حطّت الحرب أوزارها في ليبيا، لكنّ البلاد ما زالت تحصي آثارها، خصوصاً على الصعيد الاجتماعي الذي يظهر في شكل أكثر وضوحاً في حال النازحين الذين عاد غالبيتهم إلى بيوتهم ومناطقهم. ودفعت الحرب التي دامت سنوات وطاولت أجزاءً كبيرة من البلاد مئات السكان، إلى مغادرة منازلهم والسكن في تجمعات لإيواء نازحين كانت تضم غالباً شرائح من مدن ومناطق مختلفة. كما انتقلت أسر كثيرة من الشرق للإقامة في الغرب وبالعكس، ونزحت أخرى من الجنوب إلى الشمال لاعتبارات سياسية وأمنية.
وفيما شكلت عمليات النزوح علاقات اجتماعية جديدة، بينها صداقات أسرية، يتبادل يوسف الزطريني بعد مرور نحو عام ونصف على عودته مع أسرته إلى منزله في منطقة وادي الربيع جنوب طرابلس، زيارات أسرية مع أصدقاء جدد تعرّف إليهم في مجمعات النزوح.
يقول الزطريني لـ"العربي الجديد": "صداقاتي مع جيراني النازحين الذين عشت معهم الفترات القاسية والآلام، تشمل اليوم أيضاً أقرباءً لهم أيضاً، ويشارك فيها إخوتي وأصهرتي، ما يجعلنا نشكل حلقة تواصل واسعة ومستمرة". يضيف: "هذه العلاقات كانت جديدة، لكنها خضعت لأنماط العلاقات القبلية وقوانينها التي كانت المعيار الأساس في تشكيلها. وتقاسمت مع شركائي في النزوح الألم، وفكرنا معاً في مصير بيوتنا، ومعالجة الأمور بالتعاون مع بعضها البعض، خصوصاً في الأيام الأولى التي شهدت تلاحماً اجتماعياً واضحاً بيننا، فمن المعيب أن أترك جاري أو يتركني في حالة خوف".
ويرى يحيى جوان، وهو نازح آخر من جنوب طرابلس، أن ظروف النزوح شكلت فرصة جيدة لاكتشافه صداقات جديدة زادت تماسكاً بمرور الوقت، وتحوّلت إلى شركات في مشاريع اقتصادية خاصة. يقول لـ"العربي الجديد": "اضطررت إلى ترك منزلي ومحلاتي الثلاثة التي دمرتها الحرب نهائياً، لكن بعد عودتي إلى المنزل بدأت أستعيد نشاطي التجاري بمشاركة أحد جيراني الذي نزح من منطقة مسلاته وشاركني المصيبة ذاتها وفقد نشاطه التجاري. وبعدما اكتشفت صدقه وأمانته صرنا اليوم شركاء".
سلبيات
وفي ظاهرة مختلفة، نشأت بين النازحين علاقات مصاهرة، جلبت بحسب الباحث في الشأن الاجتماعي عبد العزيز الأوجلي، إيجابيات أحياناً لكنها تضمنت جانباً سلبياً. ويوضح لـ "العربي الجديد": "بالتأكيد حصلت بعض علاقات المصاهرة لدواعٍ اقتصادية، وبينها الطمع بمساعدة بين الأسر بعضها بعضا، في حين تأسست أخرى استناداً إلى أهداف بعيدة المدى تتجاوز فترة العيش كنازحين، ما عرّض هذه العلاقات لتفكك، رغم أن بعض الزيجات الجديدة أثمرت ولادة أطفال".
وحصل ذلك مع هدية محمود، المتحدر من تاورغاء، شرقي مصراته، إذ غادرته زوجته بعد أشهر من رجوعه إلى منزله بحجة أنها لم تستطع التكيف مع ظروفه وبيئته. ويوضح لـ"العربي الجديد": "تعرفت إلى أسرة زوجتي في طرابلس أثناء إقامتي في مجمع الفلاح للنازحين، وتزوجنا وسكنت معها في منزل. لكن حين اضطررت للرجوع إلى منطقتي في تاورغاء، رفضت البقاء وتنازلت لها عن حق رعاية أطفالي الثلاثة".
وتختلف تجربة النزوح عند محمود، فسكان تاورغاء غادروا مدينتهم بالكامل عام 2011 بسبب تأييدهم نظام معمر القذافي السابق، ثم بدأوا في الرجوع عام 2019. يعلّق محمود بأنه أرغم على معايشة واقع النزوح، والتنقل في مناطق مختلفة داخل طرابلس، ثم تزوج وبدأ مشوار تكوين أسرته، لكنه لم يتوقع رفض زوجته مرافقته لدى عودته مع أهله إلى تاورغاء التي يعترف بأنّ ظروف العيش كانت سيئة فيها، وبأن بيئة زوجته مختلفة.
ويلفت الأوجلي إلى أن "عقبة غياب قاعدة بيانات وإحصاءات للنازحين لدى السلطات تحد من قدرة أيّ دراسة على تحديد نتائج ظاهرة النزوح ورصد سلبياتها التي قد تتسبب في كوارث على المدى الطويل. وحالة محمود ليست الأولى أو الوحيدة".
تتبع النازحين
في الأول من يوليو/تموز الماضي، نظمت وزارة الدولة لشؤون المهجرين ورشة عمل ناقشت إمكانية إطلاق منظومة لتتبع حركة النزوح في ليبيا، "بهدف مساعدة المعنيين بها على تسوية أوضاعهم، وتسهيل تقديم خدمات صحية وتعليمية لهم".
يعتبر الأوجلي أن "المشروع يمثل إقراراً من الحكومة باستمرار النزوح، رغم هدوء جبهات القتال. كما يؤكد عدم امتلاك السلطات إحصاءات ثابتة لعدد النازحين، علماً أن الضغوط المتعلقة بضرورة إجراء انتخابات وطنية وقفت وراء إطلاق هذا المشروع في سبيل خلق مراكز اقتراع للنازحين، وضمهم إلى عملية التصويت". وينتقد الأوجلي "تعدي السلطات على الحقوق الأساسية للنازحين، ومحاولتها فقط الإفادة من أصواتهم في الانتخابات"، مؤكداً "أهمية تنفيذ برامج مصالحة وطنية لحل أزمة النازحين، أكانوا مهجرين من بنغازي إلى طرابلس أو من الغرب إلى بنغازي بسبب عمليات الثأر والحرب".
يضيف: "مئات من الأسر لن تستطيع العودة بلا حل جذري، ما يعني أنها ستدفع أكثر إلى إنشاء علاقات اجتماعية مشوّهة لا تستند إلى أسس الترابط الاجتماعي القائم على التقارب في العادات وأنماط التفكير والبيئة الثقافية والتكافؤ. ونؤكد أن دفع التأثيرات السلبية للفقر والعزلة والبحث عن ظروف آمنة للعيش تشكل ركائز بناء علاقات اجتماعية جديدة، لكنها لا تضمن بناء أسر على أسس متينة تحميها من التفكك".