تتّجه السلطات المحلية في ترهونة الواقعة جنوب شرق العاصمة الليبية طرابلس، إلى تنشيط الملف الجنائي لقضية المقابر الجماعية. فهل تتجاوب سلطات ليبيا الرسمية وكذلك المجتمع الدولي اللذان هما في حالة صمت إزاء هذه القضية؟ وقبل أيام، شيّع أهالي ترهونة اثنَين من ضحايا المقابر الجماعية أو رفاتَهما، هما عمار أبو زويدة وعز الدين أبو زويدة، بعد التعرّف على ما تبقّى من جثمانَيهما عن طريق تطابق نتائج تحليل البصمة الوراثية أو فحص الحمض النووي (دي إن إيه)، في حين ما زال عشرات من أهالي المدينة يترقّبون نتائج الكشف عن هويّة الرفات في ثلاجات مختبرات الدولة.
ومع انسحاب مليشيات محمد الكاني المعروفة باسم مليشيا الكانيات التي سيطرت على ترهونة منذ عام 2013 قبل أن تنضم إلى مليشيا اللواء المتقاعد خليفة حفتر، بعد انكسار الأخيرة في جنوبي طرابلس، عثر الأهالي على جثث في مقابر جماعية، ما حدا بالسلطات إلى تكليف هيئة حكومية للبحث والتعرّف إلى المفقودين. وقد تقدّم أهالي المدينة بمئات البلاغات عن أبناء مفقودين بعد إلقاء القبض عليهم من قبل مليشيا الكانيات.
ولم تُحدّث الهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين بياناتها منذ أشهر، لكنّ جمال بن رمضان المسؤول في الهيئة الحكومية يؤكد أنّ بلاغات الأهالي حول فقدان أبنائهم تجاوزت 350 بلاغاً في ترهونة. ويقول بن رمضان لـ"العربي الجديد" إنّ "المقابر التي اكتُشافت حتى نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي هي 80 مقبرة، منها 43 جماعية فيما البقيّة مقابر فردية متناثرة"، لافتاً إلى "جهود للبحث عن المزيد، وسط احتمالات مرجّحة لاكتشاف بعضها قريباً".
ويوضح بن رمضان أنّه "حتى نهاية نوفمبر الماضي، اكُتشفت 232 جثّة في المقابر، لكنّها بأكثرها ما زالت في انتظار التعرّف إلى هويات أصحابها، فيما تسلمت أكثر من عشر أسر في خلال شهر ديسمبر/ كانون الأول المنصرم رفات أبنائها بعد التأكد من هويّاتهم على أثر تطابق نتائج تحليل البصمة الوراثية".
لكنّ الجديد في قضية مقابر ترهونة هو دفع عدد من النشطاء السلطة المحلية إلى تنشيط الملف الجنائي المتعلق بالقضية، بحسب ما يشير الناشط الحقوقي في المدينة أشرف ارحومة. ويقول لـ"العربي الجديد" إنّه "في الثاني عشر من ديسمبر ، بدأ مكتب التحقيقات في المباحث الجنائية التابع لبلدية ترهونة باستقبال عدد من شكاوى أهالي الضحايا"، وقد استمر ذلك لمدّة أسبوع على أن تبدأ التحقيقات. وقد طلب المكتب من أهالي الضحايا التوجّه إلى مقرّه في المدينة للإدلاء بأقوالهم بهدف "بدء التحقيقات الفعلية وملاحقة المتورّطين"، مؤكداً أنّه سوف يقدّم المساعدة إلى أسر الضحايا التي تشكو من ضياع محاضر جمع الاستدلالات في المراكز والنيابات القضائية.
ويوضح ارحومة أنّ "الخطوة الجديدة في اتّجاه بدء التحقيقات تأتي كإجراء للضغط على السلطات من خلال فرض قضية التحقيق كأمر واقع عليها"، مشيراً إلى أنّ "انتظار السلطات الرسمية في البلاد للتجاوب مع القضيّة سوف يطول، في حال لم يبادر الأهالي بإشهار القضية والضغط في اتجّاه نقلها إلى مراحل متقدّمة".
وفي التجاوب الأوّل من نوعه، بحسب ما يبدو، من قبل السلطات الليبية، أصدرت محكمة طرابلس العسكرية قبل أيام حكماً على المتهم مصباح الشارف، أحد عناصر مليشيا الكانيات، يقضي بالسجن لمدّة ستة أعوام ونصف عام بسبب مشاركته في التحريض على قتل خمسة مدنيين على يد مليشيا الكانيات.
وتُعَدّ هذه القضية الأولى التي نُظر فيها أمام المحاكم ووصلت إلى مرحلة النطق بالحكم. لكنّ ارحومة يشير إلى أنّ "رابطة ضحايا ترهونة سوف تطعن في الحكم وسوف تقدّم مستندات تؤكّد تورّط الشارف في المساهمة بعمليات القتل بشكل مباشر وليس في التحريض عليه فقط". وفي حين يرى ارحومة أنّ "الحكم غير كاف ولا ينصف أهالي الضحايا"، إلا أنّه يصنّف بلوغ مرحلة النطق بالحكم "خطوة إيجابية"، لافتاً إلى أنّ "جلسة المتهم أُجّلت ثلاث مرات وسط مماطلات من قبل المحاكم التي ما زالت تعدّ القضية جدلية ولا ترغب في التورّط في الاشتباكات والصراعات السياسية الحاصلة في البلاد".
تجدر الإشارة إلى أنّه في ديسمبر المنصرم، أعلن اللواء 444 التابع لوزارة الدفاع في حكومة الوحدة الوطنية، إلقاء القبض على "أحد أهمّ المطلوبين" المتورطين في المقابر الجماعية بمدينة ترهونة، مؤكداً أنّ الذي أُلقي القبض عليه تابع لمليشيا الكانيات المسؤولة عن جرائم المقابر. وأوضح اللواء، في بيان له، أنّه تمّ القبض على جمعة الخالقي المتورّط في جريمة المقابر والذي كان مختبئاً في أحد البيوت في حيّ أبو سليم بالعاصمة طرابلس، بعد الاستدلال عليه في أثناء تجوّله متنكراً وحاملاً بطاقة شخصية ورخصة قيادة مزوّرتَين. وبينما لم تعلن الجهات الأمنية والقضائية بعد عن مصير الخالقي، يراها ارحومة "خطوة مهمة في سياق تفعيل قضية المقابر الجماعية للضغط على السلطات".