة لعودة تداوله، على الرغم من الإحباط الذي أصاب متابعيه بعد تجميده في السابق".
وقد تحرّك عدد من الناشطين وأهالي "الضحايا" في السجون بعيداً عن الأضواء ومتابعة وسائل الإعلام من خلال تقديم بلاغات أمام القضاء والمطالبة بالكشف عن مصير المغيّبين في داخل السجون. وبحسب ما يبدو، دفعت تلك المطالب والتحرّكات السلطات إلى الاستجابة النسبية لها، بحسب ما يقول معيوش لـ"العربي الجديد". وقد التقى رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، في نهاية الشهر الماضي، وزيرة العدل حليمة البوسيفي لمناقشة أوضاع السجون، بحسب ما أفاد المكتب الإعلامي للمجلس الرئاسي الذي أوضح أن اللقاء ناقش "سُبل النهوض بالعدالة الجنائية في جميع ربوع ليبيا، والعمل على تقريب التقاضي، ونقل المتّهمين من مؤسسات الإصلاح والتأهيل إلى النيابات والمحاكم". وبحسب المجلس الرئاسي، فإنّ قضية السجون ونزلائها تقع من ضمن ملف المصالحة الاجتماعية الذي يعمل على تحقيقه، مشدّداً على عمل وزارة العدل على "تمكين المحاكم والنيابات من أداء واجبها تجاه نزلاء السجون، فحقّهم في التقاضي يدعم استحقاق المصالحة الاجتماعية".
وفيما نقل المكتب الإعلامي عن وزيرة العدل تأكيدها أنّ قضايا السجناء هي من أولويات الوزارة والتعامل مع مختلف الملفات التي تختصّ بها، وذلك في إطار المصالحة وتأكيداً لقيم العدالة لدفع البلاد في طريق الاستقرار والسلام، يرى معيوش أنّ "تلك التصريحات تأتي في سياق المتغيّرات السياسية التي تستلزم إثارة الملف بين الحين والآخر لدعم موقف سياسي معيّن"، لكنّه في الوقت ذاته يشدّد على أنّها "استجابة نسبية من السلطات للضغوط المتوالية لتجديد فتح هذا الملف".
وقد أبدت حكومة الوحدة الوطنية الحالية حماسة إزاء ملف السجون وحقّ نزلائها في التقاضي، في الأسابيع الأولى من وصولها إلى الحكم، وقد أكّدت عزمها على الإفراج عن جميع المعتقلين في قضايا معيّنة، وتسهيل وصول متّهمين إلى المحاكم في قضايا أخرى، مشيرة إلى أنّها سوف تشكّل لجنة بمشاركة دولية لزيارة السجون التي تقع في خارج نطاق سلطات الحكومة وإعادة تقييم أوضاعها ونقل نزلائها إلى السجون الخاضعة لسلطتها.
لكنّ معيوش يقرّ بـ"تراجع هذه الحماسة"، لافتاً إلى أنّ "تصريحات مسؤولي الحكومة كانت تحمل حزماً وتوصيفاً لواقع السجون عندما سمّتها السجون السرية للمليشيات، قبل أن تخبو هذه الحماسة وتتراجع تلك التوصيفات والحزم في التعامل معها". من جهة أخرى، يرى معيوش أنّ "الاستقرار النسبي الذي تعيشه البلاد بعد تراجع حدّة الحروب وانتقال التنافس إلى الصعيد السياسي سوف يساعدان على فتح الملف مجدداً".
وكانت البلاد قد شهدت في الأعوام الماضية مئات عمليات الاعتقال التعسفي والخطف على نطاق واسع، شملت شرائح عديدة سياسية وقضائية إلى جانب إعلاميين وناشطين حقوقيين، على الرغم من التنديد الدولي والأممي. ووفقاً لتقارير أممية سابقة، فقد كُشف عن أكثر من ثمانية آلاف سجين في نحو ثلاثين سجناً رسمياً تخضع لسلطة الحكومات السابقة وتتوزّع في أنحاء ليبيا، مشيرة إلى أنّ أكثر من ثلثَي هؤلاء المحتجزين رهن المحاكمة من دون أيّ فصل في قضاياهم.
واليوم، يعبّر معيوش عن ارتياحه نتيجة تغيّر الأوضاع في البلاد، قائلاً إنّ "القتل أو الإخفاء كانا مصيرَي كلّ من يتحدّث في قضية السجون قبل سنوات، والآن نحن نتحدّث عن نشاط أهلي لفتح قضايا أمام المحاكم وإبلاغ أسر المفقودين عن أبنائهم المغيّبين في السجون"، ويتابع أنّ "اقتران قضية السجون بقضايا أخرى في الملف الجنائي كالمقابر الجماعية من شأنه أن يساعد على فتحها ولو بعد حين". ويكشف معيوش أنّ "عدد القضايا التي أبلغ فيها أهالي الضحايا عن مفقودين من بين أبنائهم وذويهم وصل إلى أكثر 100 قضية"، لكنّه أشار إلى أنّها "رُفعت بمعظمها أمام محاكم في غرب البلاد. ففي شرق البلاد، ما زال من المستحيل الحديث عنه في ظلّ سلطة مليشيات (اللواء المتقاعد خليفة) حفتر وقبضتها الأمنية".
في السياق نفسه، يرى عضو المجلس الأعلى للمصالحة (أهلي) فرج الفيتوري أنّ "قضية السجون باتت على وشك الإثارة في الشرق الليبي أيضاً"، لافتاً إلى "زخم في البيانات القبلية التي صدرت في صيف العام الماضي للمطالبة بالكشف عن مصير المغيّبين في سجون مليشيات حفتر". يضيف الفيتوري، متحدثاً لـ"العربي الجديد"، أنّ "ثمّة تغيّرات سياسية متعلقة بتوجّه البلاد نحو الانتخابات هي التي أجّلت اجتماعاً قبلياً على مستوى عالٍ شرقي البلاد، لتوجيه خطاب مباشر إلى حفتر للقبول بفتح التحقيق في ملف السجون".